الخطبة الأولى:
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسوله الأمين..
أما بعد..
أيها المؤمنون أوصيكم بتقوى الله - تعالى -في السر والعلن، والغيب والشهادة فإن تقوى الله - تعالى -أكرم ما أسررتم وأزين ما أظهرتم وأفضل ما ادخرتم وخير ما تزودتم \"وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيرَ الزَّادِ التَّقوَى\"(1).
عباد الله: إن تقوى الله - جل وعلا - حقيقتها العمل بطاعة الله - تعالى - إيماناً واحتساباً أمراً ونهياً فالتقي يا عباد الله هو من يفعل ما أمر الله به إيماناً بالله وتصديقاً بوعده وهو من ترك ما نهى الله عنه إيماناً بالله وخوفاً من عقابه والتقوى: هي التزام ما أمر الله وترك ما نهى الله عنه رجاء ثوابه وخوفاً من عقابه فتقوى الله - جل وعلا - ليست شعوراً فارغاً جامداً لا أثر له ولا ثمر بل هي مراقبة الله - تعالى -في السر والعلن قال عمر بن عبد العزيز: ليس تقوى الله بصيام النهار وقيام الليل والتخليط فيما بين ذلك.
أيها المؤمنون: إن للتقوى صفاتٍ, وخصالاً وسمات وآداباً جعلها الله - سبحانه وتعالى - دلائل على أهلها وعلامات يهتدى بها، تجمع أصول الاعتقاد وفضائل الشيم ومحاسن الأعمال وطيّب الخصال فمن تلك الصفات قول الله - جل وعلا -: \"ألم. ذَلِكَ الكِتَابُ لا رَيبَ فِيهِ هُدىً لِلمُتَّقِينَ\"(2) ثم وصفهم - سبحانه وتعالى - فقال: \"الَّذِينَ يُؤمِنُونَ بِالغَيبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقنَاهُم يُنفِقُونَ. وَالَّذِينَ يُؤمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُم يُوقِنُونَ\"(3). ومن صفات المتقين قوله - تعالى -: \"لَيسَ البِرَّ أَن تُوَلٌّوا وُجُوهَكُم قِبَلَ المَشرِقِ وَالمَغرِبِ وَلَكِنَّ البِرَّ مَن آمَنَ بِاللَّهِ وَاليَومِ الآخِرِ وَالمَلائِكَةِ وَالكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى المَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي القُربَى وَاليَتَامَى وَالمَسَاكِينَ وَابنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالمُوفُونَ بِعَهدِهِم إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي البَأسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ البَأسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ المُتَّقُونَ\"(4).
أيها المؤمنون: إن من أبرز صفات المتقين إخلاص العبادة لله - تعالى - وحده لا شريك له: \"وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعبُدُوا اللَّهَ مُخلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ القَيِّمَةِ\"(5) قال - تعالى -في وصف عباده وأوليائه: \"وَالَّذِينَ لا يَدعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ\"(6) فحبهم وخوفهم ورجاؤهم وعبادتهم كلها لله وحده لا شريك له.
عباد الله إن من صفات عباد الله المتقين أنهم إذا مسهم طائف من الشيطان فقصروا في الطاعات أو انتهكوا شيئاً من المحرمات تذكروا فإذا هم مبصرون فلا إصرار على الخطأ ولا مضي في الغي بل إذا زلوا تابوا و إلى ربهم أنابوا كما قال - تعالى -: \"إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوا إِذَا مَسَّهُم طَائِفٌ مِنَ الشَّيطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُم مُبصِرُونَ\"(7) وقال - تعالى -في وصفهم: \"وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَو ظَلَمُوا أَنفُسَهُم ذَكَرُوا اللَّهَ فَاستَغفَرُوا لِذُنُوبِهِم وَمَن يَغفِرُ الذٌّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَم يُصِرٌّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُم يَعلَمُونَ\"(8).
أيها المؤمنون: إن من صفات المتقين تعظيم شعائر الله أي تعظيم حدوده وشرائعه وأحكامه قال الله - تعالى -: \"ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّم شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقوَى القُلُوبِ\"(9) فالمتقون يعظمون طاعة الله وأوامره فيحملهم ذلك على طاعته واتباع شرعه ويعظمون نهيه فيمنعهم ذلك من معصيته ومخالفة أمره.
أيها المؤمنون: ومن صفات المتقين العفو عن المخطئين والإعراض عن الجاهلين والصفحَ عن المسيئين قال الله - تعالى -: \"وَأَن تَعفُوا أَقرَبُ لِلتَّقوَى\"(10) وقال - تعالى -: \"وَإِذَا مَرٌّوا بِاللَّغوِ مَرٌّوا كِرَاماً\"(11) وقال: \"وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً\"(12).
ومن صفات المتقين العدل في الأمر كله فهم عادلون في أقوالهم وأعمالهم وأهلهم وحكمهم وما ولوا، عدل مع القريب والبعيد والصديق والعدو والمسلم والكافر قال الله - تعالى -: \"وَلا يَجرِمَنَّكُم شَنَآنُ قَومٍ, عَلَى أَلَّا تَعدِلُوا اعدِلُوا هُوَ أَقرَبُ لِلتَّقوَى\"(13).
ومن صفات المتقين أيضاً الصدق في الأقوال والأعمال فإن الصدق يهدي إلى البر والبر يهدي إلى الجنة قال - تعالى -: \"يَا أَيٌّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ\"(14) ومن صفاتهم ترك الشبهات والملتبسات التي لم يتضح أمرها هل هي حلال أو حرام فعن ابن عمر قال: لا يبلغ العبد حقيقة التقوى حتى يدع ما حاك في الصدر فلا يبلغ العبد أن يكون من المتقين حتى يدع ما لا بأس به حذراً مما به بأس.
فالمتقون يتورعـون عن الشبهات بتركـها فإنه ((من اتقى الشبهات فقـد استبرأ لدينه وعرضه))(15) أي: سلم له دينه وعرضه وحمله ذلك على ترك ظاهر الإثم وباطنه ففي الصحيحين قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((فمن ترك ما يشتبه عليه من الإثم كان لما استبان اترك))(16).
عباد الله هذه بعض صفات المتقين الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون فأستغفر الله الذي لا إله إلا هو من وصف حالهم وعدم الأخذ بأعمالهم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله الذي عمر بتقواه قلوب المتقين وجعل تقواه سبيل النجاة للأولين والآخرين وبعد فإن تقوى الله أيها المؤمنون إذا استقرت في القلوب وارتسمت بها الأقوال والأعمال أثمرت أحسن الثمار وأعقبت أطيب الآثار في الدنيا وفي الآخرة دار القرار.
فمن فوائدها يا عباد الله أنها سبب لتيسير العسير قال - تعالى -: \"وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجعَل لَهُ مِن أَمرِهِ يُسراً\"(17) وتقوى الله - تعالى -سبب لتفريج الكروب وإيجاد المخارج والحلول عند اشتباك الخطوب وهي سبب لفتح سبل الاكتساب والارتزاق قال الله - تعالى -: \"وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجعَل لَهُ مَخرَجاً. وَيَرزُقهُ مِن حَيثُ لا يَحتَسِبُ\"(18).
أيها المؤمنون: إن من فوائد تقوى الله الفوز بمعية الرحيم الرحمنº معية نصر وحفظ وتمكين \"إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوا وَالَّذِينَ هُم مُحسِنُونَ\"(19) ومن فوائدها أنها سبب للسلامة والنجاة من كيد الفجار ومكر الكفار قال - تعالى -: \"إِن تَمسَسكُم حَسَنَةٌ تَسُؤهُم وَإِن تُصِبكُم سَيِّئَةٌ يَفرَحُوا بِهَا وَإِن تَصبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرٌّكُم كَيدُهُم شَيئاً إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعمَلُونَ مُحِيطٌ\"(20).
ومن فوائد تقوى الله - جل وعلا - أن الله يعطي بها العبد نوراً يميز به الحق عن الباطل فهي فرقان يضـيء المسالك والـدروب قال الله - تعالى -: \"يَا أَيٌّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَتَّقُوا اللَّهَ يَجعَل لَكُم فُرقَاناً\"(21).
أيها المؤمنون اتقوا الله - تعالى - فإن تقوى الله سبب لتعظيم الأجور ومضاعفتها وتكفير السيئات ورفع عواقبها قال - تعالى -: \"يَا أَيٌّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤتِكُم كِفلَينِ مِن رَحمَتِهِ وَيَجعَل لَكُم نُوراً تَمشُونَ بِهِ وَيَغفِر لَكُم وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ\"(22) وقال - تعالى -: \"وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّر عَنهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعظِم لَهُ أَجراً\"(23).
----------------------------------------
(1) سورة: البقرة: آية (197).
(2) سورة: البقرة: آية (2).
(3) سورة: البقرة: آية (3ـ4).
(4) سورة: البقرة: آية (177).
(5) سورة: البينة: آية (5).
(6) سورة: الفرقان: آية (68).
(7) سورة: الأعراف: آية (201).
(8) سورة: آل عمران: آية (135).
(9) سورة: الحج: آية (32).
(10) سورة: البقرة: آية (237).
(11) سورة: الفرقان: آية (72).
(12) سورة الفرقان: آية (63).
(13) سورة: المائدة: آية (8).
(14) سورة: التوبة: آية (119).
(15) البخاري (52)، مسلم (1599).
(16) هو جزء من حديث النعمان السابق تخريجه وهذه الزيادة عند البخاري (2051).
(17) سورة: الطلاق: آية (4).
(18) سورة الطلاق: آية (2 ـ3).
(19) سورة: النحل: آية (122).
(20) سورة: آل عمران: آية (121).
(21) سورة: الأنفال: آية (29).
(22) سورة: الحديد: آية (28).
(23) سورة:الطلاق: آية (5).
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد