ماذا تحتسبين في العفو عن الناس ؟


بسم الله الرحمن الرحيم

 

قال الشافعي - رحمه الله -:

قالوا سكت وقد خوصمت قلت لهم *** إن الجواب لباب الشر مفتاح

فالعفو عن جاهل أو أحمق أدب *** نعم وفيه لصون العرض إصلاح

إن الأسود لتخشى وهي صامته *** والكلب يحثى ويرمى وهو نباح

في رحلة الحياة ربما تعرضت لإساءات متكررة من بعضهم.. رميت بسهم الكلمة.. أحرقت بشرارة تلك النظرة...

أوذيت في أهلك.. في عرضك... بل في دينك! فبعض الناس مبتلي بتصنيف عقائد الناس حسب الأهواء وبأكبر قدر من الجهل المركب!!...

ممن أتاك الأذى؟ أمن اليهودية؟ أم من نصرانية؟ وا حسرتاه... إنه من (........)!

ويكون الجرح عميقاً بعمق البحار إذا كانت تلك الرمية ممن تتوسمين فيها الخير! إن جرحك غائر وينزف بغزارة... فلا بد أن تفعلي شيئاً لتوقفي تلك الدماء... لتبدئي من جديد... أنظري من حولك لتبدئي... قد تفاجئين بجيوش من البشر تشجعك على الظلم والبطش ورد الصاع صاعين، ستشعرين عندها بالقوة والتمكن فالحق معك... ولكنك... تتذكرين قدرة الله عليك... فيعظم العفو عندك رجاء عظم الثوب... فترددين: \" إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم آجرني في مصيبتي واخلف لي خيراً منها \" وترفعين يديك بالدعاء للطيف الخبير... للسميع القريب... أن يفرج همك، وأن يعفو عمن ظلمك، وعمن تخلى عنك وهو يملك نصرتك سامحهم الله وتشهدين الله على عفوك عن الجميع ابتغاء وجهه الكريم...

يا لطيفة الخصال...

أنت لا تعيشين في الدنيا وحدك، بل هناك أشخاص كثيرون حولك تشكلين معهم مجتمعك الذي تعيشين فيه، ولا شك أن احتكاكك بالناس سيتولد منه بعض التصادمات، في الآراء... في الأخلاق... في الطباع والعادات.... أو نتيجة سوء فهم منك أو من الطرف الآخر... أو ربما توضعين رغما عنك في موقف تكرهينه! وهذه كلها أمور عادية... أكرر عادية! تفرضها علينا طبيعة التجمع البشري فأنت تعلمين أن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: {إن الشيطان يجري في ابن آدم مجرى الدم في العروق} صحيح البخاري.

فلا بد أن توطني نفسك على مواجهة مثل هذه المواقف وتحملها.... نعم تحمليها، وكيفي نفسك على التحكم والسيطرة على انفعالاتك حسب ما يمليه عليك دينك، ثم توجي ذلك كله بالعفو.... العفو... العفو.... ستفعلين ذلك يا طيبة لأن بروق الإيمان تسطع في قلبك بقوة...

تأكدي أنك لن تقدري على العفو الحقيقي إلا إذا احتسبت:

1- عمرك كله تدعين الله أن يغفر لك.. لقد أتتك المغفرة فلا ترديها!... قال الله - تعالى -: {وَليَعفُوا وَليَصفَحُوا أَلَا تُحِبٌّونَ أَن يَغفِرَ اللَّهُ لَكُم وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} فاصفحي أخية رجاء أن يغفر لك الغفور الرحيم...

2- افعلي ذلك لوجه الله... واقهري أول أعدائك الشيطان... فإن عفوك عمن أساء إليك يؤلمه أشد الإيلام لما يترتب على فعلك هذا من الأجر العظيم جداً... جداً. قال - تعالى -: {فَمَن عَفَا وَأَصلَحَ فَأَجرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبٌّ الظَّالِمِينَ}.

يا إلهي!... هل تدركين معنى {فَأَجرُهُ عَلَى اللَّهِ}؟...

إن أجرك لن يأتيك من وزير... ولا من أمير... ولا حتى من ملك مطاع!

بل سيأتيك من ملك الملوك - سبحانه -... فماذا تريدين أفضل من ذلك؟! وقد تكفل الله بأجرك وضمنه لك!...

3- العفو هو طريقك إلى.. \"الحظ العظيم \"...

قال الله - تعالى -: {وَلَا تَستَوِي الحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادفَع بِالَّتِي هِيَ أَحسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَينَكَ وَبَينَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيُّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ, عَظِيمٍ,}. \" أي ادفع السيئة إذا جاءتك من المسيء بأحسن ما يمكن دفعهاً به الحسنات ومنه مقابلة الإساءة بالإحسان والذنب بالعفو، والغضب بالصبر، والإغضاء عن الهفوات، والاحتمال للمكروهات.

وقال مجاهد وعطاء: بالتي هي أحسن: يعني بالسلام إذا لقي من يعاديه، وقيل بالمصافحة عند التلاقي {فَإِذَا الَّذِي بَينَكَ وَبَينَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيُّ حَمِيمٌ} هذه هي الفائدة الحاصلة من الدفع بالتي هي أحسن، والمعنى: انك إذا فعلت ذلك صار العدو كالصديق. {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا} قال الزجاج: ما يلقى هذه الفعلة وهذه الحالة، وهي دفع السيئة بالحسنة إلا الذين صبروا على كظم الغيظ واحتمال المكروه {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ, عَظِيمٍ,} في الثواب والخير. وقال قتادة: الحظ العظيم الجنة \". ينظر فتح القدير

4- احتسبي ثواب الإقتداء بالله - سبحانه -، \" والعفو صفة من صفات الله وهو الذي يتجاوز عن المعاصي، وحظ العبد من ذلك لا يخفى وهو أن يعفو عن كل من ظلمه بل يحسن إليه كما يرى الله محسنا في الدنيا إلى العصاة غير معاجل لهم بالعقوبة \". قال الله - تعالى -: {إِن تُبدُوا خَيرًا أَو تُخفُوهُ أَو تَعفُوا عَن سُوَءٍ, فَإِنَّ اللّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا}. {فَإِنَّ اللّهَ كَانَ عَفُوًّا} عن عباده {قَدِيرًا} على الانتقام منهم بما كسبت أيديهم فاقتدوا به - سبحانه - فإنه يعفو مع القدرة \".

5- أجر الإقتداء بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، والأنبياء جميعاً في عفوهم عمن ظلموهم وأساءوا إليهم مع قدرتهم عليهم.. فهؤلاء خيرة البشر يتركون العقوبة لوجه الله!... فمن نحن حتى نتعالى عن العفو ونعتبره ذلة ومهانة في حقنا؟!.. طبعا هذا إذا كان العفو في مكانه المناسب.

6- احتسبي بعفوك عن المسلمين أن تكوني ممن يدرءون بالحسنة السيئة لتنالي جنات عدن، قال الله - تعالى -: {وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابتِغَاء وَجهِ رَبِّهِم وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقنَاهُم سِرًّا وَعَلاَنِيَةً وَيَدرَؤُونَ بِالحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُم عُقبَى الدَّارِ {22} جَنَّاتُ عَدنٍ, يَدخُلُونَهَا وَمَن صَلَحَ مِن آبَائِهِم وَأَزوَاجِهِم وَذُرِّيَّاتِهِم وَالمَلاَئِكَةُ يَدخُلُونَ عَلَيهِم مِّن كُلِّ بَابٍ, {23} سَلاَمٌ عَلَيكُم بِمَا صَبَرتُم فَنِعمَ عُقبَى الدَّارِ} \"

{أُولَئِكَ} إلى الموصوفين بالصفات المتقدمة.

{لَهُم عُقبَى الدَّارِ} والمراد بالدار الدنيا، وعقباها الجنة {جَنَّاتُ عَدنٍ,} العدن أصله الإقامة. {وَمَن صَلَحَ مِن آبَائِهِم} يشمل الآباء والأمهات {وَأَزوَاجِهِم وَذُرِّيَّاتِهِم} أي ويدخلها أزواجهم وذرياتهم، وذكر الصلاح دليل على أنه لا يدخل الجنة إلا من كان كذلك من قرابات أولئك، ولا ينفع مجرد كونه من الآباء أو الأزواج أو الذرية بدون صلاح {وَالمَلاَئِكَةُ يَدخُلُونَ عَلَيهِم مِّن كُلِّ بَابٍ,} أي من جميع أبواب المنازل التي يسكنونها.

{سَلاَمٌ عَلَيكُم} أي قائلين سلام عليكم أي سلمتم من الآفات أو دامت لكم السلامة {بِمَا صَبَرتُم} أي بسبب صبركم {فَنِعمَ عُقبَى الدَّارِ} جاء - سبحانه - بهذه الجملة المتضمنة لمدح ما أعطاهم من عقبى الدار المتقدم ذكرها للترغيب والتشويق \".

إيه يا عظيمة الحظ...

عندما عفوت عن الآخرين قمت بعبادات كثيرة... وصلت ما أمر الله به أن يوصل إن كان من عفوت عنه ذا رحم... عفوك علامة على خشيتك لله وهذه عبادة عظيمة تدل على عبادة الخوف من الله...

كذلك الصبر على الإساءة... والصبر على العفو نفسه يرفعك المنازل العالية... وبهذا أصبحت ممن يدرءون بالحسنة السيئة وهذه عبادة جليلة فأبشري وأملي...

7- إن عفوك عمن ظلمك إحسان منك إلى مسلم ترجين به إحسان الله إليك... قال الله - تعالى -: {هَل جَزَاء الإِحسَانِ إِلَّا الإِحسَانُ}... \" ومعاملة الله له من جنس عمله، فإن من عفا عن عباد الله عفا الله عنه \".

8- ألا يفوتك فضل الله يوم الاثنين والخميس...

قال - صلى الله عليه وسلم -: (تفتح أبواب الجنة يوم الاثنين، ويوم الخميس فيغفر لكل عبد لا يشرك بالله شيئاً إلا رجلاً كانت بينه وبين أخيه شحناء، فيقال: أنظروا هذين حتى يصطلحا. أنظروا هذين حتى يصطلحا) رواه مسلم.

وأسألك بالله ما الذي يستحق في هذه الدنيا أن تحرمي نفسك من مغفرة الله لأجله؟ !...

9- أن يحبك الله وهذه من أغلى الأماني...

قال الله - تعالى -: {فَاعفُ عَنهُم وَاصفَح إِنَّ اللّهَ يُحِبٌّ المُحسِنِينَ} ومن أحبه الله أحبته الملائكة وأحبه الناس...

10- احتسبي أن يزيدك الله عزاً ورفعة، إما في الدنيا وإما في الآخرة أو فيهما معا...

قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: \" وما زاد الله عبدا بعفوا إلا عزا، وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله \" رواه مسلم. وهل هناك أفضل ممن تواضعت لله فعفت عمن ظلمها. إن العفو ليشمل التواضع كل التواضع.. فهنيئا لك العز والرفعة..

قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: \" كل الناس مني في حل \"

قال عمر بن عبدالعزيز - رحمه الله -: \" إنك إن تلقى الله ومظلمتك كما هي، خير لك من أن تلقاه وقد اقتصصتها \"

 

الآن... فكري وبهدوء قبل أن تقرري عدم العفو!

 

المصدر كتاب

 كيف تحتسبين الأجر في حياتك اليومية؟

تقديم فضيلة الشيخ / د.عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين

تأليف / هناء بنت عبد العزيز الصنيع

 

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply