أيها المؤتمرون: وفي سبيل الائتلاف بين المسلمين أرشدَ العلماءُ إلى عددٍ, من القواعد والآداب لا بدَّ من مراعاتها والوقوف عندها، ومنها:
1- أنهم لا يُخرجون مسلماً من الملّة إلا بتوفّر الشروط وانتفاء الموانع.
2- ويرون أن الخطأ في الحكم بالإيمان أهونُ من الحكم بالكفر.
3- وهم يتحفظون ويحتاطون أكثر عند تكفير فردٍ, بعينه أو لعنه.
4- بل ولا يتسرعون في التكفير، وإن خطَّئوا بدَّعوا أو فَسَّقوا.
5- وفي مسائل الاجتهاد يرونَ أنه لا تأثيم ولا هُجران.
6- وإذا لزمَ الهجرُ، فإنما هو للتأديب لا للإتلاف، وللشفاء لا للقتل.
7- وهم يرون الأخذَ بالظاهر، والله يتولى السرائر، ويرون إجراءَ الأحكام على ظاهر الناس لا على القناعات القلبية، وفي هذا يقول الشاطبيٌّ - رحمه الله -: \"فإنَّ سيد البشر - صلى الله عليه وسلم - مع إعلامه بالوحي يُجري الأمورَ على ظواهرها في المنافقين وغيرهم، وإن علِمَ بواطنَ أحوالهم\" [1].
ومما يعينُ على الإنصاف ويحقق الائتلاف، ألاّ يكون الموالاةُ والمعاداةُ خاضعةً للانتماء والحزبية الضيِّقة والطائفة والقرابةِ والهوى، بل تكون الموالاة للحق ومع أهل الحق..والمعاداة للباطل وأهل الباطل..مهما كان قربُهم وبعدُهم وانتماؤهم، وهنا يُنبِّه ابنُ تيمية على صنف يغضبونَ أو يَرضون لا بقصد أن تكون كلمةُ الله العليا، وأن يكون الدينُ كلٌّ لله، بل يغضبون على كلِّ من خالفهم، وإن كان مجتهداً معذوراً - لا يغضب الله عليه - ويرضون عمن كان يوافقهم، وإن كان جاهلاً سيِّء القصد، فيفضي هذا إلى أن يحمدوا من لم يحمده الله ورسولُه، ويذموا من لم يذمَّه الله ورسـوله، وتصير موالاتهم ومعاداتهم على أهواءِ أنفسهم، لا على دين الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - [2].
إن من أخطائنا - أننا نسرف في الثناء على من أحببنا - أو نُسرفُ في الذمِّ، بل الهجوم أحياناً على من أبغضنا وخالفنا، وقد يكون لهذا الذي أحببنا أخطاءُ ونغضٌّ الطرف عنها، وقد يكون لهذا الذي أبغضنا حسناتٌ وإيجابياتٌ غَبطناه حقَّه فيها ولم ننصفه في ذكرها، والوسطية منزلةٌ بين الغلوِّ والجفاء، ولهذا قال العلماء: \"وإذا اجتمع في الرجل الواحد خيرٌ وشرُّ وفجورٌ وطاعة، وسنةٌ وبدعة، استحق من الموالاةِ والثواب بقدر ما فيه من الخير، واستحق من المعاداة والعقاب بحسب ما فيه من الشر، فيجتمع في الشخص الواحد موجباتُ الإكرام والإهانة، فيجتمعُ له من هذا وهذا كاللص الفقير تُقطع يده لسرقته، ويُعطى من بيت المال ما يكفيه لحاجته\" [3].
أيها العلماء والدعاة وطلبة العلم: وأنتم قدوةٌ لغيركم في تحقيق الائتلاف وردمِ فجواتِ الاختلاف وآثارها السيئة، وإذا كان الخلافُ وارداً في بعض مسائل العلم، وفي عددٍ, من الاجتهادات والأمور الفرعية فينبغي أن يبقى حبلُ الودِّ متصلاً، فالخلاف في الرأي لا يفسدُ للودِّ قضية - كما يقال - وإذا كان الصحابة -رضوان الله عليهم- قد اختلفوا في بعض المسائل الاجتهادية فميزتهم أنهم كانوا مع ذلك أهلَ مودةٍ, وتناصح، ومع تنازعهم في مسائل علميةٍ, اعتقاديه إلا أنهم حافظوا على بقاء الجماعةِ والألفة، كما قرر ذلك العلماء كالشاطبي وابن تيمية وغيرهم [4].
ومما ينبغي التفطن له ألا يُظن أن الاختلاف بين العلماء في بعض المسائل مؤشرٌ للشرور والفساد، بل قد يكون الاختلاف رحمةً وتوسعة، ومن فقه عمر بن عبد العزيز - رحمه الله - قوله: \"ما يسرٌّني أن أصحابَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يختلفوا، لأنهم إذا اجتمعوا على قولٍ, فخالفهم رجل كان ضالاً، وإذا اختلفوا فأخذ رجلٌ بقول هذا، ورجلٌ بقول هذا كان في الأمر سعةٌ\" [5].
ونقل ابن تيمية أن رجلاً صنف كتاباً سماه \"كتاب الاختلاف\" فقال الإمام أحمدُ: سمِّه \"كتاب السعة\" [6].
ومع ذلك كلِّه فعلى العلماء والدعاة وطلبة العلم والوعاظ والمربين أن يسعوا إلى التأليف واجتماع الكلمة، ولو كان ذلك بترك فعل المستحبات- أحياناً- إذ أن مصلحة التأليف وجمعَ القلوب أولى وأعظمُ من فعل المستحبِّ أحياناً، وفي هذا يقول شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: \"ويستحبٌّ للرجل أن يقصد إلى تأليف القلوب بترك هذه المستحبات، لأن مصلحة التأليف في الدين أعظمُ من مصلحة فعل مثل هذا، كما ترك النبيٌّ - صلى الله عليه وسلم - تغييرَ بناءِ البيت، لما في إبقائه من تأليف القلوب، وكما أنكر ابنُ مسعود - رضي الله عنه - على عثمان - رضي الله عنه -، إتمام الصلاة في السفر ثم صلى خلفه مُتماً، وقال: الخلافُ شرٌ\" [7].
وليس فقيهاً من فرَّق المسلمين بفعل سنةٍ,، لأنه أخل بواجبٍ,، ولهذا كان الشيخ - رحمه الله - يرشد الأئمة إلى جمع كلمة الجماعة ولو تنازل عن بعض ما يراه ويقول: \"ولو كان الإمام يرى استحباب الشيء والمأمومون لا يستحبونه، فتركه لأجل الاتفاق والائتلاف كان قد أحسن\" [8].
ومن قواعد الائتلاف استيعابُ المخالف، واستمالته للحقِّ بهدوء العبارة وحُسن المجادلة، وفتح الفرص المناسبة للحوار البنّاء، والوصول إلى نتائج طيبةٍ,، أجل إن الله - عز وجل - وجّه رسوله - صلى الله عليه وسلم - في الحوار مع المشركين أن يقول لهم: ((وَإِنَّا أَو إِيَّاكُم لَعَلَى هُدىً أَو فِي ضَلالٍ, مُبِينٍ,)) (سـبأ: من الآية24).
فالرسول - صلى الله عليه وسلم - على يقين أن ما عليه هو الحقٌّ، وما عليه المشركون باطلٌ ولكنه أسلوبٌ من أساليب الحوار يُستمال به الخصمُ للحقِّ، ولا يقطع الطريقَ عليه لأول وهلةٍ,..
وإذا أخطأنا في أساليب الحوار مع إخواننا المسلمين، ولم نُعطِ أيَّ فرصةٍ, لإبداء وجهة نظر الطرف الآخر، فعلينا أن نقرأ في السيرة النبوية وسنجدُ فيها أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يحاور رمزاً من رموز الجاهلية ووتداً من أوتادِ قريش قال له: ((قل يا أبا الوليد اسمع)) ولا يبادره بسهام الحقّ - وهو الأعلى - حتى يقولَ له: ((أفرغتَ يا أبا الوليد؟ )) إنه ليس ضعفاً ولا تزلفاً ولا نفاقاً، وإنما الرغبةُ في استمالته ودعوته للحق.. وقد كان شيءٌ من هذا.. ودخل في نفس الوليد شيءٌ من عظمة محمد - صلى الله عليه وسلم - وعظمة القرآن، حتى قالت قريش: والله لقد جاءكم الوليدُ بغير الوجهِ الذي ذهب به..
إنها ملَكةُ الحكمةِ في الدعوة، والمهارةُ في الحوار، والقدرةُ على الإقناع، وليست سفسطة، ولا جدلاً عميقاً، أو ترفاً فكرياً، ففرقٌ بين هذا وذاك!
ومما يعين على الائتلاف التحذيرُ من الباطل دون التصريح بالمبطلين، إلا إذا دعتِ الحالُ للتصريحº ذلك أن التعريف بالضلال تعرية لأهله، وقد يعودُ صاحب الضلال إلى الحقِّ إذا لم يُشهِّر به، والعلماءُ يقولون: ليس كلّ ما يُعلم مما هو حقٌّ يُطلبُ نشرُه.. لا سيما إن كان نشرُه يثير فتنةً.
ومن سبل التأليف مخاطبة الناس بما ينفعهم وعلى قدر عقولهم وفي هذا يقول عليُّ - رضي الله عنه -: ((حدِّثوا الناس بما يعرفون، ودعوا ما ينكرونَ، أتحبون أن يُكذَّب الله ورسوله)).
وعن ابن مسعود - رضي الله عنه -: ((ما من رجل يُحدِّثُ قوماً حديثاً لا تبلغه عقولهم إلا كان فتنةً لبعضهم)).
ويُعدد الغزالي من وظائف المعلم المرشد: أن يقتصر بالمتعلِّم على قدر فهمِه، فلا يُلقي إليه ما لا يبلغُه عقلُه فينفِّره، وكذلك قيل: كِل لكلِّ عبدٍ, بمعيار عقله، وزن له بميزان فهمه، حتى تسلم منه، وينتفع بك، وإلا وقع الإنكارُ لتفاوت المعيار [9].
على أن مما يوقع في الفرقة والخلاف التعالمُ والتبجحُ بذكر المسائل العلمية لمن ليس من أهلها، أو ذكرُ كبار المسائل لمن لا يحتملُ عقلهُ إلا صغارها، فمثلُ هذا يوقعُ في مصائب ونفرةٍ, وخلافٍ,º كما قرر أهل العلم [10]، فليحذر منه.
ومن قواعد الائتلاف الإنصافُ بالموازنة بين المصالح والمفاسد، فإسلامُ كافرٍ, على يد مبتدع أولى من بقاءِ الكافر على كفره وتوبةُ فاجرٍ, بسماعه أحاديث ضعيفة خيرٌ من بقائه على فجوره.
والصلاة خلف المبتدع أولى من ترك الجماعة، بل يُستعان بالمبتدعة في تحصيل واجب عظيم، وتحتملُ مفسدةُ بدعتهم، وكذلك أخذ السلف بعض الأحاديث عن أهل بدعة القدر في البصرة حين لم يجدوها عند غيرهم من أهل السنة، بعد موازنتهم بين هجر الرواية عنهم زجراً لهم عن بدعتهم وبين مصلحة حفظ السّنة، وقررَ هذا ابن تيمية بقوله: \"فلو ترك روايةُ الحديثِ عنهم لا ندرسَ العلمُ والسننُ والآثارُ المحفوظةُ فيهم\".
بل رتب على ذلك قاعدة عامةً ومهمةً قال فيها: \" فإذا تعذّر إقامةُ الواجبات من العلم والجهاد وغير ذلك إلا بمن فيه بدعةٌ مضرتها دون مضرةِ ترك الواجب، كان تحصيل مصلحة الواجب مع مفسدةٍ, مرجوحةٍ, معه خيراً من العكس\"[11].
ومما يسهم في الائتلاف بين المؤمنين قابليةُ التنازل لمصلحة الجماعةِ، وإن كان المتنازلُ أحقَّ من غيره، وفي أحدِ غزواتِ المسلمين - ذات السلاسل - أمّرَ عليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عمرو بن العاص - رضي الله عنه -، ثم بعث له مدداً من المهاجرين فيهم أبو بكر وعمر، وأمّر عليهم أبا عبيدة ابن الجراح - رضي الله عنه -، فلما وصل المددُ قال عمرو: أنا أميرُكم، فقال المهاجرون: بل أنت أميرُ أصحابك، وأميرنا أبو عبيدة، فقال عمرو: إنما أنتم مددٌ أمددتُ بكم، فلما رأى ذلك أبو عبيدة، وكان رجلاً حسنَ الخُلُق، ليّنَ الشيمة، متبعاً لأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - محباً للتأليفِ والجماعة، سلَّم الإِمرة لعمرو وجمع الكلمة [12].
وحين يُوصي العلماء والدعاة وطلبة العلم بالحرص على الائتلاف ودفع الاختلاف بكلِّ وسيلة فلا يعني ذلك تميع الدين، أو السكوت عن الحق وكشف الباطل.. لكنه الأدبُ في الاختلاف والسعيُ بكلِّ وسيلة للائتلاف، وكم هو رائعٌ أن يدفعَ العلماءُ مفسدةَ فتنة العامة، بإظهار الودِّ وتقدير بعضهم لبعض، وعدم التنازع على مشهد من الناس، ومما يُذكر في ذلك أن الإمام أحمد، وإسحاق وعبد الرزاق خرجوا إلى المصلى في عيد الفطر - وكان أحمد وإسحاق يرون سُنيةَ التكبير لعيد الفطر، بينما لا يرى عبد الرزاق سنيةَ التكبير في عيد الأضحى، ولكن ما الذي حصل في المُصلَّى؟ لم يكبر أحمدُ وإسحاق مراعاة لاجتهاد عبد الرزاق، وعبد الرزاق عجب من عدم تكبيرهما، وقال: لو كبّرتما لكبِّرت معكما، مداراة لاجتهادهما، ودفعاً لفتنةِ العوام[13].
وهكذا يحرص العلماء على توحيد المواقف أمام الناس، وإن اختلفت اجتهاداتهم في بعض المسائل.
ويُوصى العلماء وطلبة العلم - كذلك - في سبيل الائتلاف ودفع الاختلاف والفرقة بالسكوت أحياناً عن بعض المسائل غير المألوفة، لا سيما إذا كان الخلاف فيها جارياً، ونشرها بين الناس يحدث فتنةً لبعضهم،
وهنا يرشد الشاطبي - رحمه الله - إلى ضابط لعرض المسائل الشرعية المثيرة ويقول: \"وضابطه أنك تعرض مسألتك على الشريعة، فإن صحّت في ميزانها، فانظر في مآلها بالنسبة إلى حال الزمان وأهله، فإن لم يؤدِّ ذكرها إلى مفسدة فاعرضها في ذهنك على العقول، فإن قبلتها فلك أن تتكلم فيها، إما على العموم، إن كانت مما تقبله العقولُ على العموم، وإما على الخصوص، إن كانت غيرَ لائقةٍ, بالعموم، وإن لم يكن لمسألتك هذا المساغُ فالسكوت عنها هو الجاري على وفقِ المصلحة الشرعية والعقلية [14].
ومع هذه الوصايا للعلماء والدعاة وطلبة العلم يوصى عوامٌّ المسلمين وغيرُ المتفقهين منهم بالثقة بأهل العلم، وتوسيع المدارك، وعدم العجلة بإصدار الأحكام، وعدم الفرح بالخلاف يقع بين العالمين، وبعدم التشكك في شيء من دين الله، إذ الخلاف يقع في فروع الدين لا في أصوله، وقد يكون في هذا الاختلاف رحمةٌ وسعةٌ، وحين يقع التنازع فلا بد من ردِّه إلى الله ورسوله وإلى ورثة الأنبياء - عليهم السلام -.
أيها المؤتمرون:
كم نحن بحاجةٍ, جميعاً إلى التفقه في الدِّين، ذلك التفقه الذي يجمع ويؤلف ويهدي ويرشد، وكم نحن بحاجة إلى أن نبلغ بديننا ما بلغ الليل والنهار، دون أن نهدرَ شيئاً من طاقاتنا في الوقيعة والخلاف بين المسلمين.
وإنني بهذه المناسبة أوصي بقراءة كتاب نافع - كذا أحسبُه والله حسيبنا جميعاً - هذا الكتاب صدر مؤخراً بعنوان \"فقه الائتلاف وقواعد التعامل مع المخالفين بالإنصاف\" ومؤلفه محمود محمد الخز ندار، وهو من مطبوعات دار طيبة في الرياض، أسأل الله أن يجزل المثوبة لمؤلفه وأن ينفع به، وأن يعلّمنا جميعاً ما ينفعنا، وأن ينفعنا بما علَّمنا.
---------------------------------------
[1] الموافقات: 2/271، عن فقه الائتلاف: 199.
[2]منهاج السنة: 3/64.
[3] الفتاوى لابن تيمية: 28/209.
[4] الموافقات: 4/186، الفتاوى: 19/123.
[5] الفتاوى: 30/80.
[6] الفتاوى: 14/159، فقه الائتلاف: 27.
[7] الفتاوى: 22/407.
[8] الفتاوى: 22/268.
[9] الإحياء: 1/55، 56.
[10] الموافقات للشاطبي : 1/87.
[11]الفتاوى: 28/212، فقه الائتلاف: 248.
[12]ترجمة أبي عبيدة في سير أعلام النبلاء: 1/5 - 23.
[13] سير أعلام النبلاء: 12/214- 221، ترجمة محمد بن رافع.
[14] الموافقات:4/191 عن فقه الائتلاف، محمود الخز ندار: 247.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد