العدالة في الإسلام


 

بسم الله الرحمن الرحيم

الإسلامُ قد جعلَ العَدلَ فَوقَ كلِّ شيء، فهو يَزِنُ بالقسطَاسِ المُستَقيم بينَ الكافِر والمُسلم، والعَدِّو والمُوالي والمُعَاهِد، فهم جميعاً في نظَرِه أمامَ العدَالةِ سواء، يقول - تعالى -: (إِنَّ اللَّهَ يَأمُرُ بِالعَدلِ وَالإَحسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي القُربَى وَيَنهَى عَنِ الفَحشَاءِ وَالمُنكَرِ وَالبَغيِ يَعِظُكُم لَعَلَّكُم تَذَكَّرُونَ).

والأمَّةُ الإسلامِيَّةُ قَيِّمةٌ على الحُكمِ بين النَّاسِ بالعَدل متى حكَمت في أَمرِهم. هذا العَدلَ الذي لم تعرِفهُ البشريَّة قط على هذه الصٌّورة- إِلاَّ على يدِ الإسلام، وإِلاَّ في حُكم المسلمين، وإِلاَّ في عهد القيادة الإسلاميَّة للبشريَّة، والذي افتَقَدتّه من قبل ومن بعد هذه القيادةُ فلم تَذُق له طعماً قطٌّ في مِثل هذه الصٌّورةِ التي تُتَاحُ للنَّاس جميعاً لأَنَّهم ناسٌ لا لأيَّةِ صِفَةٍ, أُخرى زائدةٍ, عن هذا الأصلِ الذي يُترك فيه الناس.

 

العـدالة في الإسلام:

قال - تعالى -: (وَكَذَلِكَ جَعَلنَاكُم أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيكُم شَهِيدًا)[البقرة: 143].

\"أي كَما هدينَاكم إلى قِبلةٍ, هي أوسَطُ القِبَل وأفضَلُها (جَعَلنَاكُم أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ).

والشٌّهداء جمعُ شهيدٍ, وأصلُه الشَّاهدُ للشيءِ والمُخبِر له عن عِلمٍ, حصَلَ بمشاهَدةِ بصَرٍ, أو بَصيرة، ولَمَّا كان المُخبِرُ عن الشَّيء والمُبيِّن لحالِه جاريًا مجرَى الدليلِ على ذلك سُمِّيت الدِّلاَلةُ على الشيء شاهِداً، وكذلك المُخبِرُ به، فكلٌّ من عَرَفَ حالَ شيءٍ, وكشَف عنه كان شاهِِداً عليه\".

وأعظم شُروطِ قَبُولِ الشَّهادة العدَالةُ كما قال - تعالى -: (وَأَشهِدُوا ذَوَي عَدلٍ, مِنكُم)[الطلاق: 2]، فلَمَّا اختار اللهُ هذه الأُمَّةَ ليكونوا شُهدَاء على النَّاس عدّلهم فقال: (وَكَذَلِكَ جَعَلنَاكُم أُمَّةً وَسَطًا) قال النبيٌّ - صلى الله عليه وسلم -: \"الوَسَطُ العَدلُ\".

\"والعَدلُ من النَّاس هو المَرضِيٌّ السِّيرةِ المُستَقِيمُ الطَّريقة. فهو بَين العَدلِ والعَدَالةِ أَي أَنَّهُ رِضَا ومَقنَعٌ فِي الشّهادةِ\".

\"وقال الفُقُهاءُ: إِنَّ العدَالةَ مقيَّدةٌ بالصَّلاح فيِ الدِّين وبالاتِّصافِ بالمُروءة، أَمَّا الصَّلاحُ في الدِّين فَيتمٌّ بأداءِ الفَرائضِ والنَّوافلُ واجتِنَاب المُحَرَّمات والمكرُوهاتِ، وعدمِ ارتِكَابِ كبيرةٍ, أو إصرارٍ, على صغيرة.

أَمَّا المُروءةُ فهي أَن يفعلَ الإنسانُ ما يَزِينُه ويترُكَ ما يَشِينُه من الأقوَالِ والأفعال\".

قال القاسِميٌّ: \"فإِن قيلَ هل الأُمَّةُ كُلٌّها شُهودٌ أم بعضُهم؟ فالجواب: وكلٌّهم مُمكِنٌ أَن يكُونوا شُهداءَ، وذلك بشريطَةِ أَن يُزَكٌّوا أنفُسَهم بالعِلم والعمَلِ الصَّالح، فمن لم يُزَكِّ نفسَه لم يكن شاهِداً ومَقبُولاً، ولذلك قال الله - تعالى -: (قَد أَفلَحَ مَن زَكَّاهَا) [الشمس: 9]، وقال - تعالى -: (يَا أَيٌّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالقِسطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَو عَلَى أَنفُسِكُم) [النساء: 135]، والقِيامُ بالقِسطِ مُرَاعَاةُ العَدالة، وهي بالقَولِ المُجمَلِ ثلاثٌ:

عدَالةٌ بين الإنسانِ ونَفسِه، وعدالةٌ بينَه وبين الناس، وعدَالةٌ بينَه وبين الله - عز وجل –\".

فأَمَّا عَدلُ الإنسانِ فيما بينَه وبين اللهِ فيكونُ بالقِيَامِ بحقِّ الله عليه في العِبَادةِ وإخلاصِها له - سبحانه -، وإفرادِه - سبحانه - بها:

عَن مُعَاذٍ, - رضي الله عنه - قَالَ: كُنتُ رِدفَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى حِمَارٍ, يُقَالُ: لَهُ عُفَيرٌ فَقَالَ: يَا مُعَاذُ! هَل تَدرِي حَقَّ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ وَمَا حَقٌّ العِبَادِ عَلَى اللَّهِ قُلتُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعلَمُ، قَالَ: » فَإِنَّ حَقَّ اللَّهِ عَلَى العِبَادِ أَن يَعبُدُوهُ وَلاَ يُشرِكُوا بِهِ شَيئًا وَحَقَّ العِبَادِ عَلَى اللَّهِ أَن لاَ يُعَذِّبَ مَن لاَ يُشرِكُ بِهِ شَيئًا فَقُلتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَفَلاَ أُبَشِّرُ بِهِ النَّاسَ قَالَ لاَ تُبَشِّرهُم فَيَتَّكِلُوا\".

\"والعِبَادةُ اسمٌ جامعٌ لكلِّ ما يحبٌّه الله ويرضاه من الأقوَالِ والأعمالِ الظَّاهِرَةِ والبَاطِنَة، فالصَّلاةُ والزَّكاة والصِّيام والحجٌّ وصِدقُ الحديث وأداءُ الأمانةِ وبرٌّ الوالدين وصِلَةُ الأرحام.

والوفاءُ بالعهود، والأمرُ بالمعروف والنَّهي عن المنكر، وجهادُ الكفَّار والمنافقين، والإحسانُ إلى الجار واليتيمِ والمِسكين وابنِ السَّبيل والمملوكِ من الآدميِّين والبهائم، والدٌّعاء والذِّكر والقِراءةُ وأمثالُ ذلك من العبادة،

وكذلك حُبٌّ اللهِ ورَسُولِه، وخَشيَةُ اللهِ والإنَابةُ إليه، وإخلاصُ الدِّين له، والصَّبر لحُكمِه والشٌّكر لنعمه، والرِّضا بقضائه، والتوكٌّل عليه، والرَّجاء لرحمتِه، والخَوفَ من عذابه، وأمثالُ ذلكَ من العبادة\".

واللهُ - تعالى - لا يَقبَلُ من العباداتِ إِلاَّ ما كان خالصاً له، ولذلك أمرَ بالإخلاصِ ونهى عن الشِّرك فقال - تعالى -: (فَاعبُدِ اللَّهَ مُخلِصًا لَهُ الدِّينَ * أَلاَ لِلَّهِ الدِّينُ الخَالِصُ) [الزمر2: 3]، وقال - تعالى -: (هُوَ الحَيٌّ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَادعُوهُ مُخلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) [غافر: 65]، وقال - تعالى -: (فَمَن كَانَ يَرجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَليَعمَل عَمَلاً صَالِحًا وَلاَ يُشرِك بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا) [الكهف: 110].

وقال - تعالى -: (وَاعبُدُوا اللَّهَ وَلاَ تُشرِكُوا بِهِ شَيئًا) [النساء: 36]، وقال - تعالى -: (وَقَالَ اللَّهُ لاَ تَتَّخِذُوا إِلَهَينِ اثنَينِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارهَبُونِ) [النحل: 51].

وبذلك أرسلَ اللهُ الرٌّسلَ وأنزلَ الكُتُبَ قال - تعالى -: (وَلَقَد بَعَثنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ, رَسُولاً أَنِ اُعبُدُوا اللَّهَ وَاجتَنِبُوا الطَّاغُوتَ)[النحل: 36].

وقال - تعالى -: (وَمَا أَرسَلنَا مِن قَبلِكَ مِن رَسُولٍ, إِلاَّ نُوحِي إِلَيهِ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعبُدُونِ) [الأنبياء: 25]، وقال - تعالى -: (يُنَزِّلُ المَلاَئِكَةَ بِالرٌّوحِ مِن أَمرِهِ عَلَى مَن يَشَاءُ مِن عِبَادِهِ أَن أَنذِرُوا أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاتَّقُون) [النحل: 2].

فمن عبدَ اللهَ ولم يُشرِكُ به شيئاً فقد عدلَ فيما بينَه وبين الله، ومن عبدَ غَيرَ الله فقد ظَلم، ولذلك قال - تعالى -: (وَالكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ)[البقرة: 254]، وقال - تعالى -: (إِنَّ الشِّركَ لَظُلمٌ عَظِيمٌ)[لقمان: 13]، وقال - تعالى -: (إِنَّهُ مَن يُشرِك بِاللَّهِ فَقَد حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيهِ الجَنَّةَ وَمَأوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن أَنصَارٍ,) [المائدة: 72].

وأَمَّا عَدلُ الإنسانِ فيما بينَه وبين نَفسِه \"فيكونُ بحَملِها على المَصالِح وكفِّها عن القَبائح، ثم بالوقُوفِ في أحوالها على أعدَلِ الأمرَين مِن غَيرِ تجَاوُزٍ, أو تقصير، فإِنَّ التَّجاوُزَ فيها جَورٌ والتَّقصيرَ فيها ظُلم، ومن ظَلَم نفسَه فهو لغَيرِه أظلم، ومن جار عَليها فهو على غيره أجور\".

فمن ترك الواجبات فقد ظلم نفسه، ومن انتهك المحرمات فقد ظلم نفسه (وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَد ظَلَمَ نَفسَهُ) [الطلاق: 1].

ولذلك لَمَّا أكل الأبوانِ من الشَّجرة المحرَّمة (قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَم تَغفِر لَنَا وَتَرحَمنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الخَاسِرِينَ)[الأعراف: 23].

ولَمَّا قتل موسى القِبطِيَّ (قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمتُ نَفسِي فَاغفِر لِي فَغَفَرَ لَهُ) [القصص: 16].

ولَمَّا هاجر يونُسُ من غير إذنِ الله قال: (أَن لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنتَ سُبحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ)[الأنبياء: 87].

وقال - تعالى - في التَّرغيب في التَوبةِ والحضِّ عليها: (وَمَن يَعمَل سُوءاً أَو يَظلِم نَفسَهُ ثُمَّ يَستَغفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا)[النساء: 110].

وقال في مَعرِضِ المَدح (وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَو ظَلَمُوا أَنفُسَهُم ذَكَرُوا اللَّهَ فَاستَغفَرُوا لِذُنُوبِهِم وَمَن يَغفِرُ الذٌّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَم يُصِرٌّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُم يَعلَمُونَ * أُولَئِكَ جَزَاؤُهُم مَغفِرَةٌ مِن رَبِّهِم وَجَنَّاتٌ تَجرِي مِن تَحتِهَا الأَنهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعمَ أَجرُ العَامِلِينَ) [آل عمران 135: 136].

وعَن عَبدِ اللَّهِ بنِ عَمرٍ,و عَن أَبِي بَكرٍ, الصِّدِّيقِ - رضي الله عنه - أَنَّهُ قَالَ: لِرَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَلِّمنِي دُعَاءً أَدعُو بِهِ فِي صَلاَتِي قَالَ: \"قُلِ اللَّهُمَّ إِنِّي ظَلَمتُ نَفسِي ظُلمًا كَثِيرًا وَلاَ يَغفِرُ الذٌّنُوبَ إِلاَّ أَنتَ فَاغفِر لِي مَغفِرَةً مِن عِندِكَ وَارحَمنِي إِنَّك أَنتَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ\".

وأَمَّا عَدلُ الإنسانِ فيما بينَه وبين النَّاس \"فقد سبقَ الإسلاَم في أَمرِه بالعَدالَةِ وَحَثِّه عليها كُلَّ نُظُمِ العَدالةِ الحديثة، حيثُ جعلَ العَدلَ أساسَ نِظَام الخَليقَةِ كلِّها، قال - تعالى -: (وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ المِيزَانَ * أَلاَّ تَطغَوا فِي المِيزَانِ * وَأَقِيمُوا الوَزنَ بِالقِسطِ وَلاَ تُخسِرُوا المِيزَان) [الرحمن7: 9].

فالإسلامُ قد جعلَ العَدلَ فَوقَ كلِّ شيء، فهو يَزِنُ بالقسطَاسِ المُستَقيم بينَ الكافِر والمُسلم، والعَدِّو والمُوالي والمُعَاهِد، فهم جميعاً في نظَرِه أمامَ العدَالةِ سواء، يقول - تعالى -: (إِنَّ اللَّهَ يَأمُرُ بِالعَدلِ وَالإَحسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي القُربَى وَيَنهَى عَنِ الفَحشَاءِ وَالمُنكَرِ وَالبَغيِ يَعِظُكُم لَعَلَّكُم تَذَكَّرُونَ)[النحل: 90]،

وقال - تعالى -: (إِنَّ اللَّهَ يَأمُرُكُم أَن تُؤَدٌّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهلِهَا وَإِذَا حَكَمتُم بَينَ النَّاسِ)[النساء: 58] هكذا على الإطلاق (بَينَ النَّاسِ) على اختِلاَفِ المِلَلِ والنِّحل والدِّيانات والأجناس (أَن تَحكُمُوا بِالعَدلِ)[النساء: 58]، ولا تَمِيلُوا إلى مُسلمٍ, لإسلامه ولا على كافرٍ, لكُفره، ولا تَميلُوا إلى وَليِّ لِوَلايَته وعلى مُعَادٍ, لعداوته، ولا تميلُوا إلى غَنِيٍّ, لغناه ولا على فقيرٍ, لفَقرِه، قال - تعالى -: (يَا أَيٌّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالقِسطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَو عَلَى أَنفُسِكُم أَوِ الوَالِدَينِ وَالأَقرَبِينَ إِن يَكُن غَنِيًّا أَو فَقِيرًا فَاللَّهُ أَولَى بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُوا الهَوَى أَن تَعدِلُوا وَإِن تَلوُوا أَو تُعرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعمَلُونَ خَبِيرًا)[النساء: 135].

وقال - تعالى -: (يَا أَيٌّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالقِسطِ وَلاَ يَجرِمَنَّكُم شَنَآنُ قَومٍ, عَلَى أَلاَّ تَعدِلُوا اعدِلُوا هُوَ أَقرَبُ لِلتَّقوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعمَلُونَ)[المائدة: 8].

وقال - تعالى -: (وَإِذَا قُلتُم فَاعدِلُوا وَلَو كَانَ ذَا قُربَى) [الأنعام: 152]\".

وقد تكرَّر الأمرُ للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم - بالعَدلِ بين مَن يتحاكَمُ إليه من أهلِ المِلَلِ الأُخرى قال - تعالى -: (سَمَّاعُونَ لِلكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسٌّحتِ فَإِن جَاءُوكَ فَاحكُم بَينَهُم أَو أَعرِض عَنهُم وَإِن تُعرِض عَنهُم فَلَن يَضُرٌّوكَ شَيئًا وَإِن حَكَمتَ فَاحكُم بَينَهُم بِالقِسطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبٌّ المُقسِطِينَ) [المائدة: 42].

ثم يقولُ اللهُ - تعالى -: (وَأَنزَلنَا إِلَيكَ الكِتَابَ بِالحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَينَ يَدَيهِ مِنَ الكِتَابِ وَمُهَيمِنًا عَلَيهِ فَاحكُم بَينَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِع أَهوَاءَهُم عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الحَقِّ) [المائدة: 48].

ويقولُ - تعالى -: (وَأَنِ احكُم بَينَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِع أَهوَاءَهُم وَاحذَرهُم أَن يَفتِنُوكَ عَن بَعضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيكَ) [المائدة: 49].

ويقولُ اللهُ - تعالى -: (فَلِذَلِكَ فَادعُ وَاستَقِم كَمَا أُمِرتَ وَلاَ تَتَّبِع أَهوَاءَهُم وَقُل ءَامَنتُ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِن كِتَابٍ, وَأُمِرتُ لأَعدِلَ بَينَكُمُ) [الشورى: 15]، وإِن كذَّبتُموني وَكَفرتُم بى، فالعَدلُ الذي يسعَى الإسلامُ لإقامته » ليسَ عَدلاً بين المسلمين بعضِهم وبعضِ فحَسب، ولا عَدلاً مع أهلِ الكتابِ دُونَ سائرِ النَّاس، وإِنَّما هو حَقٌّ لكلِّ إنسان يوصف \"إنساناً\" فهذه الصِّفَةُ صَفةُ النَّاس- هي التي يترتَّب عليها حَقٌّ العَدل في المَنهج الرَّبانيِّ. وهذه الصِّفَةُ يلتَقي عليها البَشرُ جميعاً: مؤمنين وكفاراً، أصدقاءَ وأعداء، سُوداً وبيضاً، عرباً وعجماً.

والأمَّةُ الإسلامِيَّةُ قَيِّمةٌ على الحُكمِ بين النَّاسِ بالعَدل متى حكَمت في أَمرِهم. هذا العَدلَ الذي لم تعرِفهُ البشريَّة قط على هذه الصٌّورة- إِلاَّ على يدِ الإسلام، وإِلاَّ في حُكم المسلمين، وإِلاَّ في عهد القيادة الإسلاميَّة للبشريَّة، والذي افتَقَدتّه من قبل ومن بعد هذه القيادةُ فلم تَذُق له طعماً قطٌّ في مِثل هذه الصٌّورةِ التي تُتَاحُ للنَّاس جميعاً لأَنَّهم ناسٌ لا لأيَّةِ صِفَةٍ, أُخرى زائدةٍ, عن هذا الأصلِ الذي يُترك فيه الناس\".

فالشريعةُ الإسلاميَّةُ في هذه الناحية ناحية العَدالَةِ بين النَّاس على اختلاف مِلَلِهم ونِحَلهِم وألوانِِهم وأجنَاسِهم تَستَحِقٌّ من جميعِ النَّاس آمَنُوا به أم لم يُؤمِنُوا نظرةً صادقةً، فإِنَّها لا تزالُ سابِقةً في زَمنِنَا في هذا الشأن، وانظُر إلى أقوَالِ بعض أئمَّةِ المسلمين قبل مِئَاتِ السِّنين:

يقول ابنُ القيِّم: إِنَّ الله - سبحانه وتعالى- أرسلَ رُسَلَه وأنزلَ كُتَبه ليقومَ النَّاسُ بالقِسَط وهو العَدل الذي قامَت به الأرضُ والسَّموات، فإذا ظهَرت أماراتُ العَدلِ وأسفَر وجهُه بأيِّ طريقٍ,ٍ, كان فثم شرع الله.

ويقول الإمامُ الشاطبي: إِنَّ أحكَامَ الشَّريعةِ ما شُرِعَت إِلاَّ لمصلَحَةِ النَّاس وحَيثُما وُجِدَت المَصلَحَةُ فثمَّ شرعُ الله\".

هذه هي العَدالةُ عندَ المُسلمين، \"ولم تكن يوماً ما مُجرَّد مُثُلٍ, عُليا أو وصَايا يَفخَرُون بها دُون مُمارَسَةٍ, أو تطبيق، وإِنَّما كانت واقعاً عاشَته هذه الأُمَّةُ مع رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - ومارسَته وطبَّقته في واقع حيَاتها مع البَعيدِ والقَريبِ والعدُوِّ والصَّديق، والمُسلمِ والكافر:

عَن عَبدِ الرَّحمَنِ بنِ أَبِي لَيلَى عَن أُسَيدِ بنِ حُضَيرٍ, رَجُلٍ, مِنَ الأَنصَارِ قَالَ بَينَمَا هُوَ يُحَدِّثُ القَومَ وَكَانَ فِيهِ مِزَاحٌ بَينَا يُضحِكُهُم فَطَعَنَهُ النَّبِيٌّ - صلى الله عليه وسلم - فِي خَاصِرَتِهِ بِعُودٍ, فَقَالَ: أَصبِرنِي فَقَالَ: \"اصطَبِر قَالَ: إِنَّ عَلَيكَ قَمِيصًا وَلَيسَ عَلَيَّ قَمِيصٌ فَرَفَعَ النَّبِيٌّ - صلى الله عليه وسلم - عَن قَمِيصِهِ فَاحتَضَنَهُ وَجَعَلَ يُقَبِّلُ كَشحَهُ قَالَ: إِنَّمَا أَرَدتُ هَذَا يَا رَسُولَ اللَّهِ\".

وعَن عَائِشَةَ أَنَّ قُرَيشًا أَهَمَّهُم شَأنُ المَرأَةِ المَخزُومِيَّةِ الَّتِي سَرَقَت فَقَالُوا مَن يُكَلِّمُ فِيهَا رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالُوا: وَمَن يَجتَرِئُ عَلَيهِ إِلاَّ أُسَامَةُ حِبٌّ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَكَلَّمَهُ أُسَامَةُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: \"أَتَشفَعُ فِي حَدٍّ, مِن حُدُودِ اللَّهِ ثُمَّ قَامَ فَاختَطَبَ فَقَالَ: أَيٌّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَهلَكَ الَّذِينَ قَبلَكُم أَنَّهُم كَانُوا إِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الضَّعِيفُ أَقَامُوا عَلَيهِ الحَدَّ وَايمُ اللَّهِ لَو أَنَّ فَاطِمَةَ بِنتَ مُحَمَّدٍ, سَرَقَت لَقَطَعتُ يَدَهَا\".

وعَن ابن أَبي حَدرَد الأَسلَميِّ أَنَّه كان عَلَيه ليهُودِيٍّ, أَربعُ دَراهِمَ فَأتَى النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فقال يَا مُحَمَّدُ إِنَّ لِي على هذا أربعةَ دَراهِمَ وقَد غلَبني علَيها فقال النبيٌّ - صلى الله عليه وسلم -: \"أَعطِه حَقَّه، قالَ والَّذِي بعثَك بالحَقِّ ما أقدرُ علَيها، قَال أَعطِه حَقَّه، قالَ والَّذِي نَفسِي بيَدِه ما أَقدِرُ علَيها، قَد أخبَرتُه أَنَّك تَبعَثُنا إلى خَيبر، فأرجُو أَن تُغنِّمَنا شيئاً فأَرجِعُ فأَقضيه، قال أَعطِه حَقَّه، قال: وكانَ النبيٌّ - صلى الله عليه وسلم - إذا قالَ ثلاثاً لم يُراجَع، فخرجَ ابنُ أبي حَدرَدَ إلى السٌّوقِ وعلَى رَأسِه عِصَابَةٌ وهُو مُتَّزِرٌ بِبُردٍ,، فنَزعَ العِمَامةَ عَن رَأسِه فاتَّزر بِهَا ونزَع البُردَة فقَال اشتَرِ مِنِّي هذه البُردَةَ فباعَها مِنهُ بأربعَةِ درَاهم\".

وهكذا رسَّخ - صلى الله عليه وسلم - أصولَ العدَالة في المسلمين بتطبيقها على نفسِه وأهلِه وعامَّةِ المسلمين وإيصالِ الحَقِّ لأهله ولو كانوا كافرين، فلَمَّا تُوفِّي - صلى الله عليه وسلم - لم يألُ الخلفاءُ من بعده جهداً في حِمَايةِ أُصولِ العدالَة التي وضَعها وحِرَاسَتِها حتى تعمَّ جميعَ الناس:

عَن سَعِيدِ بنِ المُسَيَّبِ أَنَّ عُمَرَ بنَ الخَطَّابِ اختَصَمَ إِلَيهِ مُسلِمٌ وَيَهُودِيُّ فَرَأَى عُمَرُ أَنَّ الحَقَّ لِليَهُودِيِّ فَقَضَى لَهُ فَقَالَ: لَهُ اليَهُودِيٌّ وَاللَّهِ لَقَد قَضَيتَ بِالحَقِّ فَضَرَبَهُ عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ بِالدِّرَّةِ ثُمَّ قَالَ: وَمَا يُدرِيكَ؟ فَقَالَ لَهُ اليَهُودِيٌّ: \"إِنَّا نَجِدُ أَنَّهُ لَيسَ قَاضٍ, يَقضِي بِالحَقِّ إِلاَّ كَانَ عَن يَمِينِهِ مَلَكٌ وَعَن شِمَالِهِ مَلَكٌ يُسَدِّدَانِهِ وَيُوَفِّقَانِهِ لِلحَقِّ مَا دَامَ مَعَ الحَقِّ فَإِذَا تَرَكَ الحَقَّ عَرَجَا وَتَرَكَاهُ\".

وعَن السَّائِبِ بنِ يَزِيدَ أَنَّهُ أَخبَرَهُ أَنَّ عُمَرَ بنَ الخَطَّابِ خَرَجَ عَلَيهِم فَقَالَ: \"إِنِّي وَجَدتُ مِن فُلاَنٍ, رِيحَ شَرَابٍ, فَزَعَمَ أَنَّهُ شَرَابُ الطِّلاَءِ وَأَنَا سَائِلٌ عَمَّا شَرِبَ فَإِن كَانَ مُسكِرًا جَلَدتُهُ فَجَلَدَهُ عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ - رضي الله عنه - الحَدَّ تَامًّا\"، وعن حُصَين بنِ المُنذِر قالَ: شَهِدتُ عُثمانَ بنَ عفَّانَ أُتِيَ بالوَليدِ بنِ عُقبَة، وهو قَريبٌ له، قد صَلَّى الصٌّبح ركعتين ثم قالَ: أزَيدُكم؟ فشَهِدَ حُمرانُ ورجلٌ آخرُ أحدُهما حمران: أَنَّه شرب الخَمرَ، وشَهِدَ آخر أَنَّه رآه تقيَّأ، فقال عثمانُ: إِنَّه لم يتقيَّأ حتى شَرِبَها، وقال قُم يا عليّ فَاجلِده\".

ولو ذهبنا نتتبَّع هذه الأمثلةَ الرَّائعةَ في عَدالة المسلمين وحِرصهم على إقامة العَدل بين الناس لطال بنا الوقتُ ولكنَّها تذكرةٌ للمؤمنين وتنبيهٌ للغافلين أَنَّ هذه عدالة الأمة التي جعلها الله الأمَّة الوسط لتحكم بين الناس بالحقِّ التي فرضه اللهُ عليها ولتكون شاهدةً على الأمم التي سبقتها.

ف(الحَمدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهتَدِيَ لَولا أَن هَدَانَا

اللَّهُ)[الأعراف:43].

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply