التسول بين الحاجة والاحتيال


 

 

بسم الله الرحمن الرحيم

كثيراً ما تطالعنا هذه الأيام صور المتسولين وهم يفترشون الأرض على طول جانب المسجد الكبير، وتراهم يتشبثون بالمارة متوسلين وراجين العطية من ذوي القلوب الرحيمة والنفوس الكريمة، وما أن تطأ أقدامنا مسجدا ما حتى نجدهم محتشدين على بابه، يمارسون التسول بأبلغ العبارات وأشدها تأثيراً في النفس وإثارة لكوامن العاطفة، وتستمر رحلة الشجن الأليم وتبلغ ذروتها ونحن في صحن المسجد نسبح ونتلوا الباقيات الصالحات بعد فراغنا من الصلاة، فإذا برجل يحكي مأساته: (أُحلت إلى المعاشº ولا أملك من الدنيا سوى حنجرتي هذه التي أسأل بها)، ثم سادت برهة من الصمت الحزين اكتنفت المصلين والرجل يمسح دموعه قبل أن يستطرد قائلاً: (أنا أب لخمسة أطفال، أكبرهم حصل على الشهادة السودانية وفي طريقه للجامعة، ويعلم الله إني لا أملك رسوم دخول الجامعةº فأرجو من الله أن ييسر لي في هذه الجلسة من يتكفل بابني و...).

حالات من الأسى والأسف تكسو وجوه المصلين وأنا أجول ببصري عليهمº ذاك رجل دس يده في جيبه بغية مساعدة السائل فأحدثت دنانيره رنيناً تناغم مع همهمات حزينة صدرت من بعض المصلين، وهذا شاب بقربي يهز رأسه حسرة.

لم يكد الرجل يجلس مطرقاً برأسه إلى الأرض حتى انتصب آخر يحمل كمًّا من الأوراق في يده وراح يتمتم ويقول: (الحاجة وحدها هي التي دفعتني إلى أن أقف هذه الوقفة المحزنة أمامكمº فلولاها لما طرقنا الأبواب ولا سألنا الناس، عافاكم الله وأغناكم عن السؤال، إخوتي! أنا مريض بمرض الكلى عافاكم الله منه، وأنتم تعلمون تكلفة العلاج الباهظةº فكيف الحال إذا كان المرض مزمناً؟!)، وفجأة انخرط الرجل في بكاء حار، تقطعت له الأفئدة، ثم ما لبث أن جلس حتى قام طفل صغير ليكمل بقية المهمة عارضاً تلك الأوراق التي كان يحملها أبوه.. شهادات طبية، روشتات، ونتائج تحاليل تثبت حقيقة المرض.

ولا شك أن ما رصدناه من مواقف هي في الحقيقة مشاهد تراجيدية معتادة في مسلسل حياتنا اليوميةº حتى أصبح تكرار هذه المشاهد لا يحدث أثراً في النفوس، وإن تعددت العدسات، وأدى الممثلون دورهم بصورة بالغة الدقةº فبدلا من الانفعال، ومن ثم التفاعل أصبحت العيون والأفئدة تحفل بالشك والريبة.. فما هو سبب هذا النفور، وهذا الحذر؟!º أمات الوازع الديني؟!، أم نضب معين الأخلاق في مجتمعنا؟!، أم أصاب الشلل المشاعر الإنسانية؟..

أسئلة كثيرة دارت بخلدي وأنا أشاهد الآن عكس ما كان من مواقف صغتها بداية.. أين الخلل؟!º هل فقد الناس إنسانيتهم؟!، أم فقد السائل مصداقيته وتحول من ذي حاجة وعوز إلى محتال محترف؟!.

كلنا يعلم الأسباب التي تقود البعض إلى التسولº فعامل النزوح بسبب الحرب مثلاً يعتبر من أقوى أسباب التسولº إذ أن النازح يجد نفسه في وسط غير الوسط، ومجتمع قد يختلف من مجتمع النشأةº مما يحدث خللاً نفسياًº يفقد الفرد الاتزانº فيكون التسول سبيلهº لسد الرمقº متعللاً بأنه غريب في المدينة.

أيضاً العامل الاقتصادي، وتدهور الأحوال المعيشية من العوامل المحورية في قضية التسولº فالتضخم الذي تشهده أسواقنا، والانخفاض في قيمة العملة الوطنية أدى في النهاية إلى عجز ميزان الأسرة في إشباع الحاجات الضرورية كالغذاء والسكن والصحة والتعليم وما إليها من حاجات ضرورية لحياة الإنسانº فيكون رد الفعل الطبيعي هنا طرق كل باب يمكن من خلاله إشباع هذه الحاجات.. والتسول هو إحدى هذه الأبواب المشرعة لدى البعض.

كذلك انتشار البطالة بين الشباب خاصة يمكن أن يكون من العوامل التي تشجع على التسول، لا سيما إذا عرفنا أن دراسة اقتصادية أكدت أن حجم البطالة في البلاد العربية يتراوح مابين 10 إلى 15 مليون نسمة حاليا، مع توقع ارتفاعها إلى 25 نسمة بحلول عام 2010مº إذاً لابد للحكومات أن تضع حلولاً جذرية لمشكلة البطالةº حتى لا تكون ذريعة يتمسك بها البعض عند امتهانه للتسول.

 

الانحلال الأسري، وانفصال الأبوين قد يكون سبباً قوياً في امتهان التسولº حيث قد يصاب الأبناء بحالة من الضياعº تدفعهم لسؤال الناس في غياب الأبوين.

من واقع مشاهدتنا نلحظ أن التسول ظاهرة تبرز في مختلف أنحاء العالمº إذ لا تكاد تخلو دولة أيا كانت من متسولين وأصحاب حاجة وعوز، ولا تخص مجتمعات بعينها دون غيرها. وبذا تحول التسول من ظاهرة إلى سلوك تختلف درجة ممارسته من مجتمع لآخر، والطبيعي أن تكون الحاجة وحدها هي الدافع لهذا السلوك إلا أنه في الآونة الأخيرة نبتت ظاهرة (الاحتيال) وسط بعض المتسولين، أو على الأصح الذين يدعون الحاجة وما هم بمحتاجينº فكيف نفسر إذاً موقف ذلك المدعي الذي وقف أمام جمع المصلين في أحد المساجد.. وقف مدعيا أنه عابر سبيل، ولا يملك ما يمكنه من العودة إلى ذويه، ثم يقف الرجل نفس الوقفة بعد عام بذات الادعاء!.. أوَليس هذا احتيال؟!، أيعقل أن يظل رجل عاما كاملاً يجمع ثمن عودته؟!.

ألوان وأشكال من فنون الخداع والاحتيال بات يمارسها بعض المحتالين ودعاة الحاجةº للاسترزاق والكسب الرخيصº مما جعل البعض يتخذ الشك والحذر مسلكاً في تعامله مع المحتاجينº خوفاً من النصب والاحتيال، وإن كان يبدو عليهم أنهم أهل حاجة صادقةº فدائرة الشك تشملهم.

فيا من احترفوا التسول من غير حاجة وعوز، هداكم الله ورفع عنكم هذا الابتلاء واعلموا أنه:(لأن يحتطب أحدكم حزمة على ظهره، خير له من أن يسأل أحدا، فيعطيه أو يمنعه) كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply