بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
عزيزي:
هل جرَّبت يوما أن تلمحَ عيناك شخصا يحدُجك من مكان قريب بنظرات ملؤها المكر والدهاء، ومزاجها الغيظ والقهر؟ وعلى جبينه تقطيبة، وفي كفيه رعشة، وفي رموشه ارتجافة، وفي جفونه ارتعاشة، وفي حركاته اهتزازة، وفي كلماته حشرجة!! وأنفاسه تخرج في زفرات ملتهبة، والتوتر باد عليه من أخمص قدميه إلى قمة رأسه، كأنَّ شخصا يحاول ابتزازه.
وأنت تشيح بنظرك عنه ذات اليمين وذات اليسار فما يدريك لعله لا يقصدك، وعسى هذه الحالة تكون طبعا أصيلا متأصِّلا في شخصه، ولعل شكلَه لا ينمٌّ عن حقيقته، وجوهره، فما أكثر الأشخاص الذين تبرز في ملامحهم سيماءُ التَّجهم والقسوة، وهم من أكثر الناس طيبة ووقارا، ودماثة أخلاق، ولربما يكون منهم.
لكنك تطرد هذه الهاجس من خاطرك، وتصمم على أن بينه وبين الطيبة والدماثة ما بين أروى الجبال، ونعام السهول لأنه يزداد فيك تحديقا وتفترٌّ شفتاه عن بصقة طالما كورها في تجويفه، ثم دفعها من شدقيه بلسانه وشفتيه، ثمَّ نفث دخان سيجارة كان يمصها مصّاً كأنه يمصٌّ عود قصب، أو قطعة حلوى، أو شفة مكتنزة متوفِّزة، والسيجارة لم تفارق يده المرتجفة، وحركاته المتوترة منذ البداية، وحينها تتدفقُ سيولُ الثّقة وبراهين التأكيد، أنك المقصود، فسلوكه مشين، وفعله مستهجن، وتصرفه قبيح ونهجه منفِّر مستنكر يأباه أولو الطباع السليمة، ويتحاشاه ذوو الأخلاق المستقيمة.
وتتنزل عليك هدأة الحِلم، وتتدلّى إليك أهدابُ الرَّزانة المتأصلة في طبعك، فتشيح بوجهك عنه، متجنبا زوبعة قد تتحول إلى عاصفة تمطر سيلا من الحركات العدوانية بينك وبينه.
ورويدا رويدا تحاول أن تتذكر، فتفتش في جيوب ذاكرتك، وثنايا معطفك، وفي زوايا خيالك، لعلك تظفر بلمحة خاطفة عن شخصية هذا المتجهِّم الأجش، المقطب الذي لا يبش، الذي يحدجك بنظراته المسمارية، ويرميك بسهامها النّارية، فتعجزك مكنوناتك وتتعبك مختزناتك، وتُفَتِّرُ همَّتَك رحلةُ التَّذَكّر والتَّفكير، فتمضي متناسيا نظراته، متجاهلا تمتماته، وكلماته التي لا تكاد تستبين منها سوى شذرات كرذاذ يتطاير، تلقيها حركة الهواء في أذنيك، فيترجمها حدسك ويربط بين مدلولاتها وعيُك، فتزداد استغرابا على حيرتك، واستنكارا على دهشتك،
وتتساءل ماذا عساي فعلت له؟ وفيم يا ترى أخطأت معه؟ وأنا لا أعرفه ولم أجالسه، أو أقابله ولم يجالسني، أو يقابلني كما يقابل الأخ أخاه، والصَّديقُ صديقَه، والجارُ جارَه، والعزيز عزيزه، بل لم أواجِهُهُ كما يواجهُ العدوٌّ عدوَّه، وإنِّي لا أتذكر أنَّ صورتَهُ مرَّت في خيالي يوما، أو حَرَّكت أهدابي فيما مضى من عمري، إلا اليوم!! فما بال نفسه بالنار مشتعلة، وقلبه كتنٌّور يفور؟ ومن أين له كلّ هذا الوجد اللاذع، وهذه الضغينة السوداء التي تطل من عينيه وتسيل مع كلماته، وتندفع مع أنفاسه؟؟
وفي النِّهايةِ تحسمُ أمرك فتقررُ أن تطويَ صفحته، وتنسى أمره فيشغلك صديق قريب، أو زميل عزيز، مرَّ بجوارك في عجالةٍ, من أمره، في رِحلَةِ إِيَاب مِن ضنك العمل، وإرهاقِه، فيسلم عليك، وتتجاذبا الكلمات من أطرافها، والابتسامات من وجنَاتِها، وسرعان ما يقفز العابس المقطِّب إلى مرمى بصرِكَ من جديد، لكنَّه في هذه المرة مشغول بعناق طويل، وسلامٍ, حارّ، مع شخص كأنَّك تعرفُهُ من هيئته دون أن تتحقق من ملامحه تماما فسمته من القفا يشبه سمت شخص تعرفه معرفة أكيدة، فمثله لا يُنسى، وصنفان من الناس لا تمنحنا الذاكرة حق نسيانهم: صنف الطيبين الصادقين أولي المواقف التي تفيض بالإنسانية، والرقة، والعطف، والحنو، والإخاء، والمودة، والصفاء، الذين يحفرون في خلايا مُهَجِنا، ويوقِّعون في أعماق ذاكرتنا مواقفهم وصورهم وشخوصهم اسما، ورسما، ووسما، وصنف الجبابرة المتكبرين المسيئين، أولي الأفعال التي تنضح بالحقد و الحسد والطعن والتجريح الذين يحفرون في ذاكرتنا أخاديد، ونتوءات، ويخلِّفون في مهجنا جراح، ويغرسون في أكبادنا طعنات، كتلك التي تخلفها الدبابات في بستان عامر، فتحيله حفرا عميقة، وتعرٌّجات متشابكة، وتحرق فيه الأخضر واليابس، وتتركه قاعا صفصفا لا حياة فيه ولا رواء، ولا تذر في زواياه غير الدمار، والهشيم والهلاك والرماد والركام، والقتام، والأسى والجراح والدموع.
لقد كان هذا الشخص بكل ثقة وتأكيد من الصنف الثاني الذي طالما آذاك، وما زال يمعن في إيذائك، ويبالغ في طعنك، ويتمادى في ذبحك، دون هوادة، ولا رحمة، أو شفقة أو رقة، وطالما احتدم في محاولات النيل منك يوما بعد يوما، وكل ما تذكره من الأسباب التي تدفعه لذلك دون أن يصرح لك، أو يصارحك، أنك خالفته في وجهة نظر أثناء نقاش بين جماعة من الأقران والزملاء في لقاء ثقافي، أو ندوة سياسية، أو أمسية أدبية، أو اجتماع مهنيّ، أو دورة تدريبية، ويا لها من ذريعة واهنة، وحجة واهية في حقيقة أمرها، فالاختلاف سلوك بشري، ومنحىً طبيعيّ، وأمر جماليّ، وطبع أصيل في الفكر الإنسانيّ!!
أيصحٌّ بعد هذا أن يتذرع باختلاف وجهات النظر، ليتخذك عدوا أكثر عداوة من العدو؟
كلا!!
ولكنه اتخذ من اختلافك ذريعة ينطلق منها، وهو في حقيقة أمره يحسدك، ويبغضك ويحقد عليك، غير أنه لا يستطيع أن يبرز هوى نفسه وميلها، ولا أن يصارح أقرانه بما يعتمل في أتونها المشتعل، فوجد بشكل تلقائي نفسيٍّ, أنَّ خير وسيلة لتعويض نقصه، والتنفيس عن حقده وحسده، إمعانه المتواصل في النيل منك أمام أقرانه وأصحابه وأصدقائه، إن كان له فعلا أصدقاء، فمثله لا يعرف للصداقة معنى ولا شكلا ولا لونا غير ما يعود عليه بمنفعة.
وتأكيدا على مبالغته في النيل منك تقدم منك ذات يوم شخص لا تربطك به علاقة غير ما يربط الناس عموما ببعضهم البعض من تبادل ابتسامات، ورد تحية وسلام، أو تقديم نصيحة أو زيارة اجتماعية جماعية في فترات متباعدة الأزمان، أو اللقاء في مكان عام أو مسجد أو درس أو محاضرة، فقدم إليك بالدليل والبرهان ما يؤكد أن ذلك الشخص الذي عرفته من سيماء قفاه وملامحه البعيدة، عمل بكل ما أوتي من قوة على أن يؤلبه عليك، وأنه ممعن في تأليب كل من يجد لديه القدرة على تأليبهم عليك، ممن يدورون في دائرته، ويلفٌّـون في فلكه، وتنطلق بعدها لتتثبتº لكي لا تصيب الرجل بجهالة دون تبيّن، وتثبّت من واقع الحال فتجتمع لديك القرائن والأدلة، وعلى رأسها اعتراف صريح من الشخص المتجهم عينه لثقات أولي خلق ودين، حاوروه وناظروه واستدرجوه، فأقرَّ أنه ألَّبَ وقلَّب وحشد النقائص واختلق المثالب، لأنه يراك بعقله الباطني، ووعيه الداخلي، أهلا لذلك تستحق الثلب والقدح، ولو ألحٌّوا عليه لاستنطقوا فتواه الباطنة، بأنك أهل للموت والاندثار والزوال عن وجه المعمورة،...
وتنطلقُ قهقهاتٌ مجلجلَة، من جهة الشخصين الماثلين أمامك: المتجهم، وصاحبه الأكثر تجهما وقسوة، وتتصاعدُ حركات أيديهما في الهواء بصورة تنمٌّ عن سعادة باللقاء، وفرحة بالعناق تشي بطول اشتياق بعد مرارة فراق، وتصدر عنه التفاتة فتقع عيناك في عينيه مباشرة فإذا به هو هو عينه، فيشيح بوجهه متشاغلا بالحديث مع صاحبه، وتدرك حينها سر تلك البصقة، وحقيقة تلك التمتمات، وجوهر ما صاحبها من نظرات قاسيات...
وكم من الناس يتخذون من الآخرين مواقف قاسية وسلوكيات صارمة، ويقدمون إليهم كؤوس الجفاء مترعة بسُـمِّ الضغينة، ويمدٌّون لهم حبال الهباء، ويسلُقُونهم بألسنة أحد من شفرات الجزارين، دون أن يعرفوهم، أو يعاملوهم، أو يقابلوهم، أو يخالطوهم، لأنهم وقعوا في أحابيل الحاسدين، وشراك الحاقدين، وبَنَـوا تصوراتهم التي أنتجت مواقفهم على آراء غيرهم، فكانوا شخوصا باهتة لا حس فيها ولا حياة، وارتضوا لأنفسهم أن يكونوا هامشا لهم، وظلا لشخوصهم، يدورون معهم تارة، وحولهم تارة في فلك مصالحهم حيث داروا، دون أن يفتحوا بوابات عقولهم، لعبير التفكير الشذيِّ، ونوافذ قلوبهم لنسيم الصفاء النديِّ.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد