إننا - حقيقية لو أمعنا النظر إلى تزايد المشكلات بين الأفراد والأسر والمجتمعات لوجدنا أن السبب الأكبر هو تشوش في العقل وفساد في القلب وفحش في اللسان، وأن التقاطع والتدابر بدأ بأخذ مكانه نظراً لعدة أمور منها:
أ) التكالب على الدنيا والمنافسة عليها دون نظر أو اهتمام بالآخرة والتهيؤ للقاء الله - تعالى -.
ب) تزايد الفتن وتنوعها حتى إن الإنسان لا يفيق من واحدة حتى يرى أختها أكبر وأخطر منها.
إن اجتماع القلوب وتقارب النفوس مطلب مهم أولاه الإسلام أيما عناية وحث وحض على أسباب، تحصيله وحذر ونهى عن وسائل أضداده من التقاطع والتدابر..
ج) سرعة الأحداث وتكاثر الأخبار ونقل الكلام.
ولقد اشتد أثر اللسان في الأوقات المتأخرة وانضاف لذلك الكتابة اليدوية... بل لا تجد في وسائل الإعلام المسموعة والمرئية - ويلحق بهما المقرؤه آلة جارحة في الإنسان هي أنشط من اللسان... ولذا وقف الإسلام وقفه جادة لتقعيد فقه اللسان وضبط نشاطه وحركته بطريقة معتدلة دقيقة, فقد نهى في نصوص متكاثرة عن التقاطع والتدابر الذي يحل متى ما سلسلت عوامله فالتقت حول عنق الشخص عن القرب لنجعله... مقاطعاً... متباعداً... ومن تلك السلاسل:
1- الظن السيء والتجسس وتتبع العورات..
إنها سلسلة تبدأ من استحضار فكرة سيئة عن شخص ما، فيراد التحقق منها فيبدأ بالتجسس وتجميع خيوط حياة أو خطأ ذلك الشخص ولا يهدأ ذلك الظان حتى يتبع عورات أخيه وتعديد عيوبه... ومن ثم يقع التدابر والتصارم... لذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: \" إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث، ولا تحسسوا ولا تجسسوا... \" رواه البخاري.
إن من السهل جداً علي أن أجد عليك خطأ أو عيباً ما... لكن من الصعب على أنفسنا أن نوجد للأخطاء أعذاراً مع معالجتها معالجة صحيحة ناجحة تزيل الخطأ أو تقلله.
لقد أصبح لب مجهودات البعض منا في بيئتهº هو الترصد والتجسس وعد الزلات والهنات... أما قبول المعذرة... وحمل الكلام على أحسن المحامل فذلك يضعف في ممارستنا العملية... نظراً لاستحضار سوء الظن وتجميع قدر لا بأس به من الأخطاء.
إن من طلب المثالية في الواقع مع طلابنا وأبنائنا وإخواننا أمر ضعيف جداً إن لم يكن مستحيلاً.
وإن من الحكمة من المتعاشرين من الأبناء والطلاب والأصحاب أن نتغافل عن بعض الهنوات ولا نبالغ في تعداد أخطائهم، وأن نمنح من حولنا قدراً من الثقة وحسن الظن... وفرصة للاعتذار وقبولاً لمعذرتهم وعفواً عن زلاتهم قال الحسن بن علي - رضي الله عنه -: \" لو أن رجلاً شتمني في أذني هذه، واعتذر في الأخرى لقبلت\"
إن من السهل جداً علي أن أجد عليك خطأ أو عيباً ما... لكن من الصعب على أنفسنا أن نوجد للأخطاء أعذاراً مع معالجتها معالجة صحيحة ناجحة تزيل الخطأ أو تقلله.
وقيل:
قيل لي: قد أساء فيك فلان وقصور الفتى عن الضيم عار
قلت: قد جاءنا فأحدث عذراً دية الذنب عندنا الاعتذار
2- الغيبة والنميمة:
وهي سلسلة وحلقة تالية للظن السيء... فإذا ظن الإنسان سوءاً وتجسس... فإنه ينتقل مباشرة إلى الكلام عن ذلك الشخص بعيب أو خطأ فيه... وهذه غيبة... وهي ضربة قاتلة في وجه الأخوة الصادقة الإيمانية... ولربما كان ذلك الظآن في أخيه أو صديقه و قريبه... فقال فيه ما ليس فيه وهذا هو البهتان ولربما... سمع أخاه... يقول قولاً... فينقله مباشرة للآخرين... فيوغر الصدور فيقع في النميمة... إن هذه التسلسلية المقيتة حرمها الشارع.. فبحثها لنا من أصولها بحروف من نور في سورة الحجرات لتكون حجة على الناقلة والمنقولة إليهº قال - تعالى -:\" يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيراً من الظن إن بعض الظن إثم ولا تجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضاً.... \" فدل سياق الآية على الأمر بصون عرض المسلم غاية الصيانة لتقدم النهي عن الخوض فيه بالظنº فإن قال الظآن: أبحث لأتحقق، قيل له: \" ولا تجسسوا \"، فإن قال: تحققت من غير تجسس، قيل له: \" ولا يغتب بعضكم بعضاَ \" قال ذلك ابن حجر - رحمه الله - في الفتح (10/ 496).
وإن من هذه طبعه... من تتبع العورات وهتك الأعراض... ونقل الكلام لهو من شر الناس مقاماً عند الله - تعالى -فعن أسماء بنت يزيد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال \" ألا أنبئكم بشراركم؟ قالوا بلى يا رسول الله! قال المشاؤون بالنميمة، المفرقون بين الأحبة، الباغون للبرءا العنت \" رواه أحمد والطبراني.
وإن من العجيب جداً أن نتحرز دائماً من مد اليد على مسلم بسوء بينما نتساهل كثيراً في مد اللسان على مسلم بسوء والتناول من عرضه، و اللسان قسيم اليد... في تحقيق الإسلام فقد سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - \" أي الإسلام أفضل؟ قال من سلم المسلون من لسانه ويده \" رواه البخاري ومسلم, وفي رواية لمسلم \" المسلم من سلم المسلون من لسانه ويده... \" وحرمة العرض كحرمة المال والنفس سواء بسواء, قال - صلى الله عليه وسلم -: \" كل المسلم على المسلم حرام، دمه وماله وعرضه\" رواه مسلم, وأكد هذا المفهوم في المجامع العظيمة كحجته - صلى الله عليه وسلم – قائلاً: \" إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا وفي بلدكم هذا \" رواه البخاري.
وإن مما يضعف الحسد في القلوب ويزيله... محبة الخير للمتفوقين والفرح في حاجاتهم وتوفيق الله لهم... وأن تتعاون معهم بالخير والإحسان أو على الأقل... أن لا تقف حجر عثرة أمامهم... وأن تحفظ لسانك من أعراضهم.
3- الحسد والحقد...
وهما داءان قلبيان خطيران... إذا تناميا في قلب العبد.. أورداه المهالك... فأصبح يستمر في الكذب والغيبة والنميمة نظراً لما يرى من الناس من تميز أحد بعلم أو دعوة أو منصب أو مال أو شهرة، ومن ثم يحوك ذلك في قلبه... لماذا الناس يحبون فلاناً ويمليون إليه؟ وكيف وصل هذا الشخص لهذا الستوى الرفيع فيحاول الإنسان إيجاد مبررات سيئة لوصول ذلك الشخص لمثل هذا المستوى... تنتهي في الأخير لتشويه تلك الصورة الجميلة لذلك العامل النشط والقدوة الحسنة بأي مكان كان... إنها صورة تتكرر أحياناً... خاصة بين الأقران.
وعند هذا يقول كما يقول المتخصصون في السلوك والشريعة إن الحسد وكونه في طباع البشر وهو أن الإنسان يكره أن يقومه أحد من جنسه في شيء من الفضائل إلا أن المؤمن يجاهده ويخفيه والمنافق والمريض يظهره... ويبديه... وما حرم اليهود من الخير والهداية والتوفيق إلا لسبب الحسد الذي ملأ قلوبهم, كما قال - تعالى -:\" ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفاراً حسداً من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق \" الآية.
ولربما وقع... بين القريبين أو الصاحبين أو الزوجين مجادلة أو خصومة فتدخل العوامل النفسية الاستقامية... عن طريق الحسد، لا سيما إذا كان المخطئ محروماً أو متميزاً... فخذ من اللت والعجن في عرضه مبتدأ بالسلاسل الأولية من تقديم الظن السيء وجميع المعلومات وتعديد العيوب.. يقود ذلك إلى الحقد عليه والحسد من مواهبه أو تفوقه... إلخ فهل ستثمر تلك النفسية إلا السحق والمحق للآخر والتباعد الرهيب بينهما.
إن الله يوجه نبيه للتعامل اللطيف والعفو الكريم عنهم \": فاعف عنهم واصفح إن الله يحب المحسنين \" فهي دعوة لقطع سلاسل التدابر بالعفو والصفح والسماحة... ! والتدابر... يبدأ حينما تشتاق حسد أخيك... وإهمال الأخوة الغلبية اللازمة ولذا بدأ النبي - صلى الله عليه وسلم - بالنهي عنه... كما في مسلم قال النبي - صلى الله عليه وسلم - \" لا تحاسدوا ولا تباغضوا ولا تقاطعوا وكونوا عباد الله أخواناً كما أمركم الله \".
وإن مما يضعف الحسد في القلوب ويزيله... محبة الخير للمتفوقين والفرح في حاجاتهم وتوفيق الله لهم... وأن تتعاون معهم بالخير والإحسان أو على الأقل... أن لا تقف حجر عثرة أمامهم... وأن تحفظ لسانك من أعراضهم.
4- الكبر والعجب
نعم... قد يهب الله بعض عباده صفات كمالية من شكل أو علم أو عمل أو مال أو شهرة فيعجب بنفسه ويتيه بها... ومن ثم يتكبر على عباد الله فلا يراهم شيئاً... وهذه تحدث للإنسان أمرين:
أولاً: أنه لا يرى نقائصه... ويحس بأنه كامل فحينئذ يضعف عن مطالعة عيوبه... ومعالجتها وتلك قاصمة الكمال ووائدة الرجال وأهل النظر يقولون من أحس بأنه كمل فقد بدأ بالنقص المريع \"
ثانياً: إن الناس يكرهون كرهاً شديداً المعجب بنفسه المتكبر عليهم... وإن تبسموا في وجهه فمنهم من يلعنونه في داخلهم ويفرقون من مواجهته... ومن ثم يحل التدابر والتقاطع ولو أن الإنسان الذي وهبه الله صفات كمالية أزداد شكراً لله وتواضعاً لخلقه... وتدللاً لهم... لرزقه الله كمالاً إلى كماله بقدر خضوعه وشكره وقرب الناس إليه أكثر وأحبوه وليعلم أن الميزان ليس محصوراً بالأشكال والمحددات المادية الدنيوية... بل إن الخصائص الداخلية هي الأخطر وهي الجوهر... ولننظر كيف صحح النبي - صلى الله عليه وسلم - هذا المفهوم عند صحابته ففي صحيح البخاري عن سهل بن سعد قال: مر رجل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال لرجل عنده جالس \" ما رأيك في هذا؟ فقال رجل من أشرف الناس هذا والله حري إن خطب أن ينكح وإن شفع أن يشفع، وإن قال أن يسمع لقوله، قال فسكت النبي - صلى الله عليه وسلم -، ثم مر رجل آخر، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما رأيك في هذا؟ قال يا رسول الله هذا رجل من فقراء المسلمين هذا حري إن خطب أن لا ينكح، وإن شفع إن لا يشفع، وإن قال إن لا يسمع لقوله، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: \" هذا مشيراً إلى الفقير- خير من ملء الأرض من هذا.
إن التكالب على الدنيا والعجب بما آتى الله عبده والمنافسة على أخذ المكانات عند الناس والتحاسد لهي أمارات على داء قلبي وبيل يعتلي الشخصية ولا يبارك في الإنتاجية بل يؤدي إلى التآمر والتدابر, فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم – قال: \" سيصيب أمتي داء الأمم \" قالوا: يا نبي الله، وما داء الأمم؟ قال: الأشر و البطر والتكاثر والتنافس في الدنيا، والتباغض والتحاسد حتى يكون البغي ثم الهرج... رواه الحاكم وصححه ووافقه الذهبي وجود إسناده المنذري.
ما أجمل أن يستحضر الأب والمعلم والشيخ والمسئول العدالة والبراءة في الآخرين بدلاً من كيل الاتهامات ومن ثم رصد الأخطاء!!.
وما أسلم أن يحفظ المرء عينه عن التطلع لعورات المسلمين والبحث عن عيوبهم... ومن ثم يحجز لسانه عن الولوغ في أعراضهم ونشر أسرارهم وفضح عيوبهم... فهذا مقام عظيم في الإسلام.. وما أعظم أن يجاهد الإنسان نفسه بإصلاح قلبه ولسانه وجعلهما سليمين من حسد المسلمين والحقد عليهم.. وذل لا يتأتي إلا بإيصال الخير إليهم ومحبته لهم.
إن من جاهد نفسه لتحقيق ذلك فهو يكسر حلق التقاطع ويحل سلاسل التدابر من رفيقه وحياته، وهو دليل واضح على إيمانه، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: \" لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه \" رواه البخاري ومسلم.
فاللهم أصلح قلوبنا وزك أنفسنا وارحمنا برحمتكك يا أرحم الراحمين.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد