المنظار الأسود


  

بسم الله الرحمن الرحيم

مخلوق ضعيف، تظهر عناصرُ ضعفه في جسده، وتظهر في نفسه وسلوكه، فرُبَّ جرثومةٍ, لا يدركها الطَرفُ قتلته، أو جعلته طريحَ الفراش، وربَّ نظرة ملكت قلبه وهواه، وربَّ شهوة أخضعته وأذلته، وفي دار هوانٍ, أحلته.

 

إذا مرت الساعاتُ على غير ما يهوى تذمر، وإذا مسَّه الشرٌّ كان من ضعف صبره جزوعاً، وإذا مسَّه الخيرُ كان من ضعف إرادته عن مقاومة شحِّه منوعا، فهو ضعيف هلوع.

 

ذلك المخلوقُ الضعيفُ تراه مهموماً مغموماً يُكثر التفكير، ينظر إلى الناس نظراتٍ, غريبة، ينظر إليهم بمنظار أسود، يزداد همٌّه يوماً بعد يومº وسبب ذلك ظنونه السيئة بالآخرين، يُخفي حسناتهم ويُضخم سيئاتهم.

 

إنَّ هذا النوعَ من الناس دائماً يسارع إلى سوء الظن والاتهام لأدنى سبب، فلا يلتمس المعاذيرَ للآخرين، بل تجده يفتش عن العيوب، ويلتمس الأخطاءº ليضربَ بها الطبل، ويجعل الحبة قبة، والخطأ خطيئة، ومن الخطيئة كفراً، (إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَمَا تَهوَى الأَنفُسُ)، فلا حجة لديهم، ولا علم، ولا يقين إنما هو الظن.

 

ولو كان هناك قولٌ، أو فعلٌ يحتمل وجهين: وجهَ خيرٍ, وهداية، ووجهَ شرٍّ, وغواية، رجَّح احتمالَ الشرِّ على احتمالِ الخير.

 

ومتى انتهى الأمر إلى شهوة النفس وهواها - فلن يستقيم أمرٌ، ولن يجديَ هدىº لأن العلةَ ليست خفاءَ الحق ولا ضعفَ الدليل، إنما هو الهوى الجامح، وهذا هو الشر الذي تُصاب به النفس فلا ينفعها الهدى ولا يقنعها الدليل.

 

والإنسان حينما يسعى إلى تحقيق أمانيه في قضايا الحق والباطل - يتبع الظن الضعيف الذي لا تدعمه أدلة خبرية صحيحة، ولا أدلة حسية ولا فكرية، ثم يجعل الظن الضعيف حقيقة يعتقدها، لأن أمانيه تعلَّقت بها بتأثير دوافعه، وأهوائه، وشهواته، ومن أجل تحقيق أمانيه يغمضُ عينيه عن كل هداية تأتيه فتكشف له الحق وتبين له طريق النجاة والسعادة.

 

إنَّ آفةَ سوء الظن التي تغلغلت في أعماق نفوس ضعاف النفوس لم تقتصر على عامة الناس، بل تعدت إلى الخاصة وخاصة الخاصة، فلا يكادُ ينجو فقيهٌ، أو داعيةٌ، أو مفكرٌ، أو معلمٌ إلا مسه شواظٌ من اتهام هؤلاء، فإذا أفتى فقيهٌ بفتوى فيها تيسير على خلق الله ورفع الحرج عنهم - فهو في نظرهم متهاون بالدين.

 

وإذا عرض داعية مسلمٌ عرضاً يُلائم أحوالَ العصر، متكلماً بلسان أهل زمانه ليبين لهم فهو متهمٌ بالهزيمةِ النفسية أمام الغرب وحضارة الغرب.

 

ولم يقف الاتهام عند الأحياء، بل انتقل إلى الأموات الذين لا يستطيعون الدفاع عن أنفسهم، فلم يَدَعُوا شخصيةً من الشخصيات المرموقة إلا صوَّبوا إليها سهامَ الاتهام، فهذا عندهم كافرٌ، وهذا منافقٌ، وذاك زنديقٌ، وآخر مرتزقٌ، حتى أئمة المذاهب الأربعة لم يسلموا من ألسنتهم ومن سوء ظنهم، بل إن تاريخ الأمة لم يسلم من هؤلاء فقد زعم بعضهم أن الأمة قد كفرت بعض القرن الرابع الهجري، وفي زمن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال أحد أسلاف هؤلاء لسيد البشر - عليه أفضل الصلاة والتسليم - (إن هذه قسمة ما أريد بها وجه الله! اعدل يا محمد فإنك لم تعدل...).

 

إنَّ ولعَ هؤلاء بالهدمِ لا بالبناء ولعٌ قديم، وغرامُهم بانتقادِ غيرهم، وتزكيةِ أنفسهم شنشنةٌ قديمة معروفة والله - تعالى - يقول: (فَلا تُزَكٌّوا أَنفُسَكُم هُوَ أَعلَمُ بِمَن اتَّقَى).

 

ولعلَّ من أهم أسباب سوء الظن الغرورَ بالنفس والازدراءَ للغير والتعالي، يقول المصطفى - صلى الله عليه وسلم -: (ثلاث مهلكات: شح مطاع، وهوى متبع، وإعجاب المرء بنفسه)، فالمسلم لا يغترٌّ بعمله أبدا، ويخشى أن يكون فيه من الدخل والخلل ما يفسده ويحول دون قبوله وهو لا يدري، قال ابن عطاء: (ربما فتح الله لك باب الطاعة وما فتح لك باب القبول، وربما قدَّر عليك المعصية فكانت سبباً في الوصول، معصية أورثت ذلاً وانكساراً خير من طاعة أورثت عجباً واستكباراً).

 

وحسبنا من هذا كله قول ربنا - عز وجل -: (يَا أَيٌّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجتَنِبُوا كَثِيراً مِن الظَّنِّ إِنَّ بَعضَ الظَّنِّ إِثمٌ)، وقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: (إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث)، ورُوي عن عمر -رضي الله عنه- (ولا تظن بكلمة خرجت من أخيك المؤمن إلا خيراً وأنت تجد لها في الخير مخرجاً)، ورُوي عن بعض السلف قوله: (إني لألتمس لأخي المعاذير من عذر إلى سبعين، ثم أقول لعل له عذراً آخر لا أعرفه).

 

اللهم إنَّا نعوذ بك من الشيطان وشركه، وأن نقترف على أنفسنا سوءاً، ونعوذ بك من الظنِّ السيئ، ونسألك الهدى، والتقى، وحسن الظن بك، وحسن الظن بعبادك، وأن لا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنواº إنك على كل شيء قدير.

وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply

التعليقات ( 1 )

ترجمة

10:06:13 2016-07-15

السلام عليكم لو تضعون ترجمة الشيخ محمد الفوزان ومن هم شيوخه