بسم الله الرحمن الرحيم
ليس تفسيراً - وحاشا لله - ولكنها مقاربة أو محاولة للفهم، قد تخطئ وقد تصيب، إلا أن النية التي تكمن وراءها ربما تشفع لها أمام الله..
هزّتني مقاطع من سورة الأعراف.. تكشّفت لي فجأة عن تصوّر للوجود، كما يعرضه كتاب الله، ما خطر على بالي من قبل بهذا الوضوح والارتباط.
ودائماً كنت أقول بأن وقفة متأملة، أو محاولة جادة للمقاربة مع مقطع من كتاب الله، قد تفتح المغاليق، وقد تكون أكثر جدوى من عشر ختمات للقرآن الكريم !
هذا الكتاب الذي لا تنقضي عجائبه ولا يخلق على كثرة الردّ.. صدقت يا رسول اللهº فأنت بكلماتك هذه أوجزت المعجزة وقلت فيها ما يكفي.. ولكن أين القلوب التي تحسّ، والعقول التي ترى، وكيف تُكسر الأقفال التي خُتمت بالشمع الأحمر على الأفئدة والأسماع والأبصار؟!
هزتني مقاطع من سورة الأعرافº إذ وجدتني ـ فجأة ـ قبالة حالة أو وضع يريد الله ـ جلّت قدرته ـ أن يتحقق في هذا العالم.. مع الإنسان تماماً.. لصالحه تماماً.. على كل المستويات.. سعادة، ورفاهية، وتوحّداً، وأملاً، وأمناً، وإصلاحاً، وعطاءً، وعمراناً، وعدلاً، وانسجاماً..
وإزاء حالة مضادة في الوقت نفسه، تسعى كلمات الله جلّ في علاه، إلى هدمها، وتدميرها، والانقلاب عليها، وإزالتها من الوجود.. ضد الإنسان تماماً.. ضد مصلحته ووضعه البشري على كل المستويات: تعاسة، وفقراً، وتمزقاً، ويأساً، وخوفاً، وإفساداً، وتخريباً، وكسلاً، وتشتتاً، وظلماً..
أكثر من هذا: إن الحالة الأولى تتجاوز الوفاق مع الذات والآخر.. تتجاوز المجتمع والبشرية والعالم، صوب الطبيعة والوجود والكون، لكي تجعلها جميعاً في صيغة توافق، وتضادٍ, مشترك، وعطاء، وتسخير، وتبادل في الأداء.. يؤول في نهاية المطاف إلى أقصى حالات الانسجام بين الإنسان والعالم والطبيعة والوجود والكون.. يشكل البيئة التي تتوحد فيها الظواهر والأشياء.. الإيقاع الذي يتحرك، وهو يسبّح بحمد الله، ويتوجه إليه وحده بلا شريك.. وحده بلا ندّ.. لكي يرتفع بالإنسان، أكثر فأكثر، يصعّد به في المراقي، يصنع الإنسان الكوني الذي يتجاوز شد الأرض وجاذبيتها إلى فوق..
وهو في مهرجانه المتسامي هذا.. بالإنسان والجماعة والحياة.. يستجيش كل الطاقات والقدرات البشرية: الروحية والعقلية والحسّية والوجدانية.. ويوظف كل إمكانات الطبيعة والعالم والوجود، بدءًا من دفق الضوء القمري ودفء الشمس، وانتهاء بالينابيع والجداول والأنهار والأمطار والنبات والحيوان.. كلها تتلاءم وتتواءم، لكي تقدم أقصى ما تستطيع أن تقدمه للإنسان، وبأكبر قدر من الأُلفة الميتافيزيقية والودّ والتوحّد والمحبة والتناغم والانسجام..
والنبوّات التي تتحدث عنها مقاطع سورة الأعراف هذه، إنما هي في نهاية الأمر وبدئه، نبوة واحدة.. هي الدعوة نفسها.. الصوت والنداء والفاعلية المتواصلة في الزمن والمكان، من أجل الخروج بالإنسان من ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن عبادة العباد إلى عبادة الله وحده..
إن الحالة الضدّ التي تتحدث عنها الآيات البينّات حيناً، وتتركها حيناً آخر، لكي يتملاّها الذهن كصيغة مضادة للقيم والمرتكزات الإيجابية التي ألمحنا إليها قبل قليل.. هذه الحالة التي يدينها كتاب الله ويعلن الحرب عليها.. ما الذي تصنعه بالإنسان.. وإلى أي المآزق تقوده، وعبر أي من الطرق المعوجة تمضي به لكي ما تلبث أن تمرّغه بالتراب، وتحجر عليه في الثقوب الضيّقة، وتدفن وجوده البشري في لزوجة الطين وشدّ الجاذبية.. وتضيّق الخناق على وضعه في العالم لكي يغدو بموازاة عالم النحل والنمل والأنعام والحيوان.. ؟!
تريد الحالة الأولى أن يصير الإنسان إنساناً، وأن تكون قامته مرفوعة إلى فوق، عالية بما هي قامة إنسان أُريد له أن يكون سيد المخلوقات جميعاً.. وتريد الحالة الثانية أن يتضاءل الإنسان، ويتقزّم، وتنكمش قامته، وينكفئ في الجحور الضيقّة كما تنكمش الحشرات، وهي تأوي إلى ثقوبها تحت الأرض، وكما تلجأ الأنعام إلى حظائرها خوفاً من البرد والمطر والزمهرير..
نداء التوحيد والنبوة هو النداء الوحيد لتحرير الإنسان من مصير كهذا.. وهو الدرب الوحيد لاجتياز المحنة، والانطلاق إلى الأفق العريض المضيء المفتوح، ليس فقط على ساحة العالم، وإنما على مدى الكون كلّه.. وليس وراء ذلك إلاّ الضياع، والحيرة، والضلال.. وليس ثمة طريق ثالث.. أبداً.. إما هذا أو ذاك..
يعجز القلم عن ملاحقة الايماضات التي تشع بها آيات سورة الأعراف تلك.. عن التعبير عن العالم الجميل السعيد المتوافق المضيء الذي ترسمه وتومئ إليه.. وعن نقيضه البشع.. الشقي.. الممزق.. المعتم الذي تحذّر من الاندفاع إليه..
يعجز القلم.. رغم أنه يملك مفردات واحدة من أكثر لغات العالم خصباً، عن أن يحقق التغطية الشاملة لكل المعاني التي تفجّرها كلمات الله.. لكل الومضات التي تنقدح في الذهن والوجدان، قبالة هذا المقطع أو غيره، فلا تقدر اللغة ـ مهما دقّت ورقّت ـ أن تعبر تماماً، وبالصدق المطلوب، عما يتشكل في ذهن الإنسان ووجدانه، فيما تريد الآيات البيّنات أن تقوله، وترسمه، وتغري به، وتحضّ عليه.
مهما يكن من أمر، فإنها مرة أخرى، محاولة للفهم.. مقاربة، كما يصطلح الأدباء المحدثون، لحافات المنظور القرآني للعالم والحياة.. ولعلّ هذا يكفي..
في مساحة لا تتجاوز الصفحات الستّ.. وعبر عدد من الآيات لا يتجاوز البضع والأربعين من سورة الأعراف، يتحدث كتاب الله عن هذا كله.. يمنحنا ـ بعبارة أدق ـ هذا كلّه.. فمن يختار بعدها التعاسة على السعادة، والتمزّق على التوحّد، والحزن على الفرح، والظلم على العدل، والانكماش على الانتشار، والقيد على الحرية، والجحور الضيقة على الفضاء الواسع، وضيق الدنيا على سعتها، وجور الأديان على عدل الإسلام، وعبادة العباد والآلهة والطواغيت والظنون والشهوات والأهواء على عبادة الله وحده، والتمسّك بحبله الذي تتقطع دونه الحبال.. وبسلّمه الواصل بالخلود.. وبعلمه اللدّني ذي المصداقية المطلقة الذي يعلو
على المتغيّرات والنسبيات، والذي تتضاءل دونه وتتهافت كل المعارف والعلوم التي لا تستهدي بهديه، ولا تتلقى عنه الضوء والإشارة..
في مساحة لا تتجاوز الصفحات الستّ يجد المرء نفسه قبالة عقيدة ليست كالعقائد، ودين ليس كالأديان، وعبادة ليست كالعبادات.. ويجد معها حالة من الحزن والشجن على الإنسان الضائع، والمسيرة البشرية التائهة التي تتقاذفها الطواغيت والأرباب، والمصير الأسود الكالح الذي يُساق إليه بنو آدم، بقوة الإغراء الشيطاني، المضلّل، المخادع، الدجال.. ويتذكر الآية الكريمة، والنداء الإلهي المؤثر، المحزن: (يَا حَسرَةً عَلَى العِبَادِ مَا يَأتِيهِم مِن رَسُولٍ, إِلا كَانُوا بِهِ يَستَهزِئُونَ) [يّـس: 30] ويتذكر، بالأسى والشجن نفسه، وعد الله وأكذوبة الشيطان: [أَلَم أَعهَد إِلَيكُم يَا بَنِي آدَمَ أَن لا تَعبُدُوا الشَّيطَانَ إِنَّهُ لَكُم عَدُوُّ مُبِينٌ وَأَنِ اعبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُستَقِيمٌ) [يّـس: 60-61]
بإيجاز بالغ: إنه الصراط الذي تصوغه وتضيئه عبادة الله وحده.. وليس ثمة وراءه، قبله أو معه أو بعده، إلاّ التيه والتخبط والضلال.. لأنه ما من طريق، غير هذا الطريق، إلاّ وهو من عمل الشيطان الذي يسوق عباده إلى مصيدة الشرك، والتعدّد، والضياع..
وما لنا ألاّ نقرأ معاً المقطع المذكور من سورة الأعراف لكي نتدّبر معا ما تريد أن تقوله لنا آياته البيّنات:
(ولقد جئناهم بكتاب فصلناه على علم هدى ورحمة لقوم يؤمنون (52) هل ينظرون إلاّ تأويله يوم يأتي تأويله يقول الذين نسوه من قبل: قد جاءت رسل ربنا بالحق، فهل لنا من شفعاء فيشفعوا لنا، أو نرد فنعمل غير الذي كنا نعمل؟ قد خسروا أنفسهم وضل عنهم ما كانوا يفترون(53) إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يغشي الليل النهار، يطلبه حثيثاً، والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره، ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين (54) ادعوا ربكم تضرعاً وخفية إنه لا يحب المعتدين(55) ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها وادعوه خوفاً وطمعاً إن رحمة الله قريب من المحسنين(56) وهو الذي يرسل الرياح بشراً بين يدي رحمته، حتى إذا أقلّت سحاباً ثقالاً سقناه لبلد ميت فأنزلنا به الماء فأخرجنا به من كل الثمرات، كذلك نخرج الموتى لعلكم تذكرون(57) والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه والذي خبث لا يخرج إلا نكداً، كذلك نصرّف الآيات لقوم يشكرون(58).
في مقطع قرآني لا تتجاوز آياته السبع عدداً، نجد أنفسنا قبالة حوارٍ, محتدم، أو مجابهة حاسمة ـ بعبارة أدق ـ بين قيم الخير والشر.. بين الاستقامة والاعوجاج، وبين الهدى والضلال.. بين حياة آمنة، عاملة، مبدعة، متجددة، طيبة، يدعونا إليها القرآن.. وحياة وجلة، ساكنة، مفسدة، نكدة، خبيثة، ميتّة.. يغرينا بها الشيطان..
في الخطاب القرآني نجد أنفسنا إزاء مفردات العلم، والهدى، والرحمة، والحق، والعمل، والإصلاح، والإحسان، والبشرى، والطيب، والبعث، والشكر.. وفي الإغواء الشيطاني نجد أنفسنا إزاء مفردات: النسيان، والخسران، والضلال، والافتراء، والعدوان، والإفساد، والموت، والخبث، والنكد..
فمن منا يرتضي لنفسه أن يذهب مع الثانية ويتجاوز الأولى فيضع نفسه في دائرة الضنك والضيق والتعاسة والضلال.. ؟
إنها صفقة خاسرة بكل المعايير.. ومن أجل ذلك يمضي المقطع التالي في كتاب الله، عبر رحلة مكثفة مع النبوّات وهي ترفع الخطاب نفسه، على تقلّبها في الزمان والمكان، (أبلغكم رسالات ربي وأنصح لكم... )(62) (... أبلغكم رسالات ربي وأنا لكم ناصح أمين) (68) (... يا قوم! لقد أبلغتكم رسالة ربي ونصحت لكم ولكن لا تحبون الناصحين (79) (... يا قوم! لقد أبلغتكم رسالات ربي ونصحت لكم... !)(93).
ومرة أخرى نتذكر ـ ونحن نتابع مأساة الإنسان الضائع في العالم، المتكبّر على النصح، المتأبّي على الصلاح، المتخبّط في مصيدة الشرّ والضلال ـ نتذكر النداء الإلهي المؤثر المحزن. (يا حسرة على العباد ما يأتيهم من رسول إلاّ كانوا به يستهزئون) [ياسين: 30].. ونتذكر، بالأسى والشجن نفسه، وعد الله وأكذوبة الشيطان: (ألم أعهد إليكم يا بني
آدم ألاّ تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين. وأن اعبدوني هذا صراط مستقيم) [ياسين:60 ـ 61].
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد