لقد كثر الإسراف المذموم بين الناس في هذا الزمان، وأصبحوا يتباهون بل ويتنافسون في ذلك، فالغنى ينافس من هو أغنى منه، ومتوسط الحال يحاول أن لا يكون أقل من غيره، ثم يأتي الفقير المسكين ليغرق نفسه بالديون كي يصل إلى مقام في نظره يحمده الناس.
والأمثلة على ذالك كثيرة من واقعنا كالتباهي في الملابس الفاخرة، والسيارات الفخمة، والبيوت المزخرفة، والمبالغة في إقامة الحفلات والولائم بالتكاليف الباهظة، وكل ذلك من الإسراف والتبذير والتخوض في مال الله بغير حق، وسوف يسألون، مع ما فيه من الضرر العاجل في الدنيا، فإن الإغراق في الملذات، والإكثار من تناول المشتهيات، والتوسع في مطالب الحياة، وكثر الراحة، واستعمال الرقيق من الثياب والفرش والمراكب مما تزخر به حياة الناس اليوم إن ذلك كله من الترف المذموم، فقد ذم الله المترفين وبين مفاسد الترف في كتابه المبين، فأخبر أن المترفين هم أعداء الرسل، قال – تعالى -: (( وَمَا أَرسَلنَا فِي قَريَةٍ, مّن نَّذِيرٍ, إِلاَّ قَالَ مُترَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرسِلتُم بِهِ كافِرُونَ ))[سبأ:34]، وأخبر أن الترف هو سبب هلاك الأمم قال – تعالى -:(( وَإِذَا أَرَدنَا أَن نٌّهلِكَ قَريَةً أَمَرنَا مُترَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيهَا القَولُ فَدَمَّرنَاهَا تَدمِيراً )). ولاشك أيها الأخوة القراء أن من أوتي مالاً، فقد حمل مسئولية عظيمة قل من ينجو منها، فهذا نبي الله سليمان - عليه السلام - عده من البلاء قال – تعالى -:(( فَلَمَّا رَءاهُ مُستَقِرّاً عِندَهُ قَال هذَا مِن فَضلِ رَبّى لِيَبلُوَنِي أَأشكُرُ أَم أَكفُرُ وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشكُرُ لِنَفسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبّى غَنِىُّ كَرِيمٌ )) [النمل:40].
ولعلي أوضح قضية يحصل فيها الخلط ألا وهى أن هناك فرق بين الإسراف والتبذير:
فالإسراف: هو مجاوزة الحد في الحلال: قال – تعالى -:(( وكلوا وَاشرَبُوا وَلاَ تُسرِفُوا إِنَّهُ لاَ يُحِبٌّ المُسرِفِينَ )) فقد أباح الله الأكل والشرب من الحلال، ونهانا عن الإسراف في ذلك وهو مجاوزة الحد في ذلك لما فيه من الضرر على العقل والدين، لأن الشبع والري المفرطين يضران بالصحة، ويكسلان في العمل، ويحملان على الأشر والبطر والكبر فقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((مَا مَلأ ابن آدم وِعَاءً شَرّاً مِن بَطنٍ,، بِحَسبِ ابنِ آدَمَ أُكُلاتٌ يُقِمنَ صُلبَهُ، فَإِن كَانَ لا مَحَالَةَ فَثُلُثٌ لِطَعَامِهِ، وَثُلُثٌ لِشَرَابِهِ، وَثُلُثٌ لِنَفَسِهِ)) قال بعض الأطباء: لو استعمل الناس هذا الحديث لسلموا من الأمراض والأسقام، ولتعطلت دكاكين الصيادلة، وإنما قيل هذا لأن أصل كل داء التخم.
وكما أن الشبع يضر البدن، فكذلك هو يقسي القلب، ويورث الهوى والغضب.
وأما التبذير: فهو الإنفاق في الحرام ولو ريال واحد قال – تعالى-:(( وَءآتِ ذَا القُربَى حَقَّهُ وَالمِسكِينَ وَابنَ السَّبِيلِ وَلاَ تُبَذّر تَبذِيراً * إِنَّ المُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخوانَ الشَّياطِينِ وَكَانَ الشَّيطانُ لِرَبّهِ كَفُوراً ))، وعلى كل حال فالإسراف والتبذير ينتج عنهما الترف.
وبالجملة فما ورد ذكر الترف في القرآن الكريم إلا وهو يحمل الذم والتحذير منه، وما ذلك إلا لما يشتمل عليه الترف من مفاسد، منها أنه يقضي على الرجولة والشهامة التي هي من مقومات الجهاد ومواجهة الصعوبات ويحل محلها النعومة والكسل والاسترخاء والميل إلى الراحة والبطالة، وبهذا تفقد الأمة قوتها، ويتغلب عليها أعداؤها، وتسقط هيبتها، ومن ثم قيل (الترف زمانة الأمم) أي مرض الأمم المزمن.
ومن مفاسد الترف أنه يهدم الصحة، ويضعف الجسم ويعرضه للإصابة بالأمراض الخطيرة والفتاكة، فإن المزيد من الرفاهية وقلة الحركة واستخدام السيارات، واستخدام المصاعد في البيوت والمكاتب، والجلوس على الكراسي اللينة، كل ذلك يقضي على قوة البدن، ويحوله إلى بدن منعم لين لا يتحمل أدنى مشقة، ويعرضه للإصابة بمختلف الأمراض القاتلة.
وهناك مسألة خطيرة وهى: أن الترف من الأسباب التي توجب دخول النار قال – تعالى -:(( وَأَصحَـابُ الشّمَالِ مَا أَصحَـابُ الشّمَالِ فِي سَمُومٍ, وَحَمِيمٍ, وَظِلّ مّن يَحمُومٍ, لاَّ بَارِدٍ, وَلاَ كَرِيمٍ, إِنَّهُم كَانُوا قَبلَ ذَلِكَ مُترَفِينَ )).
وأخيراً أقول لا ندعوا إلى عدم التمتع بما أحل الله - تعالى - ولكن باعتدال وبقدر وتوسط، ولو كانت الدنيا هي الباقية لما يجوع الرسول في الدنيا ويموت كسرى وقيصر حَبَطاً وتخمة من الأطعمة والأشربة، كيف يعيش في بيت من طين، ويعيش كسرى وقيصر في قصور الذهب والفضة والزبرجد؟ كيف يكتسي فلا يجد إلا قطعة من القماش يداولها زمناً، ويتحلى كسرى وقيصر بالإبريسم والحرير؟ يدخل عمر - رضي الله عنه وأرضاه - على الرسول في مشربة ( غرفة ) والرسول نائم وقد اعتزل نساءه، فيرى الرسول مضجعاً على حصير، وقد أثر الحصير والخصف وهذا اللحاف في جنبه، فينظر عمر إلى البيت فيرى شيئاً من الشعير معلق في السقف، فتدمع عين عمر، ويقول: يا رسول الله كسرى وقيصر وهم أعداء الله فيما هم فيه، وأنت رسول الله وحبيب الله وأنت في هذه الحالة؟ فيقول:(أَمَا تَرضَى أَن تَكُونَ لَهُم الدٌّنيَا وَلَنَا الآخِرَةُ)، أما ترضى أن يأكلوا ويسكنوا القصور ويتولوا ما أرادوا، ويتفكهوا بما أردوا، ويتمتعوا بما أرادوا، ولكن الآخرة بجناتها وأنهارها وقصورها للمتقين (( وَلَولاَ أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وحِدَةً لَّجَعَلنَا لِمَن يَكفُرُ بِالرَّحمَـنِ لِبُيُوتِهِم سُقُفاً مّن فِضَّةٍ, وَمَعَارِجَ عَلَيهَا يَظهَرُونَ وَلِبُيُوتِهِم أَبواباً وَسُرُراً عَلَيهَا يَتَّكِئُونَ وَزُخرُفاً وَإِن كُلٌّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَـاعُ الحَيَوةِ الدٌّنيَا وَالآخِرَةُ عِندَ رَبّكَ لِلمُتَّقِينَ )).
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد