فالكذب أمره خطير وشره مستطير، انتشر في كل مكان وظهر في كل زمان - إلا ما رحم الرحمن - فهو من كبائر الذنوب وفواحش العيوب، أبغض الأخلاق إلى كل الأنبياء، صاحبه في قلق واضطراب وحيرة وارتياب، ممحق للبركات، مكثر للسيئات، مفتاح لكل الموبقات، مغلاق لكل الخيرات، موجب للعذاب، طارد من الجنات إلى جحيم المهلكات.
مما يبكي العين ويدمي القلب أن مرض الكذب متغلغل في بعض النفوس كالسرطان الخبيث ويقع للأسف الشديد من الآباء أمام الأبناء، ومن المعلمين أمام المتعلمين، فصار المجتمع مريضًا - إلا ما رحم اللَّه - بهذا المرض العضال، فكان لابد من وقفة للعتاب.
تعريف الكذب: يقول الإمام النووي - رحمه الله -: اعلم أن مذهب أهل السنة أن الكذب هو الإخبار عن الشيء بخلاف ما هو عليه سواء تعمدت ذلك أم جهلته لكن لا يأثم في الجهل وإنما يأثم في العمد. [الأذكار: ص474]
فالكذب: هو أن يخبر الإنسان بخلاف الواقع، فيقول: حصل كذا وهو كاذب، أو قال فلان كذا وما أشبه ذلك فهو الإخبار بخلاف الواقع. [رياض الصالحين ص560].
التخويف من الكذب: حديث القول عن الكذب: الكذب من السلوكيات المذمومة التي حذر منها القرآن في 283 آية من كتاب اللَّه - عز وجل -. [المعجم المفهرس ص598].
هناك آيات تحمل التهديد الأكيد والوعيد الشديد، ومن الخوف المزيد لمن كان الكذب سلوكه وخلقه ومسلكه من هذه الآيات:
1- الحرمان من نعمة الهداية: قال - تعالى -: (إن الله لا يهدي من هو مسرف كذاب) [غافر: 28]، في هذه الآية تهديد وتخوف من الكذب لأن الكذاب محروم وبعيد عن هداية اللَّه - تعالى - بعيد عن الصراط المستقيم لأنه اختار الطريق المعوج المظلم طريق الكذب.
2- الطرد من رحمة اللَّه - تعالى -: قال - تعالى -: (لعنة الله على الكاذبين) [آل عمران: 61]. الكذاب مطرود من رحمة اللَّه - تعالى -، هذه الرحمة يتمناها كل صاحب عقل وقلب رشيد.
حديث السنة عن الكذاب: السنة النبوية المطهرة فيها أحاديث تشيب لها الولدان من شدة الخوف والتحذير من الكذب فعلى سبيل المثال:
عن عبد اللَّه بن مسعود - رضي الله عنه -: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إياكم والكذب فإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، وما يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند اللَّه كذابًا». [البخاري 6094، ومسلم 2607]
نلاحظ في هذا الحديث لهجة التحذير والتخويف في قوله: «إياكم»، لماذا؟ لأن الكذب يؤدي إلى الفجور.
ما معنى الفجور؟ قال الراغب: أصل الفجور الشق، فالفجور شق في ستر الديانة ويطلق على الميل إلى الفساد وعلى الانبعاث في المعاصي وهم اسم جامع للشر.
[فتح الباري 524110]
والفجور: هو الميل عن الحق والاحتيال في رده، ومعنى قوله - صلى الله عليه وسلم -: «إياكم والكذب» يعني: ابتعدوا عنه واجتنبوه، وهذا يعم الكذب في كل شيء ولا يصح قول من قال: إن الكذب إذا لم يتضمن ضررًا على الغير فلا بأس به فإن هذا قول باطل، لأن النصوص ليس فيها هذا القول والنصوص تحرم الكذب مطلقًا يعني إذا كذب الرجل في حديثه فإنه لا يزال فيه الأمر حتى يصل إلى الفجور والعياذ بالله هو الخروج عن الطاعة والتمرد والعصيان. [شرح رياض الصالحين 19114]
2- الكذب مفتاح النفاق: عن عبد اللَّه بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما -: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أربع من كن فيه كان منافقًا خالصًا، ومن كانت فيه خلة منهم كانت فيه خلة من النفاق حتى يدعها: إذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا وعد أخلف، وإذا خاصم فجر». [البخاري 34، ومسلم 58]
معنى خلة: خصلة أو صفة.
قال الإمام النووي - رحمه الله -: الذي قاله المحققون والأكثرون وهو الصحيح المختار: أن معناه أن هذه الخصال خصال نفاق، وصاحبها شبيه بالمنافقين في هذه الخصال ومتخلق بأخلاقهم، فإن النفاق هو إظهار ما يبطن خلافه وهذا المعنى موجود في صاحب هذه الخصال، قوله - صلى الله عليه وسلم -: «كان منافقًا خالصًا». معناه شديد الشبه بالمنافقين بسبب هذه الخصال. [شرح مسلم 2/236]
قال الحافظ ابن حجر: المراد بإطلاق النفاق الإنذار والتحذير عن ارتكاب هذه الخصال.
[فتح الباري 1/113]
3- الكذب خيانة كبيرة: عن النواس بن سمعان - رضي الله عنه - قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «كبرت خيانة أن تُحدث أخاك حديثًا هو لك مصدق وأنت له كاذب».
[قال الحافظ العراقي في تخريج الإحياء (3/147): رواه أحمد والطبراني بإسناد جيد]
قيل في منثور الحكم: الكذب لص لأن اللص يسرق مالك والكذب يسرق عقلك، وقال علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -: الكذاب كالسراب.
[أدب الدنيا والدين ص264]
آفات الكذب: للكذب آفات وأضرار متوالية في الليل والنهار لا تنتهي إلى أن تقوده إلى النار، من هذه العقوبات والآفات:
أولاً: في الدنيا:
1- انعدام الراحة والأمن: عن أبي الحوراء السعدي قال: قلت للحسن بن علي: ما حفظت من رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: حفظت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك فإن الصدق طمأنينة وإن الكذب ريبة». [صححه الألباني في صحيح الترمذي 2518]
الريب: القلق والاضطراب.
[جامع العلوم والحكم ص169]
معنى ذلك: أن الكذب شك واضطراب، قلق وإزعاج وانعدام طمأنينة النفس، عدم هدوء البال وانشراح الصدر.
الكذب: جماع كل شر وأصل كل ذم لسوء عواقبه وخبث نتائجهº لأنه ينتج عنه النميمة والنميمة تنتج البغضاء والبغضاء تؤول إلى العداوة وليس مع العداوة أمن ولا راحة.
[أدب الدنيا والدين ص267]
2- الكذب يمرض القلب: الكذب يؤدي إلى مرض القلب والقلب المريض لا يشعر بالاطمئنان والسكينة ونجد ذلك بوضوح في قوله - تعالى -: (ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين (8) يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون (9) في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا ولهم عذاب أليم بما كانوا يكذبون) [البقرة: 8 - 10].
فالكاذب مريض القلبº لأن الكذب نقيض الصدق والصدق يهدي إلى البر والكذب يهدي إلى الفجور والإنسان الفاجر يحيا في الآلام النفسية بما تصوره له نفسه الأمارة بالسوء على أنه سعادة. [الكذب آفة العصر ص13]
3- دنيا الكذاب جحيم: قال الإمام ابن القيم: لا تحسب أن قوله - تعالى -: إن الأبرار لفي نعيم (13) وإن الفجار لفي جحيم [الانفطار: 13 - 14] مقصور على نعيم الآخرة وجحيمها فقط بل في دورهم الثلاثة كذلك، أعني دار الدنيا ودار البرزخ ودار القرار، فهؤلاء في نعيم وهؤلاء في جحيم، وهل النعيم إلا نعيم القلب، وهل العذاب إلا عذاب القلب؟!
وأي عذاب أشد من الخوف والهم والحزن وضيق الصدر وإعراضه عن اللَّه والدار الآخرة وتعلقه بغير اللَّه وانقطاعه عن اللَّه بكل وادٍ, منه شعبة، وكل شيء تعلق به وأحبه من دون اللَّه فإن يسومه سوء العذاب فكل من أحب شيئًا غير اللَّه عُذب به ثلاث مرات. [الجواب الكافي ص106]، وصدق اللَّه إذ يقول: ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا [طه].
5- زوال البركة والنماء: عن حكيم بن حزام - رضي الله عنه - عن النبي قال: «البيعان بالخيار ما لم يتفرقا، فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما، وإن كذاب وكتما مُحقت بركة بيعهما».
المعنى: إن كتما وكذبا: كتم البائع وأخفى عيوب السلعة فكذب وحلف بالأيمان المغلظة بأن سلعته سليمة وذكر ثمنًا مرتفعًا جدًّا لا تستحقه السلعة وكذب المشتري بأن أعطى البائع ثمن أقل ما تستحقه هذه السلعة مستغلاً صدق البائع نتيجة الكذب: ترتب على الكذب في البيع والشراء زيادة في الثمن أو زيادة في المبيع فإنه سحت والعياذ بالله لأنه مبني على الكذب والكذب باطل وما بني على باطل فهو باطل.
[شرح رياض الصالحين 4/192]
بسبب شؤم التدليس والخداع والكذب: يزيل اللَّه - عز وجل - بركة هذا البيع وبركة المكسب فترى الكذاب يزداد ربحه ولكن لا بركة فيه فيضيعه فيما لا فائدة فيه في المخدرات مثلاً ولا يبارك اللَّه في حياته ولا أهله ولا أولاده.
وقانا اللَّه وإياكم، والحمد لله رب العالمين.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد