الحمد لله، ثم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
فلقد فشى عند بعض المسلمين - هداهم الله - سوء الظن الذي هو أكذب الحديث، وأفسق الفسق فهو محرم مثل سوء القول، فكما يَحرُمُ على المسلم أن يحدِّث غيرَه بلسانه بمساوئ الغير، فليس له أن يحدث غيره ويسيء الظن بأخيه المسلم عقداً بقلبه، وحكماً على غيره ظناً بأمر سيء.
أما الخواطر وحديث النفس فهو معفوٌ عنه، ولكنَّ المنهي عنه أن يظن، والظن عبارة عما تركن إليه النفس ويميل إليه القلب(1) فيمتلئ قلبه بالظنون السيئة بالناس حتى يطفحَ على لسانِه وجوارحِه، فهم معه أبداً في الهمز واللمز، والطعن والعيب، والبغض يبغضهم ويبغضونه، ويلعنهم ويلعنونه، ويحذرهم ويحذرون منه(2).
الظن يخطيء ويصيب ولهذا أمر الله - تعالى - باجتناب كثير منه، وأخبر أن بعضه إثم: (يَا أَيٌّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجتَنِبُوا كَثِيراً مِن الظَّنِّ إِنَّ بَعضَ الظَّنِّ إِثمٌ).
ففي هذه الآية نهى الله - عز وجل - عن كثير من الظن السيء بالمؤمنين، وذلك كالظن الخالي من الحقيقة والقرينة، وكظن السوء الذي يقترن به كثير من الأقوال، والأفعال المحرمةº فإن بقاء ظن السوء بالقلب لا يقتصر صاحبه على مجرد ذلك، بل لا يزال به حتى يقول ما لا ينبغي، ويفعل ما لا ينبغي، وفي ذلك إساءة الظن بالمسلم وبغضه وعداوته المأمور بخلافها منه(3).
إن أسرار القلوب لا يعلمها إلا علام الغيوب، فليس لك أيها المسلم أن تعتقد في غيرك سوءاً إلا إذا انكشف لك بعيان لا يقبل التأويل، فإن لم ينكشف كذلك فإنما الشيطان يلقيه إليك، فينبغي أن تكذبهº فإنه أفسق الفسق وقد قال الله - تعالى -: (يَا أَيٌّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُم فَاسِقٌ بِنَبَإٍ, فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوماً بِجَهَالَةٍ,) وفي الحديث: (إن الله حرم من المسلم دمه وماله وأن يظن به ظن السوء).
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث).
إذا عُلم هذا فإن على من خطر عليه وسواس سوءِ الظن أن يبادر إلى علاجه، وأن يدفعه عن نفسه وذلك بالتقرير عليها أن حاله عنده مستور كما كان، وأن ما رأيته منه يحتمل الخير والشر.
فإن قيل: فبماذا يعرف عقد الظن والشكوك تجتاح، والنفس تحدث؟
فنقول: أمارة عقد الظن أن يتغير القلب معه عما كان فينفر عنه نفوراً ما، ويستثقله، ويفتر عن مراعاته، وتفقده، وإكرامه، والاغتمام بسببه، والمخرج منه لا يحققه - أي لا يحقق في نفسه بعقد ولا فعل -(4).
ومن العلاج ترك البحث عن عيوب الناس مع الانشغال بإصلاح عيوب النفسº فإن من انشغل بعيوبه عن عيوب غيره، أراح بدنه، ولم يتعب قلبهº فكلما اطلع على عيب لنفسه هان عليه ما يرى مثله من أخيه.
وإن من اشتغل بعيوب الناس عن عيوب نفسه - عمي قلبه، وتعب بدنه، وتعذر عليه ترك عيوب نفسه.
إذا أنـت عبت النـاس عابوا وأكثـروا * عليـك وأبدوا منك ما كـان يسـتر
إذا ما ذكرت النـاس فاتـرك عيوبهـم * فلا عـيب إلا دون ما منـك يذكر
متـى تلتمـس للنـاس عيباً تجد لـهم * عـيوباً ولكـن الـذي فيـك أكثر
فسـالمهـم بالكــف عنـهم فإنهـم * بعيـنك من عينيك أهدى وأبصر(5)
وصلى الله على نبينا محمد.
----------------------------------------
(1) موعظة المؤمنين للقاسمي.
(2) الروح لابن القيم.
(3) تيسير الكريم الرحمن للسعدي.
(4) موعظة المؤمنين للقاسمي.
(5) روضة العقلاء لابن حبان.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد