ليس في الإسلام قشور ولباب


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

يستهين كثير من المسلمين بالمظاهر الشرعية والآداب النبوية، نحو إعفاء اللحية، وقص الشارب، وتقصير الثياب، وحب التيامن في جميع الشأن كما هو هديه - عليه الصلاة والسلام -، ويعتبرون ذلك من النوافل والقشور التي لا قيمة لها ولا اعتبار، ولا يترتب عليها ثواب وعقاب، معترضين على من يأمرهم بذلك ببعض ظواهر النصوص، نحو قوله: \"إنما الأعمال بالنيات\"، وبنص مبتور: \"إن الله لا ينظر إلى أجسامكم ولا إلى صوركم، ولكن ينظر إلى قلوبكم\"1، وتمام الحديث: \"وأعمالكم\".

وجهلوا أو تجاهلوا أن الدين ليس فيه لباب وقشور، بل كله لباب، كله دين تعبدنا الله به، ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم -: \"هذا جبريل أتاكم ليعلمكم دينكم\"، وكان فيما علمهم بجانب مراتب الدين الثلاثة شيئاً من علامات الساعة الصغرى.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - مبيناً أن الصراط المستقيم يتكون من أعمال ظاهرة وباطنة، من اعتقادات، وعبادات، وعادات: (ثم الصراط المستقيم هو أمور باطنة في القلب، من اعتقادات وإرادات وغير ذلك، وأمور ظاهرة من أقوال وأفعال، قد تكون عبادات، وقد تكون عادات في الطعام، واللباس، والنكاح، والمسكن، والاجتماع، والافتراق، والسفر، والإقامة.

وهذه الأمور الظاهرة والباطنة بينهما ارتباط ومناسبة، فما يقوم بالقلب من الشعور والحال يوجب أموراً ظاهرة، وما يقوم بالظاهر من سائر الأعمال يوجب للقلب شعوراً وأحوالاً). 2

فالإسلام يتكون من أعمال القلوب والجوارح، من عقائد، وعبادات، ومعاملات، وسلوك، فالظاهر عنوان الباطن.

رحم الله مالكاً الإمام، عندما استبطأه رجل استفتاه، وتأنى مالك في الجواب، فقال له الرجل: هذه مسألة يسيرةº قال له: ليس في الدين أمر يسير، وقد قال الله - تعالى -لرسوله - صلى الله عليه وسلم -: \"إِنَّا سَنُلقِي عَلَيكَ قَولا ثَقِيلا\"3.

كيف يكون في الدين أمر يسير، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: \"واتقوا النار ولو بشق تمرة، فمن لم يجد فبكلمة طيبة\"4.

وقد غفر الله لبغي من بني إسرائيل سقت كلباً كان يأكل الثرى من العطش، فشكر الله لها ذلك وتجاوز عنها وأدخلها الجنة.

ودخلت امرأة النار في هرة ربطتها حتى ماتت، لم تطعمها ولم تدعها تأكل من خشاش الأرض كما صح بذلك الخبر.

هذا لا ينافي أن هناك أموراً مهمة وأخرى أهم في الدين، فالإيمان شعب وأقسام: \"أعلاها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان\". 5

قال الشيخ العثيمين - رحمه الله - في شرحه لرياض الصالحين6 معلقاً على الحديث رقم [8]: \"إن الله لا ينظر إلى أجسادكم ولا إلى صوركم، ولكن ينظر إلى قلوبكم\": (زاد مسلم وغيره في رواية: \"وأعمالكم\"، وهو مخرج في \"غاية المرام في تخريج الحلال والحرام\" [410]، وهذه الزيادة هامة جداً، لأن كثيراً من الناس يفهمون الحديث بدونها فهماً خاطئاً، فإذا أنت أمرتهم بما أمرهم به الشارع الحكيم، من مثل إعفاء اللحية، وترك التشبه بالكفار، ونحو ذلك من التكاليف الشرعية، أجابوك بأن العمدة على ما في القلب، واحتجوا على زعمهم بهذا الحديث دون أن يعلموا بهذه الزيادة الصحيحة الدالة على أن الله- تبارك وتعالى -ينظر أيضاً إلى أعمالهم، فإن كانت صالحة قبلها، وإلا ردها عليهم، كما تدل على ذلك عديد من النصوص، كقوله - صلى الله عليه وسلم -: \"من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد\". 7

والحقيقة فإنه لا يمكن تصور صلاح القلوب إلا بصلاح الأعمال، ولا صلاح الأعمال إلا بصلاح القلوب، وقد بين ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أجمل بيان في حديث النعمان بن بشير: \"..ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب\"8 [الحديث 593]، وحديثه الآخر: \"لتسوٌّنَّ صفوفكم أوليخالفن الله بين وجوهكم\"، أي قلوبكم [الحديث 1096]، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: \"إن الله جميل يحب الجمال\" [الحديث 617].

لقد أمرنا ربنا بالتأسي برسولنا وبأبي الأنبياء إبراهيم عليهما الصلاة والسلام، فقال: \"لَقَد كَانَ لَكُم فِي رَسُولِ اللهِ أُسوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرجُو اللهَ وَاليَومَ الآخِرَ\"9، وقال: \"قَد كَانَت لَكُم أُسوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذ قَالُوا لِقَومِهِم إِنَّا بُرَاء مِنكُم وَمِمَّا تَعبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ\"10.

وقال - صلى الله عليه وسلم -: \"الفطرة خمس: الاختتان، والاستحداد، وتقليم الأظافر، ونتف الإبط، وقص الشارب\". 11

وعد - صلى الله عليه وسلم - حسن السمت والدل من سمات النبيين، فقال: \"السمت الحسن جزء من خمسة وسبعين جزءاً من النبوة\"12.

وقال: \"السمت الحسن والتؤدة والاقتصاد جزء من أربعة وعشرين جزءاً من النبوة\". 13

وفي رواية: \"إن الهدي الصالح والسمت الصالح والاقتصاد جزء من خمسة وعشرين جزءاً من النبوة\". 14

ليس معنى هذا أن النبوة تتجزأ، وذلك أن النبوة اصطفاء واختيار، ولكن المراد أن هذه من خصال الأنبياء، فمن أخذ بها فقد أخذ بحظ وافر من سمتهم ودلهم.

بلغت الجرأة ببعض المستخفين بالهدي النبوي أن زعموا أن كثيراً من هذه المظاهر الإسلامية، نحو إعفاء اللحى، وقص الشوارب، والنهي عن الإسبال، وما شابهها من العادات التي كانت للعرب في جاهليتهم، وما علموا أن هذه من بقايا ملة إبراهيم وإسماعيل - عليهما السلام -، وحاشا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يكون مبعوثاً لإحياء العادات الجاهلية.

مما يدل على أهمية الهدي والسمت الصالح نهيه - صلى الله عليه وسلم - عن التشبه بالكفار، سيما اليهود والنصارى، وبإخوانهم من المشركين، ومن شياطين الإنس والجن، وعن تقليد الآباء والأجداد، حيث قال: \"ومن تشبه بقوم فهو منهم\". 15

وعدد شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - المواطن التي نهانا فيها الشارع الحكيم عن التشبه بالكفار في كتابه القيم \"اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم\"، فبلغت نيفاً وستين موضعاً.

وقال عز من قائل مبكتاً على المشركين الأوائل تقليدهم الآباء والأجداد، وحرصهم على تمسكهم بالعادات والتقاليد الجاهلية: \"إِنَّا وَجَدنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ, وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مٌّقتَدُونَ\". 16

يجب على المؤمن أن يكون معتداً بدينه، مستنكفاً ومستكبراً ومترفعاً عن تقليد الكفار والتشبه بهم، وألا يستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير.

لو لم يكن للمظاهر الإسلامية والسنن المرعية إلا غيظ أعداء الإسلام لكفاها فخراً، الأمر الذي حدا ببوش عندما أعلن حربه الصليبية على الإسلام والمسلمين القضاء عليها تماماً خاب فأله وخسر مسعاه زعمه أنه لا يريد أن يرى امرأة متحجبة ولا رجلاً ملتحياً.

من العجيب الغريب أن يفطن أعداء الإسلام لخطورة المظاهر الشرعية والهدي والسمت النبوي، ويغفل عن ذلك طائفة من المسلمين.

المانع الأساس لكثير من المسلمين من الالتزام بالهدي والسمت النبوي الكبر الذي سببه الجهل.

عن سلمة بن الأكوع - رضي الله عنه - أن رجلاً أكل عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بشماله، فقال: \"كل بيمينك\"، قال: لا أستطيعº قال: \"لا استطعت\"، ما منعه إلا الكبر، فما رفعها إلى فيه. 17

سبب النهي عن الأكل والشرب بالشمال مخالفة الشيطان، فإن الشيطان يأكل بشماله ويشرب بشماله.

لقد توعد الله المخالفين لأمره، الرادين لسننه، المجادلين فيها بقوله: \"فَليَحذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَن أَمرِهِ أَن تُصِيبَهُم فِتنَةٌ أَو يُصِيبَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ\"18، وقد أول الإمام أحمد - رحمه الله - الفتنة بالشرك.

كان الصحابة رضوان الله عليهم والسلف الصالح وقـَّافين عند حدود الله، رجَّاعين إلى الحق، ممتثلين لقوله-تعالى-: \"إِنَّمَا كَانَ قَولَ المُؤمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحكُمَ بَينَهُم أَن يَقُولُوا سَمِعنَا وَأَطَعنَا\"19، ولا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها، وقد صلح أولها بالاقتداء والتأسي برسولهم، وبالحذر من تقليد الكفار ومشابهتهم في كل صغير وكبير.

يتحتم على المرء المسلم أن يلتزم بالهدي والسمت النبوي في شأنه كله، سيما:

1. الالتزام بسنن الفطرة، نحو إعفاء اللحية، وقص الشارب، وشعر الرأس بحلقه كله أو تركه كله أو تقصيره كله، وعدم تقليد الكفار في ذلك.

2. حب التيامن في شأنه كله، في طهوره، وتنعله، ولباسه.

3. الزي واللباس.

4. طريقة الأكل والشرب وكيفيتهما.

5. الحذر من التشبه بالكفار، سيما في التحاكم إلى شرعهم، ووسائل التربية والتعليم، واللباس، والأعياد، والتكلم برطاناتهم إلا لضرورة.

6. التحرز من العادات والتقاليد والأعراف المخالفة لشرع محمد - صلى الله عليه وسلم -، خاصة في الأفراح والأتراح.

والله أسأل أن يردنا إليه جميعاً رداً جميلاً، وأن يحبب إلينا الإيمان ويكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان، وأن ييسرنا لليسرى وينفعنا بالذكرى، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله وسلم على من بعث بالمحجة البيضاء والحنيفية السمحة، لا يزيغ عنها إلا هالك، وعلى آله، وأصحابه، ومن والاهم إلى يوم الدين.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply