ها هو ذا، يقدم من بعيد، يحث المسير بخطىً ثابتة، يُحدّث هذا، ويخاطب ذاك، يرفل في ثوب الصحة والعافية، سليم الأعضاء، حاضر العقل، ثاقب البصر، صحيح السمع، قائم اللسان. توقف قليلاً ليعود بالذاكرة إلى الوراء، يقلب صفحات الحياة صفحة صفحة يتخطى من عمر الزمن عمرَه هو: عشرين عاماً، أو ثلاثين أو أربعين أو تزيد. عادت به ذاكرته إلى الأيام التي كان فيها حبيساً في بطن أمه، يتقلب في جوفها، يأتيه رزقه ولا يسعى إليه، يتنفس الهواء النقي في أمن وأمان.
من رزقه؟ من أرسل النسمات إلى صدره الصغيرº لتردد نفساً يبث الحياة فيه؟ من حفظه ورعاه، واحتواه وحماه؟ صدفة أم طبيعة؟ خابوا وخسروا \"وَمَا بِكُم مّن نّعمَةٍ, فَمِنَ اللَّهِ\" [النحل: 53].
من كونه وخلقه في جوف أمه؟ من ألهمك أن تلتقم ثديها وأنت لا تعلم شيئاً، ولا تملك لنفسك ضراً ولا نفعاً؟
إنها العناية الإلهية \"وَمَا بِكُم مّن نّعمَةٍ, فَمِنَ اللَّهِ، وَاللَّهُ أَخرَجَكُم مّن بُطُونِ أُمَّهَـاتِكُم لاَ تَعلَمُونَ شَيئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمعَ وَالابصَـارَ وَالافئِدَةَ لَعَلَّكُم تَشكُرُونَ\" [النحل: 78].
ثم كبرت وترعرعت شيئاً فشيئاً، يوم يسلمك إلى يوم، وشهر إلى شهر، وسنة إلى أخرى، كل هذا وأنت على أتم صحة، وأطيب حال، إلى أن بلغت مبلغ الرجال فضربت في الأرض كل صنوف الوسائل والطرق، لكسب الرزق والمعيشة، فألفيت السبل أمامك ميسرة، والأبواب مشرعة، إن ضاق سبيل اتسعت سبل، وإن أغلق باب، فُتحت أبواب.
أخرج مسلم وأحمد من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((يقول الله - عز وجل - يوم القيامة: يا ابن آدم حملتك على الخيل والإبل، وزوجتك النساء وجعلتك تربَع وترأس، فأين شكر ذلك؟)).
الشمس في موقعها بدقة، لو اقتربت قليلاً، لاكتوى الخلق بنار محرقة وحر لا يطاق، ولو تباعدت يسيراً لكسى الكون الجليد.
من الذي جعل لها مكاناً لا تحيد عنه، وفلكاً لا تخرج منه؟
\"وَالشَّمسُ تَجرِى لِمُستَقَرّ لَّهَـا ذَلِكَ تَقدِيرُ العَزِيزِ العَلِيمِ وَالقَمَرَ قَدَّرنَـاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالعُرجُونِ القَدِيمِ لاَ الشَّمسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تدرِكَ القَمَرَ وَلاَ الَّيلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلُّ فِي فَلَكٍ, يَسبَحُونَ\" [يس: 38-40].
بينما الأرض جدباء قاحلة، والسماء صافية تربعت في كبدها شمس الهاجرة، إذا بالغيم يتسابق من كل مكان لتبرق السماء وترعد، فتنثر ما فيها من خير على وجه الأرض القاحلة، فما هي إلا أيام قلائل، والخضرة تكسو الأرض بأنواع شتى من الزروع والثمار.
من أمطر السماء؟ ومن فجر الماء؟ من أنبت الزرع ورعاه، فنمّاه ورباه؟
\"وَتَرَى الأرضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلنَا عَلَيهَا المَاء اهتَزَّت وَرَبَت وَأَنبَتَت مِن كُلّ زَوجٍ, بَهِيجٍ,\" [الحج: 5].
جبال راسيات، وبحور زاخرات، نبات وشجر، هواء وماء، كلها وغيرها قد سخرت لك، لك أنت ـ أيها الإنسان ـ: \"وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَـاواتِ وَمَا فِي الأَرضِ جَمِيعاً مّنهُ\" [الجاثية: 13].
فهل نحمد ونشكر، أم نجحد ونكفر؟!
وقبل هذه كلها وبعدها تلتفت يمنة ويسرة إذا بالأعداد ليست باليسيرة من الناس، وإذا بأكوام من البشر، يعبدون الحجر والشجر، ويسجدون للشمس والقمر، يؤلهون صنماً أو يتمسحون بقبر، ويخضعون لبشر، في حين أنك أنت اختارك الله واصطفاك وطهرك واجتباك، فكنت وما زلت عبداً لله، تنعم بالذل بين يديه \"مّلَّةَ أَبِيكُم إِبراهِيمَ هُوَ سَمَّـاكُمُ المُسلِمِينَ مِن قَبلُ وَفِى هَـذَا\" [الحج: 78]. وزادك الله شرفاً وعزاً يوم جعلك من خير أمة أخرجت للناس، أمة الخير والعطاء، نبيها أفضل الأنبياء - صلى الله عليه وسلم -، وكتابها خير الكتب، وشرعها خاتم الشرائع وناسخها.
إن دعوت فإلى الله تمد يديك، وتهمس بشفتيك، وإن استعنت فبالله وحده، إن ضاقت بك السبل وعظمت عليك البلايا فإليه ترفع حاجتك، وبه تنزل شكايتك، إن توكلت فعليه، وإن فررت فإليه، إن أحببت فله، وإن أبغضت ففيه، حياتك له، أقوالك وأفعالك، بل حتى همس لسانك، وخفقان قلبك، ونبض الحياة في عروقك، كلها لله، لله وحده دون سواه،
فهل بعد هذا العز من عز؟ وهل بعد هذه النعمة من نعمة؟ لا والله وألف لا، فحمداً لك ربنا وشكراً.
هل هي مسألة سهلة أن تمشي على قدميك، وقد بترت أقدام، وأن تعتمد على ساقيك، وقد قطعت سوق؟ أحقير أن تنام ملء عينيك وقد أطار الألم نوم الكثير وأن تملأ معدتك من الطعام الشهي، وتكرع من الماء البارد وفي الناس من عُكّر عليه الطعام، ونغص عليه الشراب بأمراض وأسقام؟ تفكر في سمعك وقد عوفيت من الصمم، وتأمل في نظرك وقد سلمت من العمى، وانظر إلى جلدك وقد نجوت من البرص والجذام، والمح في عقلك وقد أُنعم عليك بحضوره ولم تفجع بالجنون والذهول.
إنك في نعم عميمة، وأفضال جسيمة، ولكنك لا تدري. فكر في نفسك، وأهلك وبيتك وعملك وعافيتك وأصدقائك، والدنيا من حولك يعرفون نعمة الله ثم ينكرونها.
تخيل في لحظة اجتمعت عليك الهموم والغموم، وحلت بساحتك الأتراح والأحزان، مرض عضال، موت حبيب أو قريب، ضائقة في المال والعيش، أحسست معها أن الأرض على عظمها لا تسعك، ضاقت عليك بما رحبت، بل ضاقت عليك نفسك التي بين جنبيك، طرقت كل الأبواب، وقصدت أكثر السبل، فليس ثمة فرج، ويوماً بعد يوم إذا بالمصيبة يشتد وقعها، ويعظم أمرها حتى احتوى اليأس حياتك، فلم ترَ بارقة أمل، وعم دنياك ظلام دامس، لم ترفعه بصيص نور.
من حينها تذكرت أنك طرقت كل الأبواب إلا باباً واحداً، وخضت كل السبل إلا سبيلاً واحدة، ذكرت كل أحد، ونسيت الواحد - سبحانه -.
عندها رفعت يديك خاشعاً متذللاً خاضعاً مفتقراً، وعرضت حاجتك على مولاك وخالقك، فإذا بالفرج يطل على ربوعك، والحبور ينزل بساحتك، بعد أن شعرت أن قد فارقك وفارقته، بلا عودة ولا رجعة.
من فرج همك وأنس وحشتك وأزاح كربتك؟
إنه الله، فسبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم.
روى مسلم في صحيحه عن صهيب - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((عجباً لأمر المؤمن، أن أمره كله خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له)).
أخرج أحمد وأبو داود والنسائي وصححه الألباني من حديث معاذ - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخذ بيده وقال: ((يا معاذ، والله إني لأحبك، والله إني لأحبك، فقال: أوصيك يا معاذ، لا تدعن في دبر كل صلاة تقول: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك)).
قال علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -: (إن النعمة موصولة بالشكر، والشكر يتعلق بالمزيد، وهما مقرونان في قرن، فلن ينقطع المزيد من الله حتى ينقطع الشكر من العبد).
وقالت عائشة - رضي الله عنها -: (ما من عبد يشرب الماء القراح فيدخل بغير أذى ويُخرج الأذى إلا وجب عليه الشكر). والماء القراح: الذي لا يشوبه شيء.
وإن فئاماً من الناس ظن أن الشكر أحرف وكلمات، عبارات وهمسات، ينطق بها لسانه وقلبه غافل ساهٍ, جوارحه غارقة في المعاصي والآثام، العين تبصر ما تشاء ومن تشاء، والأذن تسمع ما تشتهي، واللسان ينطق بما يحلو له، والأقدام تسير، واليدان تبطشان دون مراعاة حلال أو حرام.
هل شكر نعمة الله، من ترعرع جسده، ونمت أحشاؤه مِنَ الربا والحرام؟
هل شكر نعمة الله من فرط في عمود دينه، فترك الصلاة أو تهاون في أدائها وأخرها عن أوقاتها؟
هل شكر نعمة الله من عق والديه وقطع رحمه؟
هل شكر نعمة الله من هجر كتاب ربه؟
هل شكر نعمة الله من أصغى بأذنيه إلى الغناء والطرب والملهيات؟
هل..وهل..أسئلة يطول المقام في سردها أنت أعلم بها مني.
يا أهل التوحيد، إن الشكر ليس مجرد ألفاظ تقال.
الشكر أن تسير حياتك كلها وفق مراد الله ورسوله، فلا تسمع إلا ما يرضي الله، ولا تبصر إلا ما يحبه، ولا تنطق إلا بما يقربك منه.
إن الشكر ـ يا عباد الله ـ قول وعمل، ألم تسمعوا قول ربكم ومولاكم: اعمَلُوا ءالَ دَاوُودَ شُكراً وَقَلِيلٌ مّن عِبَادِىَ الشَّكُورُ [سبأ: 13].
وقال أبو عبد الرحمن السلمي: (الصلاة شكر، والصيام شكر، وكل عمل تعمله لله شكر وأفضل الشكر الحمد).
روى أبو داود والنسائي في اليوم والليلة من حديث عبد الله بن غنام البياضي - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من قال حين يصبح: اللهم ما أصبح بي من نعمة أو بأحد من خلقك فمنك وحدك لا شريك لك فلك الحمد ولك الشكر، فقد أدى شكر يومه. ومن قال ذلك حين يمسي، فقد أدى شكر ليلته)).
واسمع إلى الحسن البصري - رحمه الله - ينذر ويحذر قال: (إن الله ليمتع بالنعمة ما شاء الله، فإذا لم يُشكر عليها قلبها عذاباً)، ولهذا كانوا يسمون الشكر الحافظº لأنه يحفظ النعم الموجودةº والجالب لأنه يجلب النعم المفقودة.
وأخيرا:
فكن شاكراً لله نعمه، مؤدياً حقَّها الذي أوجب عليك فإنها نعم تبقى مع الشكر، وتترحَّل مع كفرها عياذاً بالله.
نسأل الله أن يديم علينا نعمته، وأن يجعلها عوناً لنا على ما يرضيه، إنه على كل شيء قدير.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد