الخطبة الأولى:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
أيها الناس: اتقوا الله وأطيعوه، فإنه - تعالى- أمركم بذلك فقال: ((يَا أَيٌّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِن نَفسٍ, وَاحِدَةٍ, وَخَلَقَ مِنهَا زَوجَهَا وَبَثَّ مِنهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيكُم رَقِيباً))[النساء: 1].
أيها الإخوة الكرام: إن الله - تعالى - خلق الخلق لعبادته، وبعث الرسل إلى الناس ليعبدوه وحده لا شريك له قال - تعالى-: ((وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعبُدُوا اللَّهَ مُخلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ))[البينة: 5]، وقال جل ذكره: (( وَمَا أَرسَلنَا مِن قَبلِكَ مِن رَسُولٍ, إِلا نُوحِي إِلَيهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعبُدُونِ ))[الأنبياء: 25]، وقال - تعالى-: ((وَلَقَد بَعَثنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ, رَسُولاً أَنِ اعبُدُوا اللَّهَ وَاجتَنِبُوا الطَّاغُوتَ ))[النحل: 36].
وعبادة الله - سبحانه وتعالى - لا تقوم إلا بالإخلاص له، فالإخلاص هو حقيقة الدين، ولب العبادة، وشرط في قبول العمل، وهو بمنزلة الأساس للبنيان، وبمنزلة الروح للجسد، ولذلك لما كانت أعمال الكفار لا توحيد فيها ولا إخلاص، جعلها الله - تعالى - هباءً منثوراً قال - تعالى-: (( وَقَدِمنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِن عَمَلٍ, فَجَعَلنَاهُ هَبَاءً مَنثُوراً ))[الفرقان: 23]، وهذا الإبطال والإحباط نصيب كل من لم يخلص العمل لله - تعالى- وقصد غيره قال - تعالى-: (( مَن كَانَ يُرِيدُ الحَيَاةَ الدٌّنيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيهِم أَعمَالَهُم فِيهَا وَهُم فِيهَا لا يُبخَسُون أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيسَ لَهُم فِي الآخِرَةِ إِلا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعمَلُونَ ))[الإسراء: 15، 16].
فيا خيبة من جاء بأعمال مثل الجبال يجعلها الله هباء منثوراً، ويكبه على وجهه في النار، فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - مرفوعاً: (إن أول الناس يقضى يوم القيامة عليه رجل استشهد، فأُتي به فعرفه نعمه فعرفها، قال: فما عمِلتَ فيها؟ قال: قاتلت فيك حتى استشهدت، قال: كذبت، ولكنك قاتلت لأن يقال: جريء فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار، ورجل تعلم العلم وعلّمه، وقرأ القرآن، فأتي به فعرفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: تعلمت العلم وعلّمته، وقرأت فيك القرآن، قال: كذبت، ولكنك تعلمت العلم ليقال: عالم، وقرأت القرآن ليقال: هو قارئ فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار، ورجل وسّع الله عليه، وأعطاه من أصناف المال كله، فأتي به فعرفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: ما تركت من سبيل تحبّ أن ينفق فيها إلا أنفقت فيها لك، قال: كذبت، ولكنك فعلت ليقال: هو جواد فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه، ثم ألقي في النار)[1] نعوذ بالله من الخذلان.
فسبحان من لا تخفى عليه خافية، بل يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، فإن المرء مهما ضلّل الناس وخدعهم ظاهره وصورته فإن هذه الظواهر والصور وهذا التزييف والتضليل لا يغني عنه شيئاً، أما عند الله - تعالى - فقد قال في كتابه: (( إِنَّ المُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُم ))[النساء: 142]، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم)[2].
أما الناس فسرعان ما ينكشف الستار، وتبدو الحقيقة للأنظار، إما في الدنيا أو في دار القرار قال الله - تعالى-: (( فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمكُثُ فِي الأَرضِ كَذَلِكَ يَضرِبُ اللَّهُ الأَمثَالَ ))[الرعد: 17].
أيها المسلمون: اعلموا أن من أعظم أسباب تخلّف الإخلاص وغيابه في الأعمال هو طلب الدنيا، أو محبة المدح والثناء، قال ابن القيم - رحمه الله -: \"لا يجتمع الإخلاص في القلب ومحبة المدح والثناء والطمع فيما عند الناس إلا كما يجتمع الماء والنار، والضب والحوت\"، وقال - رحمه الله -: \"فإذا حدثتك نفسك بطلب الإخلاص فأقبل على الطمع أولاً فاذبحه بسكين اليأس، وأقبل على المدح والثناء فازهد فيهما زهد عشاق الدنيا في الآخرة، فإذا استقام لك ذبح الطمع والزهد في الثناء والمدح سهل عليك الإخلاص، فإن قلت: وما الذي يسهل علي ذبح الطمع والزهد في الثناء والمدح؟ قلت: أما ذبح الطمع فيسهله عليك يقينك أنه ليس شيء يطمع فيه إلا هو بيد الله وحده لا يملكه غيره، ولا يؤتي العبد منه شيئاً سواه، وأما الزهد في الثناء والمدح فيسهله عليك علمك أنه ليس أحد ينفع مدحه ويزين، ويضر ذمه ويشينº إلا الله وحده، فازهد في مدح من لا يزينك مدحه، وفي ذم من لا يشينك ذمه، وارغب في مدح من كل الزين في مدحه، وكل الشين في ذمه\".
فإذا جاهد العبد نفسه حتى زهد في الدنيا، وفي مدح الناس وثنائهم، وقصد الله في عملهº كان من أهل الإخلاص الذين أعمالهم كلها لله - تعالى -، وأقوالهم لله، وحبهم لله، وبغضهم لله، فمعاملتهم ظاهراً وباطناً لوجه الله وحده، لايريدون بذلك من الناس جزاءً ولا شكوراً، ولا ابتغاء الجاه عندهم، ولا طلب المحمدة والمنزلة في قلوبهم، ولا هرباً من ذمهم، وبهذا تكون أقوى الناس، لأن وليك حينئذ هو مولاك القوي المتين، وبهذا تكون من أهل الكرامة في هذه الدار، وفي دار الجزاء.
الخطبة الثانية:
أما بعد: أيها المسلمون، إن لإخلاص العمل لله - تعالى- فوائد كثيرة، أذكر بعضها عسى أن تكون حافزة لنا إلى مزيد من الاجتهاد، والعمل في تحقيق الإخلاص لله - تعالى- في الأقوال والأعمال.
اعلموا أن من فوائد الإخلاص: أن الأقوال والأعمال لا تقبل إلا إذا صاحَبها الإخلاص، فالأعمال مهما حسن أداؤها إذا لم يصاحبها إخلاص لله - تعالى- فهي مردودة حابطة، فعن أبي أمامة مرفوعاً: (إن الله لا يقبل من العمل إلا ما كان له خالصاً، وابتغي به وجهه)[3]، وكذلك الأقوال، قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في وصف أسعد الناس بشفاعته يوم القيامة: (من قال: لا إله إلا الله خالصاً من قلبه)[4].
ومنها: أن الإخلاص سبب لقوة القلب، ورباطة الجأش، وتحمل أعباء العبادة وتكاليف الدعوة، ولو تأمل الواحد منا حال بعض المخلصين الصادقين لتبين له ذلك، فمن ذلك رباطة جأش النبي وقوته مع توافر أسباب الهلاك عليه، حيث قال لصاحبه وهو في الغار: (( لا تَحزَن إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ))[التوبة: 40].
فالإخلاص والصدق مع الله - تعالى- يعين على النهوض بالحق، ومجابهة الباطل، مهما عظمت قوة الباطل، فهذا نبي الله هود لم تكن له آية بارزة كما كان لغيره من الأنبياء، دعا قومه إلى عبادة الله وحده وترك عبادة ما سواه، فجادله قومه، وقالوا كما قص الله علينا نبأهم في كتابه: (( قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئتَنَا بِبَيِّنَةٍ, وَمَا نَحنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَن قَولِكَ وَمَا نَحنُ لَكَ بِمُؤمِنِين إِن نَقُولُ إِلا اعتَرَاكَ بَعضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ, قَالَ إِنِّي أُشهِدُ اللَّهَ وَاشهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشرِكُون مِن دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنظِرُونِ ))[هود: 53-55].
ومنها: أن من فوائد الإخلاص التخلص من كيد الشيطان وتسلطه، قال الله - تعالى - إخباراً عما قاله إبليس لما طلب أن ينظره ربّ العالمين: (( إِلا عِبَادَكَ مِنهُمُ المُخلَصِينَ ))[الحجر: 40].
ومنها: أنه سبب لصرف السوء والفحشاء قال - تعالى - في قصة يوسف: (( وَلَقَد هَمَّت بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَولا أَن رَأى بُرهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصرِفَ عَنهُ السٌّوءَ وَالفَحشَاءَ إِنَّهُ مِن عِبَادِنَا المُخلَصِينَ ))[يوسف: 24].
ومنها: أن العمل القليل مع الإخلاص سبب للفوز برضا الله - تعالى-، ومن أمثلة ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم -: (اتقوا النار ولو بشق تمرة)[5]، فشق التمرة مع الإخلاص يقي النار بمنة الكريم المنان، وأطنان التمر مع الرياء تولج أسفل النيران قال - تعالى-: (( إِنَّ المُنَافِقِينَ فِي الدَّركِ الأَسفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُم نَصِيراً ))[النساء: 145].
قال ابن القيم - رحمه الله -:
واللهُ لا يرضى بكثــرة فعلنا ** لكـن بأحـسَنه مع الإيمــــــان
فالعارفون مرادهم إحسانه ** والجاهلون عموا عن الإحسان
بقي من الفوائد: أن العبد ينصر بإخلاصه، قال النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما أخرجه النسائي عن مصعب بن سعد لما رأى سعد بن أبي وقاص أن له فضلاً على من دونه: (إنما ينصر الله هذه الأمة بضعيفهاº بدعوتهم، وصلاتهم، وإخلاصهم)[6].
أيها الإخوة المؤمنون، اعلموا ـ وفقكم الله ـ أن الأعمال والطاعات لا تتفاضل بصورها وعددها، وإنما تتفاضل بتفاضل ما في القلوب، فتكون صورة العملين واحدة، وبينهما من التفاضل كما بين السماء والأرض، والرجلان يكون مقامهما في الصف واحداً وبين صلاتيهما كما بين السماء والأرض، فعن عمار بن ياسر - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله يقول: (إن الرجل لينصرف وما كتب له إلا عُشر صلاته، تُسعها، ثمنها، سُبعها، سُدسها، خمسها، ربعها، ثلثها، نصفها)[7]، فيا إخواني عليكم بتصحيح النيات والأعمال لله - تعالى-.
___________________________
[1] أخرجه مسلم في الإمارة (3527).
[2] أخرجه مسلم في البر والصلة (4651).
[3] أخرجه النسائي في الجهاد (3089).
[4] أخرجه البخاري في العلم (97).
[5] أخرجه البخاري في الزكاة (1328).
[6] أخرجه النسائي في الجهاد (3127).
[7] أخرجه أبو داود في الصلاة (675).
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد
التعليقات ( 1 )
احسن موقع
-ايوب التايدي
20:23:03 2019-10-30