الخطبة الأولى:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه أما بعد:
فإن الواجب على المسلم أن يقصد الله - سبحانه وتعالى - وحده بالعبادة في قوله وعمله، وجهاده ودعوته، وسائر أعماله، ويتبرأ من كل ما سوى الله، وذلك لا يكون إلا بإخلاص النية، والقصد والإرادة لله، وتخليصها من كل غرض دنيوي قال الله - تعالى-: (( قُل إِنَّ صلاتي وَنُسُكِى ومحياي ومماتي للَّهِ رَبّ العَـالَمِينَ لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذلِكَ أُمِرتُ وَأَنَا أَوَّلُ المُسلِمِينَ ))[الأنعام: 162-163]، وقال الله - تعالى-: (( وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعبُدُوا اللَّهَ مُخلِصِينَ لَهُ الدّينَ حُنَفَاء ))[البينة: 5]، وقال الله - تعالى-: (( فَمَن كَانَ يَرجُو لِقَاء رَبّهِ فَليَعمَل عَمَلاً صَـالِحاً وَلاَ يُشرِك بِعِبَادَةِ رَبّهِ أَحَدَاً ))[الكهف: 110]، وهذه الآية بينت أن ركني العمل وشرطي صحتهما إنما هو في الإخلاص والمتابعة فقوله: (( فَليَعمَل عَمَلاً صَـالِحاً )) أي صواباً على السنة ((وَلاَ يُشرِك بِعِبَادَةِ رَبّهِ أَحَدَاً )) أي إخلاصاً لله - عز وجل -، فهذان ركنا العمل الصالح، لا يقبل الله أي عمل إلا بهما.
إن العمل إذا كان لله فهو مقبول، وصاحبه مأجور عليه، وإن كان لغير الله فهو مردود على صاحبه، وهو مأزور عليه، فالله - سبحانه وتعالى - لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصاً لوجهه الكريم، وفي الحديث القدسي: ((قال الله - تبارك وتعالى -: أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك معي فيه غيري تركته وشركه))[رواه مسلم].
ولن يقبل الله من العبد عملاً إلا إذا كان خالصاً لوجهه الكريم قال الله - تعالى-: (( أَلاَ لِلَّهِ الدّينُ الخَالِصُ ))[الزمر: 3]، وقال: (( فَادعُوا اللَّهَ مُخلِصِينَ لَهُ الدّينَ وَلَو كَرِهَ الكَـافِرُونَ ))[غافر: 14].
وتصحيح النية لله شرط في صحة العمل وقبوله، فعن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها، أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه)[متفق عليه].
والقتال في سبيل الله هو من أفضل الأعمال وأعظمها لكن لا يقبله الله من العبد إلا إذا كان مقاتلاً في سبيله - عز وجل -، فعن أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - قال: سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الرجل يقاتل شجاعة، ويقاتل حميّة - أي غيرة وعاراً وأنفة - ويقاتل رياءً أي ذلك في سبيل الله؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله)[متفق عليه].
وإن العمل الصالح إذا أخلص فيه العبد لربه انتفع به في الدارين، واستمعوا إلى حديث الثلاثة النفر الذين آواهم المبيت في غار وهم في سفر ففيه العبرة والعظة، فعن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (انطلق ثلاثة نفر ممن كان قبلكم حتى آواهم المبيت إلى غار في خلوة، فانحدرت صخرة من الجبل فسدّت عليهم الغار، فقالوا: إنه لا ينجيكم من هذه الصخرة إلا أن تدعوا الله بصالح أعمالكم، قال رجل منهم: اللهم كان لي أبوان شيخان كبيران، وكنت لا أغبق - أي لا أقدم عليهما أحداً في شرب اللبن، والغبوق هو ما يشرب بالعشي - قبلهما أهلاً ولا مالاً، فنأى بي طلب الشجر يوماً، فلم أرِح - أي لم أرجع إليهما - عليهما حتى ناما، فحلبت لهما غبوقهما فوجدتهما نائمين، فكرهت أن أوقظهما، وأن أغبق قبلهما أهلاً أو مالاً، فلبثت والقدح على يدي انتظر استيقاظهما حتى برق - أي ظهر - الفجر، والصبية يتضاغون - أي يتباكون - عند قدمي، فاستيقظا فشربا غبوقهما، اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك ففرج عنا ما نحن فيه من هذه الصخرة، فانفرجت شيئاً لا يستطيعون الخروج منه، قال الآخر: اللهم إنه كان لي ابنة عم كانت أحب الناس إليّ، وفي رواية: كنت أحبها كأشد ما يحب الرجال النساء، فأردتها عن نفسها - أي الزنا - فامتنعت مني حتى ألمت بها سنة من السنين - أي حل بها عام قحط وجفاف ومجاعة - فجاءتني، فأعطيتها عشرين ومائة دينار على أن تخلي بيني وبين نفسها ففعلت، حتى إذا قدرت عليها، وفي رواية فلما قعدت بين رجليها قالت: اتق الله ولا تفضّ الخاتم إلا بحقه - كناية عن النكاح - فانصرفت عنها وهي أحب الناس إليّ، وتركت الذهب الذي أعطيتها، اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه، فانفرجت الصخرة غير أنهم لا يستطيعون الخروج منها، وقال الثالث: اللهم استأجرت أجراء، وأعطيتهم أجرهم غير رجل واحدٍ, ترك الذي له وذهب، فثمرّت أجره حتى كثرت منه الأموال فجاءني بعد حين فقال: يا عبد الله أدِّ إلي أجري، فقلت: كل ما ترى من أجرك: من الإبل والبقر والغنم والرقيق، فقال: يا عبد الله لا تستهزئ بي! فقلت: لا استهزئ بك، فأخذه كله فاستاقه فلم يترك منه شيئاً، اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه!!، فانفرجت الصخرة فخرجوا يمشون)[متفق عليه].
فهؤلاء الثلاثة نجاهم الإخلاص لله وابتغاء وجه الله في أعمالهم من هلاك محقق، فلما عرفوا الله في الرخاء ما نسيهم في الشدة، وصدق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذ يقول: (تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة)[أخرجه الترمذي بسند حسن عن ابن عباس - رضي الله عنهما -].
فالواجب علينا أن نخلص النية، ونصحح الإرادة لله - سبحانه وتعالى - حتى يكون عملنا خالصاً لوجهه الكريم.
الخطبة الثانية:
إن مفسدات النية والإخلاص كثيرة ومنها:
حرص المرء على المال والشرف، فقد يبيع الرجل دينه بعرض من الدنيا قليل، وقد يتطلع إلى الشرف في الدنيا، والوجاهة بين الناس، فحرصه الشديد على ذلك يدفعه إلى ضياع دينه فيوبق دنياه بآخرته فعن كعب بن مالك - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (ما ذئبان جائعان أرسلا في غنم بأفسد لهما في حرص المرء على المال، والشرف لدينه)[رواه أحمد والترمذي وإسناده صحيح].
ومعنى الحديث أن حرص المرء على المال والشرف يفسد دينه أشد من إفساد ذئبين جائعين أرسلا في غنم، فليتعاهد المرء دينه، وليحرص على إرضاء ربه، وليخلص النية في القول والعمل.
وإن الحرص على المال قد أودى بكثير إلى الهلاك، فكم من مجاهد في سبيل الله وهو يقاتل فيقتل ولكنه قد أذهب أجره غلوله للغنائم قبل قسمتها، فعن عمر - رضي الله عنه - قال: لما كان يوم خيبر أقبل نفر من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: فلان شهيد، فلان شهيد، حتى مروا على رجل فقالوا: فلان شهيد، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (كلا إني رأيته في النار في بردة غلها أو عباءة)[رواه مسلم]، والغلول: هو السرقة من الغنيمة قبل قسمتها، وقد حرم الله ذلك وتوعد فاعله فقال - تعالى-: ((وَمَا كَانَ لِنَبِي أَن يَغُلَّ وَمَن يَغلُل يَأتِ بِمَا غَلَّ يَومَ القِيَـامَةِ ))[آل عمران: 161].
وبعض الناس دينه المال إن أعطي رضي، وإن لم يعط يسخط، وهؤلاء أضعف من المنافقين، ومن كان فيه ذلك ففيه خصلة من النفاق حتى يدعها، وقد أخبر الله عن هؤلاء المنافقين بقوله: (( وَمِنهُم مَّن يَلمِزُكَ فِي الصَّدَقَـاتِ فَإِن أُعطُوا مِنهَا رَضُوا وَإِن لَّم يُعطَوا مِنهَا إِذَا هُم يَسخَطُونَ ))[التوبة: 58].
أيها المسلمون: إن المال فتنة، وإن فساد كثير من الناس إنما كان بسبب المال والحرص على الدنيا والتطلع إليها، وكم من أناس كانوا مثار إعجاب الناس ففسدوا بسبب المال.
الحرص على المال والشرف هو الذي ضيع دين بعض الناس، فراؤوا في أقوالهم وأفعالعهم، ومنهم من نافق ليبيع دينه بعرض من الدنيا قليل، فهؤلاء وأمثالهم ممن تسعر بهم النار يوم القيامةº لأنهم لم يريدوا بعملهم وجه الله، فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ( إن أول الناس يقضى يوم القيامة عليه - أي يحكم عليه - رجل استشهد فأتي به فعرفه نعمه فعرفها قال فما عملت فيها قال: قاتلت فيك - أي في سبيل الله - حتى استشهدت!! قال: كذبت، ولكنك قاتلت لأن يقال: جريء، فقد قيل!! ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار، ورجل تعلم العلم وعلمه، وقرأ القرآن فأتي به فعرفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: تعلمت العلم وعلمته، وقرأت فيك القرآن!! قال: كذبت ولكنك تعلمت العلم ليقال: عالم، وقرأت القرآن ليقال: هو قارئ فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار، ورجل وسع الله عليه وأعطاه من أصناف المال كله فأتي به فعرفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: ما تركت من سبيل تحب أن ينفق فيها إلا أنفقت فيها لك!! قال: كذبت ولكنك فعلت ليقال هو جواد، فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه ثم ألقي في النار)[رواه مسلم].
فاتقوا الله يا عباد الله، وأخلصوا النية في القول والعمل، واعلموا أنه لا ينجيكم عن عذاب الله وسخطه إلا ما قد قسموه من عمل صالح بين يدي ربكم، ولن يتقبل منكم أعمالكم إلا بإخلاصكم النية، والإرادة منه، وموافقتكم سنة نبيكم.
فاللهم ارزقنا الإخلاص في القول والعمل، واجعل كل أعمالنا خالصة لوجهك الكريم آمين.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد