أنـحـى عليّ صاحبي باللائمـة معاتبـاً... فقال: وأنت... وأنت... وأنت...
فقلت: على رسلك اُخـيّ.
قال: ولِـمَ؟ وأنت من أنت!
فقلت: اذكـر (أصـــابتني جـنابـــــــــة، ولا مــاء).
قال: هل تعني أنك كنت جنـباً؟
قلت: لا. لا لهذا أشـرتُ، ولا إليه أومـأتُ.
فردّ عليّ: ما فهمت إذن.
قلت: إن من خـُلق نبي الرحمة - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يُبادر بالسؤال قبل التعنيف.
قال: البيّنة على ما تقول.
قلت: البينات أشهر من أن تذكر. وخذ على سبيل المثال.
ما ذكرته آنفاً (أصـابتني جنابـة ولا ماء).
قال: هل من توضيح؟
قلت: على الرحب والّسعة. ولكن القصة طويلة، وأقتصر فيها على الشاهد.
كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بعض أسفاره فلما صلى رأى رجلاً معتزلاً لم يُصَـلِّ في القوم، فقال: يا فلان! ما منعك أن تصلي في القوم؟ فقال: يا رسول الله أصابتني جنابة ولا ماء. قال: عليك بالصعيد فإنه يكفيك. رواه البخاري ومسلم.
فلم يُبادر ذلك الرجل بالإنكار قبل الاستفسار.
وهاك مثالاً آخر:
صلى النبي - صلى الله عليه وسلم - في حجته صلاة الصبح في مسجد الخيف في منى، فلما قضى صلاته وانحرف إذا هو برجلين في أخرى القوم لم يصليا معه، فقال: عليّ بهما. فجئ بهما ترعد فرائصهما، فقال: ما منعكما أن تصليا؟ فقالا: يا رسول الله إنا كنا قد صلينا في رحالنا. قال: فلا تفعلا. إذا صليتما في رحالكما ثم أتيتما مسجد جماعة فصليا معهم فإنها لكما نافلة. رواه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي وغيرهم، وهو حديث صحيح.
وتريد مثالاً ثالثاً؟
قال: نستفيد.
لما بعث حاطب بن أبي بلتعة - رضي الله عنه- رسالة إلى أهل مكة يُخبرهم بمسير رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لفتح مكة، قال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: ما حملك على ما صنعت؟ قال حاطب: والله ما بي أن لا أكون مؤمناً بالله ورسوله - صلى الله عليه وسلم -. أردت أن يكون لي عند القوم يَـدٌ يدفع الله بها عن أهلي ومالي، وليس أحد من أصحابك إلا له هناك من عشيرته من يدفع الله به عن أهله وماله. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: صدق، ولا تقولوا له إلا خيراً. متفق عليه.
وخذ مثالاً رابعاً:
لم يقتصر السؤال والاستفسار على أصحابه، بل تعداهم إلى الأعداء الأباعد.
ومن ذلك: أن امرأة من اليهود أهدت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - شاة مسمومة، فأرسل إليها، فقال: ما حملك على ما صنعت؟ قالت: أحببت أو أردت إن كنت نبياً، فإن الله سيطلعك عليه، وإن لم تكن نبياً أريح الناس منك. رواه البخاري ومسلم.
ثم كان هذا هدي أصحابه من بعده، أي أنهم يستفسرون قبل أن يُعاتبوا أحداً.
حـدّث سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - فقال: مررت بعثمان بن عفان - رضي الله عنه- في المسجد فسلّـمت عليه، فملأ عينيه منى ثم لم يرد على السلام، فأتيت أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه-، فقلت: يا أمير المؤمنين! هل حدث في الإسلام شيء؟ مرتين. قال: لا. وما ذاك؟ قال: قلت: لا. إلا أنى مررت بعثمان - رضي الله عنه- آنفاً في المسجد فسلمت عليه، فملأ عينيه مني، ثم لم يرد علي السلام. فأرسل عمر - رضي الله عنه - إلى عثمان - رضي الله عنه -، فدعاه، فقال: ما منعك أن لا تكون رددت على أخيك السلام؟ قال عثمان - رضي الله عنه-: ما فعلت. قال سعد: بلى. قال: حتى حلف، وحلفت. قال: ثم إن عثمان - رضي الله عنه - ذكر، فقال: بلى، وأستغفر الله وأتوب إليه. إنك مررت بي آنفاً وأنا أحدث نفسي بكلمة سمعتها من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا والله ما ذكرتها قط إلا تغشّى بصري وقلبي غشاوة. قال سعد: فأنا أنبئك بها: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذكر لنا أول دعوة، ثم جاء أعرابي فشغله حتى قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فاتبعته فلما أشفقت أن يسبقني إلى منزله ضربت بقدمي الأرض، فالتفت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقال: من هذا؟ أبو أسحق؟ قلت: نعم يا رسول الله. قال: فـَـمَـه؟ قال قلت: لا والله، إلا أنك ذكرت لنا أول دعوة ثم جاء هذا الأعرابي فشغلك. قال: نعم دعوة ذي النون إذ هو في بطن الحوت: (لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين) فإنه لم يدع بها مسلم ربه في شيء قط إلا استجاب له. رواه بطوله الإمام أحمد - رحمه الله - وهو حديث حسن.
وهذا مثال آخر من حياة أصحابه عليهم الرضوان، من أنهم كانوا يستفسرون قبل المعاتبة.
استأذن أبو موسى - رضي الله عنه - على عمر - رضي الله عنه - ثلاثاً، فكأنه وجده مشغولاً، فرجع، فقال عمر: ألم أسمع صوت عبد الله بن قيس؟ ائذنوا له. فدُعي له، فقال: ما حملك على ما صنعت؟ قال: إنا كنا نؤمر بهذا. قال: لتقيمن على هذا بينة أو لأفعلن. فخرج فانطلق إلى مجلس من الأنصار. فقالوا: لا يشهد لك على هذا إلا أصغرنا. فقام أبو سعيد فقال: كنا نؤمر بهذا. فقال عمر: خفي علي هذا من أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ألهاني عنه الصفق بالأسواق. متفق عليه.
ومثال ثالث رواه الإمام مالك في الموطأ عن يحيى بن سعيد أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -انصرف من صلاة العصر، فلقي رجلاً لم يشهد العصر، فقال عمر: ما حبسك عن صلاة العصر؟ فذكر له عذراً، فقال عمر: طـَـفـفـتَ.
ولست أريد استقصاء الأدلـة والأمثلـة، ولكن في الإشارة عبارة، وحسبك من القلادة ما أحاط بالعنق.
وفي هذا كفاية وعظة وعبرة
قبل أن تلقي باللائمـة على أخيك أو تعنـِّـفه استفسر واسأل، فربما كان له عذر وأنت لا تدري.
قال أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه: ولا تظنن بكلمة خرجت من امـرئ مسلم شرّاً، وأنت تجد لـه في الخير محملاً.
قال جعفر بن محمد: إذا بلغك عـن أخيك الشيء تنكره، فالتمس لـه عذراً واحداً إلى سبعين عذراً، فإن أصبته وإلاّ قـُـل: لعل له عذراً لا أعرفه.
وقال محمـد بن سيرين: إذا بلغـك عن أخيك شيء فالتمس له عذراً، فإن لم تجد له عذراً فقل: له عذر.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد