التهاجر بين المسلمين حرام بدليل قوله - عليه الصلاة والسلام - : «لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال». ويستثنى من هذا الأصل حالان تصير الهجرة فيهما واجبة:
الأولى: أن يأمر الإمام بهجران مسلم أو مسلمين معينين فيصير الهجران واجباً بدليل هجرة المسلمين للثلاثة الذين خُلِّفوا: كعبِ بن مالك وصاحبيه مدة خمسين ليلة بناءً على أمر الرسول - صلى اللـه عليه وآله وسلم - وكانت عقوبة. وفعلها عمر - رضي الله عنه - مع أصبغ مدة سنة لأنه كان يسأل أسئلة تنطعية وتشكيكية.
الثانية: هجرة العصاة والفساق دونما أمر من الإمام بدليل قوله - عليه الصلاة والسلام - : «لما وقعت بنو إسرائيل في المعاصي نهتهم علماؤهم فلم ينتهوا فجالسوهم في مجالسهم - قال يزيد وأحسبه قال - في أسواقهم وواكلوهم وشاربوهم فضرب اللـه قلوب بعضهم ببعض ولعنهم على لسان داود وعيسى بن مريم - ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون - وكان رسول اللـه - صلى اللـه عليه وسلم - متكئاً فجلس فقال: لا والذي نفسي بيده حتى تأطروهم على الحق أَطراً»، هذه رواية أحمد وفي رواية أبي داود: قال رسول اللـه - صلى اللـه عليه وسلم - : «إن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل كان الرجل يلقى الرجل فيقول: يا هذا اتق اللـه ودع ما تصنع فإنه لا يحل لك، ثم يلقاه من الغد فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه وقعيده، فلما فعلوا ذلك ضرب اللـه قلوب بعضهم ببعض. ثم قال: لُعِنَ الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى بن مريم إلى قوله فاسقون. ثم قال: كلا واللـه لتأمرُنّ بالمعروف ولتنهوُنّ عن المنكر ولتأخذُنّ على يدي الظالم ولتأطُرُنّه على الحق أطراً ولتقصرنه على الحق قصراً» ورواه ابن أبي حاتم بلفظ «إن الرجل من بني إسرائيل كان إذا رأى أخاه على الذنب نهاه عنه تعذيراً فإذا كان من الغد لم يمنعه ما رأى منه أن يكون أكيله وخليطه وشريكه» وفي حديث هارون: «وشريبه»... الحديث. ففي هذا الحديث نحن منهيون عن المجالسة والمؤاكلة والمشاربة والمخالطة والشراكة، حتى لا يكون أمرنا ونهينا تعذيراً، فالأمر والنهي الحقيقيان يقتضيان التهاجر إذا لم يأتمر المأمور وينتهِ المنهي. إلا أن الحديث أبقى باباً واحداً مفتوحاً هو الاستمرار بالأمر والنهي وجعله واجباً، فبعد أن نهى عن كل ما نهى عنه أمر بالاستمرار في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والأخذ على يد الظالم، وكان أمره جازماً: لا والذي نفسي بيده حتى تأطروهم...، كلا واللـه لتأمرن...، والجزم آتٍ, من استحقاق اللعنة. وهذا الاستمرار المأذون به محصور في الأمر والنهي وما يقتضيانه، ومن الأمر والنهي العمل لاستئناف الحياة الإسلامية، وما دون هذا أي الأمر والنهي وما يقتضيانه يبقى حراماً.
والتقيد بهذا الأمر شديد إذ العصاة والفساق كثير، والمصرون على ترك الفروض كالصلاة وأعمال حمل الدعوة والعمل لاستئناف الحياة الإسلامية والزكاة والصوم نسبتهم كبيرة، وأكثر منهم فاعلو الحرام كآكلي الربا والجواسيس وقاطعي الرحم، والموالين للحكام والكفار، والداعين لأفكار الكفر، ومحرفي أفكار الإسلام، والراشين والمرتشين، وأعوان الظلمة، والسراق، والزناة، وشراب الخمر، والغشاشين، والكذابين... والقائمة طويلة، فكل عاصٍ, سواء بإصراره على ترك فرض أو فعل حرام تجب مقاطعته إلا ما كان من استمرار في الأمر والنهي وما يقتضيانه. أما متى يجوز لك ترك أمر هذا النوع ونهيه فذلك عندما يرد عليك بمعنى أن لا يقبل منك أمراً ولا نهياً، ويرفض السماع منك أو يصرح بأنه يكره سماعك فعندها يغلق هذا الباب أيضاً وتجب مقاطعته بالكلية، أما ما دام
يسمع ولا يصدك ولا يرد عليك قولك ويرفضه فيجب أن يبقى باب الأمر والنهي مفتوحاً، حتى ولو لم يتقيد بما تأمره به وتنهاه عنه. وطبعاً يبقى الهجران قائماً في غير الأمر والنهي وما يقتضيانه من مجالسة أو مخالطة أو سلام... الخ. وذهب عبد اللـه بن مسعود - رضي الله عنه - إلى أبعد من هذا فلم يكتف بمجرد الهجرة فقال فيما رواه عنه الطبراني في الكبير «إذا لقيت الفاجر فالقه بوجه مكفهر\"قال في المجمع رواه الطبراني بإسنادين في أحدهما شريك وهو حسن الحديث وبقية رجاله رجال الصحيح. (وكان الصحابة رضوان اللـه عليهم يقاطعون ويهجرون لأقل مما نرى ونسمع فقد هجرت عائشة - رضي الله عنها - ابن الزبير هو ابن أختها عندما قال: واللـه لتنتهين عائشة أو لأهجرن عليها فقالت: أهو قال هذا؟ قالوا: نعم. قالت: هو للـه علي نذر أن لا أكلم ابن الزبير أبداً. وكأنها اعتبرته عقوقاً منه أن كانت خالته. وأخرج عبد الرزاق في المصنف قال: أخبرنا معمر عن أيوب عن سعيد بن جبر قال: كنت عند عبد اللـه بن مغفل فخذف رجل من قومه فقال: لا تخذف فإن رسول اللـه - صلى اللـه عليه وسلم - قد نهى عنه وقال: إنك لا تصطاد بها صيداً، ولا تقتل بها عدواً، ولكنها تكسر السن وتفقأ العين، قال: فلم ينته الرجل، فقال: أحدثك عن رسول اللـه - صلى اللـه عليه وسلم - أنه نهى عنها ولا تنتهي، لا أكلمك كلمة أبداً).
قد يقول قائل إن هجران العصاة على كثرتهم الكاثرة يقود إلى العزلة التي هي مزيج من الجبن واليأس. سلمنا أن العصاة كثرة كاثرة إلا أنهم ليسوا كل الناس فلا زال في الناس من يستمع ويقبل أن يؤمر وينهى بل ويسأل عن أمر دينه، وفي هؤلاء كفاية للامتناع عن العزلة، والاستمرار في الأمر والنهي وحمل الدعوة.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد