الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وبعد:
فإن من أظلم الظلم أن يسيء المرء إلى من أحسن إليه وأن يعصيه في أوامره وأن يخالف تعاليمه، ويزداد هذا القبح وذاك الظلم إذا أعلنه صاحبه وجاهر به ولم يبال بمن رآه أو سمعه حتى لو كان هو الذي أحسن إليه وجاد عليه وتكرم وتفضل.. فما بالك أخي القارئ الكريم إذا كان المحسن المتفضل هو الله - تعالى -، والعاصي المجاهر هو أنا وأنت... إنها بلية عظمى ورزية كبرى أن يتبجح المرء بمعصيته لله - عز وجل - ويعلنها صريحة مدوية بلسان حالة ومقالة ناسياً أو قل متناسياً حق الله وفضله عليه.
لذا حذر الشرع المطهر من مجاهرة الله بالمعصية وبين الله - تعالى - أن ذلك من أسباب العقوبة والعذاب فمن النصوص الدالة على ذلك قوله - تبارك وتعالى -: \"إِنَّ الَّذِينَ يُحِبٌّونَ أَن تَشِيعَ الفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدٌّنيَا وَالآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعلَمُ وَأَنتُم لَا تَعلَمُونَ\" [النور:19] هذا الذم والوعيد فيمن يحب إشاعة الفواحش فما بالك بمن يشيعها ويعلنها.
وقوله - تبارك وتعالى -: \"ظَهَرَ الفَسَادُ فِي البَرِّ وَالبَحرِ بِمَا كَسَبَت أَيدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُم يَرجِعُونَ\" [الروم: 41] قال الحافظ ابن كثير - رحمه الله - في نفسير الآية: ظَهَرَ الفَسَادُ فِي البَرِّ وَالبَحرِ بأن النقص في الزروع والثمار بسبب المعاصي وقال أبو العالية: ( من عصى الله في الأرض فقد أفسد في الأرض لأن صلاح الأرض والسماء بالطاعة ) [تفسير ابن كثير:3/576].
كما أخبر - سبحانه - بأنه لا يحب الجهر بالسوء: \"لَا يُحِبٌّ اللَّهُ الجَهرَ بِالسٌّوءِ مِنَ القَولِ إِلَّا مَن ظُلِمَ\" [النساء:148] قال البغوي - رحمه الله - في تفسير هذه الآية: (يعني لا يحب الله الجهر بالقبح من القول إلى من ظلم) [تفسير البغوي:1/304].
و في الحديث عن أبي بكر الصديق - رضي الله عنه -: سمعت رسول الله يقول: { إن الناس إذا رأوا المنكر لا يغيرونه أوشك الله أن يعمهم بعقابة } [رواه الترميذي:5/256].
وعن أبي هريرة - رضي الله تعالى عنه - قال: قال رسول الله: { كل أمتي معافى إلا المجاهرين } [رواه البخاري ومسلم]. وهكذا سنة الله - تعالى - في الكون فما أعلن قوم التجرؤ على الله بالمعاصي والتبجح بها إلا وأهلكهم الله وقضى عليهم ودمرهم.. والمتأمل في سير الغابرين والأقوام السالفين يجد ذلك جلياً واضحاً فما الذي أهبط آدم من الجنة؟ وما الذي أغرق قوم نوح؟ وما الذي أهلك عاداً بريح صرصر عاتية؟ وما الذي أهلك ثمود بالصاعقة؟ وما الذي قلب على قوم لوط ديارهم وأتبعها بالحجارة من السماء؟ وما الذي أغرق فرعون وجنده؟ وما الذي..؟ وما الذي..؟ إنها المعاصي والمجاهرة بها.
فالله - تعالى - هو القوي والبشر هم الضعفاء والله هو العزيز وهم الأذلاء بين يديه وهو الكبير المتعالي فله الكبرياء المطلق والعظمة الكاملة. عن أبي سعيد وأبي هريرة - رضي الله عنهما - قالا: قال رسول الله قال الله - تعالى -:
{ الكبرياء ردائي والعظمة إزاري فمن نازعني واحدا منهما قذفته في النار } [رواه مسلم].
ولعل من أسباب قبح هذه المعصية وزيادة شناعتها أن فيها نوعاً من الاستهانة وعدم المبالاة وكأن لسان حال هذه المعاصي لله - تعالى - يقول: أعلم أنك ترى مكاني وتسمع كلامي وأنك علي رقيب ولعملي شهيد.. ولكن مع ذلك كله أعصيك وأعلن ذلك أمامك وأمام كل من يراني من خلقك!!.
ومن أسباب شناعتها وقبحها أن فيها دعوة للناس إلى الوقوع في المعاصي والانغماس في وحلها.. حيث إن هذا البارز لله بالمعصية يدعو بلسان حاله كل من رآه أو سمع به.. عن أبي هريرة قال: قال رسول الله: {.. ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئاً } [رواه مسلم].
ومن أسباب قبحها أن الذي يفعل المعصية جهراً قد يستمرئ هذا الفعل ويصبح عنده أمراً عادياً فربما أدى به ذلك إلى إباحته واستحلاله ولاشك أن استحلال المعاصي واستباحتها من أخطر الأمور على عقيدة المسلم وقد يؤدي به ذلك إلى الخروج من دين الإسلام لا سيما إذا كان الأمر معلوماً من الدين بالضرورة تحريمه كالزنا واللواط وشرب الخمر وأكل الربا ونحو ذلك من المحرمات أجارنا الله منها.
ولقد تفشى بين بعض المسلمين - هداهم الله - هذا الداء العضال وسرى في جسد الأمة حتى لا يكاد يسلم منه بلد أو حي أو مجتمع ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
ومن صورة المجاهرة بالمعاصي التي ابتلي بها بعض المسلمين:
التخلف عن الصلاة مع الجماعة - مع القدرة عليها - قتجد أحدهم يدخل منزله والصلاة تقام فلا يلقى لها بالاً ولا يكترث ولا يهتم بها وكأن النداء فيها لغيره من الناس والأدهى من ذلك والأمر أن يمارس البعض مهمته من بيع أو شراء أو نحو ذلك في أثناء إقامة المسلمين لهذه الشعيرة العظيمة ولا حول ولا قوة إلا بالله. في الحديث الصحيح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله: { لقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام ثم أخالف إلى منازل قوم لا يشهدون الصلاة فأحرق عليهم بيوتهم } [رواه البخاري ومسلم].
ومن صور المجاهرة الدعوة إلى المعاصي والكبائر والإعلان عنها وإذاعتها كما يحصل ذلك في الإعلان من تجارة ربوية أو المساهمة في بنك يتعامل بالربا أو مبيعات محرمة أو الدعوة إلى مشاهدة عروض غنائية أو حفلات مشتملة على الأغاني والموسيقى والطبول والمعازف ونحو ذلك..
ومنها ما يقوم به بعض الشباب - هداهم الله - من الرفع على آلات اللهو من الموسيقى أو معازف في الطرقات أو عند الإشارات أو على الشواطئ وفي المنتزهات ونحو ذلك..
ومنها ما يشاهد بين أوساط بعض الشباب المسلم من التشبه بالغرب وتقليدهم في الكلام واللباس والمركب وقصات الشعور والحركات وما شابه ذلك حتى صار بعضهم يفتخر بذلك ويتعالى به وما علم المسكين أنه بذلك دخل جحر الضب من أضيق أبوابه.. فعن سعيد قال: قال رسول الله: { لنتبعن سنن من كان قبلكم شبراً بشبر وذراعاً بذراع حتى لو دخلوا في جحر ضب لاتبعتموهم } قلنا: يا رسول الله اليهود والنصارى؟ { قال فمن!! } [رواه البخاري ومسلم].
ومنها قيام بعض الكتاب والصحفيين والممثلين ومن على شاكلتهم بكتابة مقالات أو تحقيقات - إن صح التعبير - تخالف شرع الله وتناوئ دينه كالكلام في ذات الرب - تعالى وتقدس - أو سب الدين أو الرسول المعصوم أو الدعوة إلى مخالفة الكتاب والسنة كالدعوة إلى خروج المرأة وتحررها وخلعها جلباب حياتها وسترها وكالحديث عن حجاب المرأة على وجه التندر والسخرية أو الاستهزاء باللحية أو بتقصير الثوب أو بالمسواك أو التهحكم بالصالحين والآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر أو بالقضاء والمشايخ وطلبة العلم ونحو ذلك من صور وأشكال الاستهزاء الذي قد يصل بصاحبه إلى الكفر فلقد كفر الله - تبارك وتعالى - قوماً - جاهدوا مع الرسول و شهدوا بعض الغزوات مع المسلمين - حينما قالوا كلاماً (انظر كشف الشبهات ص32) هو أهون بكثير مما يفعله أو يقوله بعض الفسقة الماردين عبر بعض وسائل الإعلام المسموعة أو المرئية أو المقروءة.
ومنها ما تقوم به بعض النساء - هداهن الله - من التبرج كالسفور عن الوجه كله أو وضع اللثام أو النقاب والبرقع بشكل ملفت للأنظار، والخروج إلى الشوارع والطرقات والأسواق - لحاجة أحياناً ولغير حاجة أحايين - مع ما قد يصاحب ذلك من التعطر والزينة والتخنع والتميع..
ومنها أن يتحدث أمام الملأ بما ستر الله عليه من معاص وآثام فيمسي وقد ستر الله عليه ثم يصبح مجاهراً مفتخراً بمعصيته كما جاء في الحديث عن أبي هريرة أن رسول الله قال: {.. وإن من المجاهرة أن يعمل الرجل بالليل عملاً ثم يصبح وقد ستره الله فيقول يا فلان عملت البارحة كذا وكذا وقد بات يستره ربه ويصبح يكشف ستر الله عنه } [رواه البخاري ومسلم].
ولعل من أبرز ما يشاهد الآن من أنواع المجاهرة بالمعاصي ما يقوم به بعض المسلمين - هداهم الله - من وضع أجهزة إستقبال القنوات الفضائية في سطوح المنازل وعلى الأسوار وفي الإستراحات والفتادق ونحوها حيث يستقبل فيها ما تبثه تلك القنوات برمته خيره وشره - إن كان فيه خير - يفعل كل ذلك بعد صدور الفتاوى الموثقة بأدلة الوحيين من قبل علماء الإسلام الأعلام و كأن لسان حال واضع هذه الأجهزة وهو يضعها في أعلى مكان مجاهراً بذلك غير مستحي ولا متورع - كأن لسان حاله - يقول: ها قد فعلت هذه المعصية فليرض من يرضى وليسخط من يسخط.
وإلى كل أولئك نقول توبوا إلى الله واستغفروه وأنيبوا إليه واعلموا أن ربكم رؤوف رحيم يقبل التوبة عن عبادة ويغفر السيئات ويتجاوز عن الخطيئات \"وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيٌّهَا المُؤمِنُونَ لَعَلَّكُم تُفلِحُونَ\" [النور:31].
ثم إنه من قارف الذنب ووقع في المعصية ثم استتر بستر الله ولم يتبجج ويجاهر بها كان ذلك أدعى إلى التوبة وأرجى للإقلاع عن المعصية والندم على فعلها وعدم العودة إليها ومن ذلك ما جاء عن زيد بن أسلم: أن رجلاً اعترف على نفسه بالزنى على عهد رسول الله { أيها الناس قد آن لكم أن تتنهوا عن حدود الله ما أصاب من هذه القاذورات شيئاً فليستتر بستر الله.. } [رواه مالك].
وفي الصحيحين عن محرز المازني - رحمه الله - قال: بينما أنا أمشي مع ابن عمر - رضي الله عنهما - آخذ بيده إذ عرض رجل فقال: كيف سمعت رسول الله يقول في النجوى قال (ابن عمر): سمعت رسول الله يقول: { إن الله يدني المؤمن فيضع عليه كنفه ويستره فيقول: أتعرف ذنب كذا؟ أتعرف ذنب كذا؟ فيقول: نعم أي رب حتى إذا قرره بذنوبه ورأى في نفسه أنه هلك قال: \"سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم\" فيعطي كتاب حسناته.. } [رواه البخاري ومسلم].
أسأل الله - تعالى - أن يهدي ضال المسلمين وأن يوفقنا لما يحب ويرضى وأن يتجاوز عنا ويغفر لنا إنه ولي ذلك والقادر عليه وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد