التكتيك النبوي في مواجهة اليهود


  

بسم الله الرحمن الرحيم

لاشك أن دراسة سياسات الرسول - صلى الله عليه وسلم - تجاه اليهود في الجزيرة العربية في المرحلة المدنية بالتحديد تكشف الكثير من المعطيات الضرورية لفهم مبادئ الإسلام العليا من ناحية، وتكشف أيضاً عن جوانب من الأسلوب الصحيح لمواجهة اليهود عموماً، وهو أمر لازم لنا في إطار الصراع مع العدو الصهيوني الذي يمثل أكبر التحديات في تاريخنا المعاصر، ولكي نقف على طبيعة التكتيك النبوي تجاه اليهود في تلك الحقبة ينبغي بالطبع أن نعرف شيئاً عن طبيعة الوجود اليهودي في الجزيرة العربية في ذلك الوقت.

تركز الوجود اليهودي في الجزيرة العربية في المدينة وشمالها من ناحية، وفى بعض مناطق اليمن جنوباً من ناحية أخرى، ويهمنا بالطبع هنا في إطار دراسة التكتيك النبوي في مواجهة اليهود التركيز على تلك التجمعات اليهودية في المدينة وشمالها، وكان هؤلاء يتكونون من ثلاثة قوى وتجمعات يهودية داخل المدينة هي: بنو قينقاع، وبنو قريظة، وبنو النضير، وخارج المدينة في خيبر وفدك وتيماء وغيرها على امتداد 420 كيلو متر شمال المدينة حتى تخوم الجزيرة العربية الشمالية، وذكر السمهودي في وفاء الوفا ص 116 أن عدد القبائل اليهودية في تلك المناطق يزيد على عشرين، وقد جاء هؤلاء اليهود مهاجرين إلى الجزيرة العربية نتيجة الضغط البابلي والآشوري عليهم في فلسطين، وتخريب هيكلهم، وسبي أكثرهم على يد الملك بختنصر سنة 587 ق. م، فهاجر قسم منهم إلى الحجاز، وتوطن في ربوعها الشمالية، وكذلك عقب احتلال الرومان لفلسطين سنة 70 ق. م، ونشأ عن اضطهاد الرومان لليهود أن هاجر عدد منهم إلى الحجاز، واستقر في يثرب وخيبر وتيماء، كما دخل بعض العرب عن طريق هؤلاء اليهود في اليهودية، إلا أن ذلك ظل أمراً محدوداً بالطبع، ومن ناحية أخرى فإن تلك التجمعات اليهودية في يثرب وخارجها ظلت متمسكة بعصبتها الجنسية والدينية رغم أنهم أخذوا الصبغة العربية في اللغة والزي والأسماء، وكانوا دائماً يفتخرون بجنسيتهم الإسرائيلية، ولم يندمجوا في العرب قط، بل كانوا يحتقرونهم ويسمونهم أميين كعادة اليهود في النظر إلى غيرهم من الأجناس، وكانوا يرون أن أموال العرب مباحة لهم يأكلونها كيف شاءوا ((قالوا ليس علينا في الأميين سبيل))، ولم يكن لهم تحمس في نشر دينهم، وإنما جل بضاعتهم هي الفأل والسحر، والنفث والرؤية وغيرها\" المباركفورى - الرحيق المختوم صـ 211.

وسيطر اليهود على أعمال التجارة عموماً، وتجارة الخمر والسلاح خصوصاً، وكانوا بالطبع يمارسون الربا على نطاق واسع، وأثاروا دائماً العدوان والبغضاء بين القبائل العربية ليحققوا مكاسبهم المعروفة من الحروب التي تقع بين القبائل العربية، فتروج تجارة السلاح، وتروج أعمال الربا، واستطاع اليهود بهذه الوسائل أن يحققوا ثراء واسعاً، ونفوذاً داخل تلك البلاد.

كان من الطبيعي أن يعرف اليهود أن النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - نبي صادق، وأنه جاء بالحق وذلك بحكم معرفتهم بالكتب والبشارات التي بشرت بالرسول - صلى الله عليه وسلم - وبعلاماته الصادقة، ولكنهم رفضوا بالطبع الانصياع إلى الحق ((فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين))، وقد كان رفضهم الإيمان بمحمد - صلى الله عليه وسلم - يرجع إلى تكبرهم على الحق من ناحية، وعلى خوفهم من ضياع نفوذهم وثرائهم بسبب ما توقعوه من تغيير الخريطة الثقافية والاقتصادية والسياسية إذا انتصر الإسلام، وهكذا أضمر اليهود الحقد والمؤامرات على الإسلام وعلى محمد - صلى الله عليه وسلم -، واستعداداً لحرب شرسة ضده، ومع ذلك عاملهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالتسامح وفقاً لقيم ومبادئ الإسلام العليا في أول عهده بالمدينة، ولم يبدأ الحرب عليهم إلا بعد أن قاموا بمؤامرات مادية ومعنوية ضد الكيان الإسلامي الوليد في المدينة المنورة.

 

دستور المدينة:

بمجرد أن استقر الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة، وأقام فيها المجتمع الإسلامي الوليدº قام الرسول - صلى الله عليه وسلم - بعقد ميثاق وعهد ووثيقة مكتوبة تنظم العلاقات بين مختلف القوى والطوائف، والتجمعات والأفراد داخل هذا المجتمع، وكان من الطبيعي - بفضل سماحة الإسلام، وبفضل حرص الإسلام على حماية حقوق الأقليات الدينية والعرقية أن يسمح الرسول - صلى الله عليه وسلم - لليهود في المدينة بالدخول في هذا العقد الذي يمثل أرقى ما عرفت البشرية من عقود لحماية حقوق الأقلياتº الأمر الذي يعكس قيم الإسلام العليا - راجع نص وثيقة المدينة في سيرة ابن هشام، وفي الرحيق المختوم للمباركفورى، وكذلك في الدراسة الهامة التي كتبها الدكتور كمال السعيد حبيب في مجلة منبر الشرق، العدد (1) السنة الأولى مارس 1992م، صـ115 تحت عنوان قراءة جديدة في وثيقة المدينة، وهى قراءة شديدة التميز والأهمية، وكذا في الإعمال الكاملة للمفكر عصمت سيف الدولة -.

وعلينا أن ندرك أن مجتمع المدينة في ذلك الوقت كان يمثل كياناً سياسياً متميزاً، يمثل الرسول - صلى الله عليه وسلم - فيه القائد الأعلى، ويمثل المسلمون من المهاجرين والأنصار الأغلبية، مع وجود أقليات من المشركين، ومن اليهود كأفراد أو كجماعات، كانت الوثيقة تنص على وجود حقوق لليهود مثل المسلمين، وكانت ترتب علاقات وواجبات، وتسمح لليهود بالمشاركة في المعارك التي يخوضها المسلمون - دون إلزامهم بذلك -، فإذا شاركوا بأنفسهم أو أموالهم في الحروب مع المسلمين حصلوا على نصيبهم في الغنائم، وبديهي أن الوثيقة نصت على وجوب عدم تعاون أهل الوثيقة مع القوى المعادية - قريش مثلاً -، وعدم خيانة أهل المدينة أو إفشاء أسرار المجتمع، أو مساعدة الأعداء على انتهاك الأمن الداخلي لهذا المجتمع، واحترام حقوق الدماء والأموال وغيرها، وأن أي نقض لذلك يترتب عليه خرق الوثيقة بما يترتب على ذلك من آثار.

دخل اليهود في وثيقة المدينة إذن، وكان عليهم الالتزام بها بالطبع، والذين دخلوا في تلك الوثيقة من اليهود هم يهود المدينة وما حولها مثل بني قريظة، وكانوا يعيشون في ضاحية يثرب من جهة الجنوب الشرقي، وبني النضير وكانوا يعيشون في ضاحية يثرب جهة الغرب، وبني قينقاع وكانوا يقيمون داخل المدينة ذاتها مع قبائل بني عوف وبني النجار، وكان بنو قينقاع حلفاء للخزرج، أما بنو النضير وبنو قريظة فكانوا حلفاء للأوس، أما اليهود خارج المدينة مثل خيبر التي تقع على بعد 80 ميلاً شمال المدينة، وهي من أقوى الحصون والمواقع اليهودية في الجزيرة العربية في ذلك الوقت، وكذلك يهود فدك وتيماء، وكل هؤلاء لم يكونوا أطرافاً في الحلف والميثاق المدون بوثيقة المدينة.

ولاشك أن تعامل الرسول - صلى الله عليه وسلم - وسياساته تجاه اليهود تمثل العدل المطلق، وتعكس قيم الإسلام العليا، فقد حرص على التعايش بين المسلمين واليهود وغيرهم بدون ظلم لأحد، وهذه التجربة في التعايش تمثل نموذجاً فذاً للتعايش بين الأكثرية والأقلية في أي زمان ومكان، وكذلك في حرص الرسول - صلى الله عليه وسلم - على كتابة نص يمثل الحقوق المتبادلة في وثيقة مكتوبة، وهو أمر يمثل سابقة هامة على مستوى السوابق الدستورية، ولكن اليهود نقضوا العهود، فكان من الطبيعي أن تتغير سياسة الرسول - صلى الله عليه وسلم - تجاههم، فيسقط المعاهدة مع المتعاهدين منهم، ويتصرف مع الباقين على مستوى كل حدث، وكان اليهود قد تحركوا على أكثر من مستوى للكيد للدعوة الإسلامية الوليدة، وكذا لشن حملة دعائية وإعلامية ضد الدين الإسلامي الحنيف، وضد الرسول - صلى الله عليه وسلم -، والتربص بنساء المؤمنين، وإنفاق الأموال لدفع القبائل العربية لشن الحروب على دولة الرسول - صلى الله عليه وسلم - في المدينة، وتحريض قريش وغيرها، وتمويل الحرب ضد المسلمين وكذا تخطيط أكثر من مؤامرة لاغتيال الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ويمكننا أن نقسم سياسة المواجهة ضد اليهود التي خاضها الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى قسمين:

قسم خاص بتنفيذ عدد من عمليات الاغتيال لمجرمي الحرب اليهود، وزعماء المؤامرات.

والقسم الثاني خاص بالحروب والغزوات ضد تجمعات اليهود.

أما القسم الأول الخاص باغتيال زعماء المؤامرات ومجرمي الحرب اليهود مثل: اغتيال كعب بن الأشرف، وابن سنينة، وسلام بن أبى الحقيق المعروف بأبي رافع اليهودي، وهؤلاء كانوا من ممولي الحروب ضد دولة الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة، وكذلك قاموا بجهد كبير في تحريض القبائل العربية على قتال المسلمين في المدينة، والتعريض بإعراض المسلمات في المدينة عن طريق الشعر، وكذلك الحرب الإعلامية والدعائية ضد المسلمين، والمحاولات الخطيرة لشق المجتمع الإسلامي في المدينة، وإحداث حرب أهلية داخلها عن طريق بث الأفكار والإشاعات والمواقف مستخدمين في ذلك المنافقين، وهكذا فإن عمليات الاغتيال تلك كانت عقوبة على عمل مادي قام به هؤلاء، وكذلك عملية إجهاضية لمؤامرات تم نسجها وبث الرعب في نفوس باقي أطراف تلك المؤامرات.

أما القسم الثاني وهو الغزو ضد التجمعات اليهوديةº فحدث أولاً مع بني قينقاع، فبرغم أن بني قينقاع كانت داخلة في وثيقة المدينة، وبرغم احترام المسلمين لهذه الوثيقة تماماًº إلا أن بني قينقاع بدأوا خاصة بعد انتصار المسلمين في بدر في التحرش بالمسلمين، واستفزازهم، والتهديد بدخول معركة معهم يهزمون فيها المسلمين لأنهم على حد قولهم أقوى من قريش، وأشجع، ولن ينهزموا مثل قريش الذين لا يعرفون فن الحرب على حد قول بني قينقاع، وكذلك إيذاء المسلمين والتحرش بالنساء المسلمات، ووصل الأمر إلى حد محاولة إحداث حرب أهلية بين الأوس والخزرج، وهذا بالطبع أمر خطير جداً يستحق أقصى العقوبة، ذلك أن أحدهم وهو شاس بن قيس وكان شيخاً يهودياً شديد المكر أمر أحد الفتيان اليهود بالذهاب إلى مجالس الأوس والخزرج حيث يجتمع شبابهم عادة، ثم تذكيرهم بأيام الحروب والعداوات بينهم، وتحريضهم على قتال بعضهم بعض، وقد نفذ الفتى اليهودي ذلك الأمر، وكادت تحدث معركة بين الأوس والخزرج، فقد تشاجر بعض الأوس مع بعض الخزرج، ثم تواعدوا على الحرب، وتنادوا إلى السلاح، ولولا أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قد أدرك الموقف سريعاً وذهب إليهم، وقال لهم: ((يا معشر المسلمين الله الله، أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم بعد أن هداكم الله للإسلام، وأكرمكم به، وقطع به عنكم أمر الجاهلية، واستنقذكم به من الكفر وألف بين قلوبكم))، فعرف القوم أنها نزغة من الشيطان، وكيد من عدوهم، فبكوا وعانق الرجال من الأوس والخزرج بعضهم بعضاً، ثم انصرفوا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سامعين مطيعين قد أطفأ الله عنهم كيد عدوهم، وعدو الله شاس بن قيس ذلك اليهودي الملعون \"المباكفورى - الرحيق المختوم - صـ277، 278 \"، وكان الرسول - صلى الله عليه وسلم - كلما فعل اليهود شيئاً من ذلك دعاهم ووعظهم، وطلب منهم احترام الميثاق بين الطرفين دون جدوى.

وكان لابد أن يفكر الرسول - صلى الله عليه وسلم - في حماية الأمن الاجتماعي للدولة الذي تهدده مؤامرات اليهود وإشاعاتهم وأقوالهم وأراجيفهم، وحدث أن اعتدى اليهود على إحدى النساء المؤمنات حينما كانت تشترى بعض الأشياء من السوق، وجلست إلى أحد الصاغة اليهود، فأرادوا كشف وجهها فأبت المرأة ذلك، فعمد الصائغ إلى طرف ثوبها فعقده إلى ظهرها وهى غافلة، فلما قامت انكشفت سوأتها، فضحكوا منها، فصاحت، فوثب رجل من المسلمين على الصائغ اليهودي فقتله، فشدت اليهود على المسلم فقتلوه، فاستصرخ أهل المسلم المسلمين على اليهود فوقع الشر بينهم وبين بني قينقاع\" (سيرة بن هشام 2 / 47، 48)، وكانت هذه الحادثة سبباً مباشراً في نقض العهد والوثيقة بين المسلمين واليهود، وقرر الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن يغزو بني قينقاع بعد ذلك، فسار إليهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - بجيشه في شوال سنة 2 هـ، فتحصنوا في حصونهم، وحاصرهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - خمسة عشر يوماً، وانتهى الأمر بتسليمهم، فعفا الرسول - صلى الله عليه وسلم - عنهم، وأمر بخروجهم من المدينة فخرجوا منها.

ويجب أن نلاحظ هنا عدد من الملاحظات:

- أن يهود بني قينقاع هم الذين نقضوا العهد بما فعلوه مع المرأة المسلمة في السوق، وأن هذا لم يكن أول شكل من أشكال النقض ولكنه أكثرها مباشرة ووضوحاً، وأنهم قبل ذلك قاموا بالكثير من الأمور الناقضة لذلك العهد مثل الإيقاع بين الأوس والخزرج، أو أذية المسلمين، أو التهديد بحرب المسلمين، والتهديد بحرب المسلمين له قصة معروفة في السيرة، ونزل بها القرآن الكريم، ذلك أنهم قالوا بعد انتصار المسلمين في بدر: \"يا محمد لا يغرنك أنك قتلت نفراً من قريش كانوا أغماراً لا يعرفون القتال، إنك لو قاتلتنا لعرفت أنا نحن الناس، وأنك لم تلق مثلنا\"، وكان هذا بالطبع تهديداً واضحاً بالحرب ضد المسلمين، وكان بنو قينقاع مغترين بقوتهم، فقد كان لديهم 700 مقاتل، وكانوا معروفين بالمهارة في فن القتال.

- أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان يسير معهم بمقتضى العدل، بل بالرحمة أيضاً، فقد احترم الميثاق معهم تماماً، وصبر على ممارساتهم المخالفة للميثاق عدة مرات، ولكن عندما وصل الأمر إلى تهديد الأمن الداخلي لمجتمع المدينة فإنه باعتباره قائداً عاماً لهذه الدولة كان عليه أن يجهض المؤامرات، وأن يقضى على بؤرة الفتنة داخل المدينة، فكان غزوهم ثم إجلائهم، ونلاحظ أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يأمر بقتلهم رغم أنهم تحصنوا بحصونهم عند الغزو أي بدأوا في معركة، ولم يصمدوا حتى النهاية، فاستسلموا بعد حصار خمسة عشر يوماً، وكان من حق الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن يأخذهم أسرى على الأقل، ولكنه عفا عنهم، وسمح لهم بالجلاء عن المدينة، فحقق بذلك الأمن الاجتماعي داخل المدينة، وعاقب اليهود عقاباً طفيفاً على مؤامراتهم من ناحية أخرى.

- أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان يسمح ويريد تعايش المسلمين مع اليهود في المدينة بدون مشاكل وفقاً لقيم العدل الإسلامي، بل وقيمة العدل المطلق، بدليل أنه عندما نقضت بنو قينقاع الميثاق عاقبهم وحدهم دون باقي جماعات اليهود في المدينة مثل بني النضير وبني قريظة، واستمر محترماً للميثاق معهم حتى نقضوه هم أنفسهم.

- أن التسوية لم تكن قاسية ولكنها حققت الهدف أيضاً، لأن المطلوب كان حماية الجبهة الداخلية لمجتمع المدينة، وهذا تحقق بجلاء يهود بني قينقاع.

أما يهود بني النضير فإنهم أيضاً هم الذين نقضوا الميثاق، ومثل باقي اليهود كانوا يضمرون الحقد على الإسلام، وبحرضون القبائل على حرب الرسول، ويمولون ذلك، ويقومون بدورهم في الحرب الإعلامية ضد المسلمين، ولكن وتيرة التآمر عندهم زادت بصورة كبيرة بعد غزوة أحد التي انهزم فيها المسلمون أمام قريش، فقد تجرأ يهود بني النضير بعد هزيمة المسلمين في أحد فكاشفوا بالعداوة والبغضاء، وأخذوا يتصلون بالمشركين والمنافقين، ثم دبروا في النهاية مؤامرة لقتل الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن طريق إلقاء رحى عليه عندما جلس عندهم للتفاوض حول مساهمتهم في دية بعض القتلى من الكلابيين الذين قتلهم عمرو بن أمية الضمري وفقاً لشروط الوثيقة.

فلما انكشفت المؤامرة التي شاركوا فيها جميعاًº بالتخطيط أو التنفيذ أو الموافقة، ذلك أن محاولة القتل تلك لم تكن عملاً فردياً بل قراراً اتخذه زعماؤهم، ووافقوا عليه جميعاً، ثم تم تكليف بعضهم بتنفيذهº إلا أن الله - تعالى- أخبر به الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فقام قبل تنفيذ المؤامرة، ونجا من المحاولة، ثم قرر الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن يطلب منهم الرحيل عن المدينة جزاء ما فعلوا، وأمهلهم عشرة أيام إلا أنهم رفضوا ذلك، وكان هذا إعلان للحرب بالطبع، فمن ناحية فإنهم لم ينكروا مؤامراتهم لقتل الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ولكن اعترفوا بها، وصمموا على رفض طلب خروجهم من المدينة، فكانت الحرب لا بد واقعة، فسار إليهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - بجيشه، وحاصرهم ستة أيام إلى أن استسلموا، فسمح لهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالخروج من المدينة، ولهم أن يحملوا معهم ما شاءوا من الأموال والأمتعة ما عدا السلاح، وكانت هذه عقوبة رحيمة أيضاً بالنظر إلى ما فعلوا، وبالنظر إلى رفضهم قبول طلب الرسول - صلى الله عليه وسلم - إليهم بالرحيل في خلال عشرة أيام، وتمسكهم بالحرب، وتحصنهم داخل الحصون، ثم استسلامهم بعد حصار دام ستة أيام.

وأيضاً لم يؤثر نقض كل من بني قينقاع وبني النضير للميثاق مع الرسول - صلى الله عليه وسلم - على موقف الجماعة اليهودية الوحيدة الباقية في المدينة وهى بني قريظة التي ظل المسلمون يحترمون الميثاق معها إلى أن نقضها بني قريظة نقضاً فظيعاً أقل ما يقال فيه أنه الخيانة العظمى، ذلك أن اليهود عموماً في داخل المدينة وخارجها، ومن بني قريظة نفسهاº قاموا بالعمل على حشد عدد كبير من القبائل العربية فيما يسمى بغزوة الأحزاب، وقاموا بتمويل تلك الحشود، ليس هذا فحسب بل إن بني قريظة اتفقت مع الأحزاب على دخول المدينة عن طريق بني قريظة، إلا أن تلك الخطة فشلت، وعندما أرسل الرسول - صلى الله عليه وسلم - إليهم لكي يعرف حقيقة نواياهم - والمدينة محاصرة بجيوش الأحزاب - قالوا لوفد المسلمين إليهم وكان يتكون من سعد بن عبادة، وسعد بن معاذ، وعبد الله بن رواحه: إنه لا عهد بيننا وبين محمد ولا عقد، وأخذوا يسبون الرسول - صلى الله عليه وسلم - ويتوعدون المسلمين، وكذلك قامت بني قريظة بأعمال الحرب المباشرة بمحاولة دخول أحد الحصون التي كانت نساء المسلمين تجمعن بها بعد خروج الرجال إلى المواجهة مع الأحزاب ويسمى حصن فارع، أي محاولة ضرب المسلمين في نسائهم من الخلف، ولولا شجاعة صفية بنت عبد المطلب التي قتلت أحد اليهود الذي حاول تسلق الحصن، فرجع الآخرون بعد أن ظنوا أن هناك حراسة قوية على الحصن لحدثت كارثة.

المهم أن الله أراد النصر للمسلمين، وأرسل ريحاً على الأحزاب فاضطروا للجلاء والرجوع إلى بلادهم، وكان من الطبيعي أن ينال يهود بني قريظة العقوبة الملائمة على الجرائم التي ارتكبوها في ذلك الوقت العصيب في حق المسلمين رغم وجود الميثاق بينهما، وهذه الجرائم تمثل أبشع أنواع الخيانة العظمى، فهي أولاً التعاون مع العدو أثناء حالة الحرب، وثانياً ضرب مؤخرة المسلمين بل ومحاولة الاعتداء على النساء، والاعتراف جهراً بنقض العهد، وسب الرسول - صلى الله عليه وسلم -، والاتفاق مع الأحزاب على دخول المدينة من طريق بني قريظة، وهكذا كان من الطبيعي أن يعمد الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى غزوهم بمجرد جلاء قوات الأحزاب، وفى نفس اليوم الذي رجع فيه الرسول إلى المدينة أمر بعدم الراحة، والزحف فوراً إلى بني قريظة وقال: (من كان سامعاً مطيعاً فلا يصلين العصر إلا في بني قريظة)، وسار الجيش إلى بني قريظة، وحاصرهم في حصونهم إلى أن استسلموا، وكانت بني قريظة من حلفاء الأوس، فتم الاتفاق على أن يحكم فيهم سيد الأوس سعد بن معاذ، وكان مريضاً في ذلك الوقت، فجيء به إلى المكان، فقام بالحكم عليهم حكماً مناسباً يتلائم مع جرائمهم، رغم أنه كان حليفاً لهم من قبل، ولا يعقل أن يظلمهم أو يقسوا عليهم - ولكن مقتضى العدل، وحجم جرائمهم لم تكن تسمح إلا بهذا الحكم الذي حكمه عليهم سعد بن معاذ - رضي الله عنه - حيث حكم بقتل الرجال، وسبى النساء، وتقسيم الأموال.

وهكذا كانت تلك هي ممارسات الرسول - صلى الله عليه وسلم - مع يهود يثرب، فهو أولاً أراد التعايش معهم وإعطاء كل حقوق المواطنة لهم في إطار دولة المدينة، لدرجة السماح لهم بالقتال معه ضد أعدائها مع إعطائهم حقهم في الغنائم بناء على ذلك كمواطنين في دولة المدينة أفراداً وجماعات، إلا أنهم رفضوا التعايش، وخانوا الميثاق والعهد المكتوب فاستحقوا العقوبة على جرائمهم، ونلاحظ أن العقوبات دائماً كانت إما متكافئة مع جرائمهم، أو أقل من تلك الجرائم مما يؤكد روح العدل والرحمة التي عاملهم بها الرسول - صلى الله عليه وسلم -.

بقى بعد ذلك تجمعات يهودية خارج المدينة، وهذه لم تكن داخلة بالطبع في عهد وميثاق من أهل المدينة، وبالتالي يخضعون لنفس المعايير التي خضعت لها معادلات الصراع بين المسلمين وبين مختلف القبائل العربية في الجزيرة العربية، كان هناك خيبر وتيماء وفدك ووادي القرى، وتقع خيبر على بعد 80 ميلاً شمال المدينة، وكانت خيبر أهم وأغنى تجمعات اليهود في الجزيرة العربية وأكثرها قوة، كانت خيبر تدير منذ بدايات الدعوة الإسلامية الكثير من المؤامرات على الإسلام بالتنسيق والتعاون مع باقي يهود الجزيرة العربية، كانت خيبر هي وكر الدس والتآمر فهي التي قامت بالدور الأكبر في تحريض القبائل، وتمويل زحفها على المدينة في غزو الأحزاب، وكانت تتصل بالمنافقين في المدينة، وكانت قد أصبحت ملجأ لكل زعماء اليهود وجماعاتهم المتآمرة بعد ضياع كيانهم في المدينة، وكانت خيبر قد أعدت خطة لاغتيال الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وكذلك كانت تستعد للزحف إلى المدينة مع عدد من الجيوش والقبائل للقضاء على المسلمين فيها بعد أن نجح المسلمون في القضاء على الكثير من القوى المعادية لهم، أي أنها كانت المحطة الأخيرة لتجميع كل فلول الشرك في الجزيرة العربية، وعمل المؤامرة الكبرى على الإسلام، وكان من الطبيعي وفقاً للتكتيك النبوي من إجهاض تلك البؤرة، وما أن فرغ المسلمون من تهدئة جبهة قريش بصلح الحديبية توجه مع جيشه سنة 7 هـ إلى خيبر لغزوها، وقد نجح المسلمون في فتح خيبر بعد قتال صعب ومرير، وقد تركهم الرسول بعد ذلك يعملون في الأرض مقابل جزءً من الثمار، وهذا من رحمة النبي - صلى الله عليه وسلم -، إلا أنه صادر أموالهم وسلاحهم حتى لا يصبحون من جديد قادرين على حشد الجيوش، أو تمويل الحروب ضد دولة المسلمين، وحدث نفس الشيء مع يهود وادي القرى، وصالح يهود فدك على نفس ما صالح عليه أهل خيبر، أما يهود تيماء فقد أرسلوا من أنفسهم يطلبون الصلح، فكتب لهم الرسول بذلك ما معناه \"هذا كتاب محمد رسول الله إن لهم الذمة وعليهم الجزية، ولا عداد ولا جلاء الليل مد والنهار شد\" طبقات ابن سعد.

وهكذا كان التكتيك النبوي تجاه اليهود هو العدل والرغبة في التعايش أولاً، فإذا ما نقضوا العهد كانت هناك عمليات الإجهاض والحرب الهجومية والوقائية، وعدم تركهم حتى تكتمل مؤامراتهم، والمحافظة على أمن الدولة الإسلامية الوليدة، وامتلاك زمام المبادرة دائماً.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply