ما أشبه الليلة بالبارحة ( 2- 2 )


  

بسم الله الرحمن الرحيم

وفي الأحزاب دروس وعبر

عاش المسلمون في غزوة الأحزاب أوقاتاً كانت غاية في الشدة، فحينما وصل خبر تحزّب الأحزاب واجتماع القبائل العربية لحرب المسلمين في المدينة، أصيب المسلمون بشيء من الرعب والهلع والخوف والفزع، إذ كان عدد الجيش الذي جاء لغزوهم لا يقل عن عشرة آلاف مقاتل، بينما لا يزيد جيش المسلمين - في أكثر تقدير- عن ثلاثة آلاف(1)أضف إلى ذلك أن المسلمين كانوا يمرون بعام مجاعة، حتى إن معظمهم كانوا لا يجدون القوت الضروري الذي يسدون به جوعهم، وزاد مصابهم وهلعهم ما توارد إليهم من غدر يهود بني قريظة من داخل المدينة، وخشيتهم أن يضربوا من الخلف أثناء انشغالهم بمواجهة ذلك الجيش العرمرم، وكانت ذراريهم ونساؤهم على مقربة من أولئك الغادرين في غير منعة وحفظ، وقد صور الله -تعالى- ذلك الموقف الرهيب الذي عاشه المسلمون واجتمعت فيه الظروف وتكالبت على المسلمين بقوله: (إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالاً شـديداً) [الأحزاب: 10- 11].

 

وفي ظل تلك الظروف العصيبة الشديدة كان المسلمون يسابقـون الزمن لإتمام حفر الخندق، ولما عرضت لهم صخرة كبيرة لم تُفد معها معاولهم، اشتكوا ذلك للرسول - صلى الله عليه وسلم - فهبط إلى الصخرة فأخذ المعول، وقال: \"بسم الله\" فضرب ضربة فكسر ثلثها، وقال: \"الله أكبر، أُعطيت مفاتيح الشام، والله إني لأبصر قصورها الحمراء من مكاني هذا\". ثم ضرب الثانية فقطع الثلث الآخر فقال: \"الله أكبر، أُعطيت مفاتيح فارس، والله إني لأبصر قصر المدائن أبيض\". ثم ضرب الثالثة وقال: \"بسم الله\" فقطع بقية الحجر فقال: \"الله أكبر، أعطيت مفاتيح اليمن، والله إني لأبصر أبواب صنعاء من مكاني هذا الساعة\" (2).

 

وقفات مع المعركة:

وما نود أن نقف عنده في هذه الغزوة -التي تكاد تنطبق على واقعنا اليوم من تحزب الأحزاب الكافرة وتحالفها على الإسلام والمسلمين- هو حسن الظن وشدة الثقة بوعد الله -تعالى- فبالرغم من كل تلك الظروف العصيبة الشديدة التي أحاطت بالمسلمين في ذلك الوقت من حصار جماعي من مختلف قبائل العرب، وبجيش عرمرم يبلغ قوامه عشرة آلاف مقاتل-ربما هو أكثر من سكان المدينة بكاملها- ومن خوف وخشية من غدر يهود بني قريظة من خلفهم ومن ظروف عصيبة مختلفة من جوع وخوف وهلع وشدة برد..، ومع هذا لم ييأس المسلمون ويستسلموا -كما يُنادي بعض الانهزاميين اليوم- بحجة عدم التكافؤ في كل شيء وأن المقاومة من إلقاء اليد إلى التهلكة..إلخ.بل قاوموا ببسالة ولم يفقدوا ثقتهم بالله -تعالى- حتى إن المسلمين رفضوا فكرة مصالحة غطفان على ثُلث ثمار المدينة مقابل انصرافهم حتى يضعف الحصار ويدب التخاذل بين بقية التحالف العربي اليهودي.

وليس هذا فحسبº بل إنه بالرغم من كل تلك الظروف التي تكالبت على المسلمين، فقد كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - يعدهم بفتح الشام وفارس واليمن وهي الدول العظمى في ذلك الوقت!!

وتأمل موقف المنافقين الانهزاميين إزاء تلك الوعود وتزعزع قلوبهم حينما رأوا كثرة جيوش الأحزاب، حتى قالوا: محمد يعدنا بكنوز كسرى وقيصر وأحدنا لا يأمن على نفسه أن يذهب إلى الغائط\" (3).

فنزل فيهم قول الله تعالى-: (إذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض ما وعدنا الله ورسوله إلا غروراً) [الأحزاب: 12].

ثم تأمل موقف المؤمنين الصامدين لما رأوا الأحزاب وإيمانهم بتحقق وعود رسولهم الكريم: (ولما رأى المؤمنون الأحزاب قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله وما زادهم إلا إيماناُ وتسليما) [الأحزاب: 22].

وانظر نتيجة صدق الإيمان والثقة بما وعدهم الله به ورسوله، لقد كفاهم الله القتال بما أرسل على الأحزاب من الريح، وبما فرق به بين قلوبهم حتى شتت شملهم وردهم بغيظهم، قال -تعالى-: (ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيراً وكفى الله المؤمنين القتال وكان الله قوياً عزيزاً) [الأحزاب: 25].

 

أيعيد التاريخ نفسه؟

واليوم.. كم هم أولئك الذين قتلهم اليأس من واقع الأمة، وقالوا مقالة أولئك المنافقين: \"إن كل شيء يمكن أن ينهض ويتغير إلا هذه الأم \" أو كما قال بعضهم: \"من المحال أن تنتصر الأمة على أعدائها\"، أو أن ذلك \"من القفز على الواقع\"، أو أنه \"من السباحة في غياهب الخيال المحلق الحالم \"، ونحو ذلك من الأقوال التي تنضح باليأس والتشاؤم من قيام الأمة ونهوضها مرة أخرى!!

 

ولو أحسن المسلمون الظن بالله -تعالى- وصدَقوا في نصرة بعضهم بعضاً بنية خالصة ومشاعر صادقة -لا بكلام لا يجاوز الآذان ولا بالشجب والاستنكار فقط- لنصرهم الله -تعالى- على عدوهم المعتدي في فلسطين والعراق وكشمير والشيشان والفلبين وفي كل مكان فالله -تعالى- أيد المسلمين ونصرهم على عدوهم -رغم فارق الإمكانات- لمجرد أنه - سبحانه - رأى صدقهم وثقتهم به، فأرسل عليهم كارثة طبيعية، زلزلت قلوب أعدائهم وقوضت خيامهم وأطفأت نارهم وقلبت قدورهم.

وفي ظل تحزب قوى الكفر على الأمة الإسلامية اليوم وتضييقها على المسلمين في كل مكان، وتنكيلها بدعاتهم، واغتصابها لأراضيهم، واستنزافها لثرواتهم.. º كم نحن بحاجة إلى مراجعة حساباتنا وصلتنا بديننا وثقتنا بربنا ونصرة بعضنا بعضاً بالدعاء وبما نستطيع، وأن ما يحصل للمسلمين من الهوان وتسليط الأعداء إنما هو لحكم عديدة وأسباب كثيرة يأتي في مقدمتهاº ضعف الإيمان، وترك الجهاد، والركون إلى الدنيا، وعدم نصرة بعضنا بعضاً ولو بالنية الصادقة، وكذا الابتلاء والتمحيص واتخـاذ الشهداء واصطفاء الأولياء ومعرفة العاملين من المتخاذلين.. إلخ.

وبالرغم من الأثر السيئ لذلك التضييق وسيطرة الأعـداء على أمتنا واحتلالههم لبعض بلدانها، إلا أن فيه فألاً حسناً، فالأمة الغافلة لا يمكن أن تستيقظº إلا بمثل هذه الضربات المتتابعة والصفعات الموجعةº بل إنها قد تفعل ما لا تفعله كثير من قوى المصلحين من إزالة التشاحن والعداوات، وإشاعة المحبة والمودة والتكافل والتعاضد والتقارب والولاء المتبادل بين أبناء الشعوب الإسلامية.

والأمة اليوم أفضل بكثير من سنوات مضت، وهي تسير سيراً حسناً -ما تمسكت بكتاب ربها وسنة نبيها- فلا ينبغي استبطاء النصر واستعجال الظفرº فهو قادم -بإذن الله تعالى-.

وتأمل كيف أن الشام وفارس واليمن التي وعد الرسول - صلى الله عليه وسلم - بفتحها لم يظفر بها المسلمون إلا بعد وفاته - صلى الله عليه وسلم - بسنين، بل إنه - صلى الله عليه وسلم - وعد بفتح القسطنطينية ولم تفتح إلا بعده بقرون، وفي ذلك درس للمتعجلين الذين يستبطئون الظفر والنصر وهو قادم -بإذن الله-.

 

8/1/1428هـ

 

-----------------------------------

(1) وقد رجّح الشيخ أحمد باشميل قول ابن حزم أن عدد المسلمين لم يكن يتجاوز التسعمائة مقاتل، وقد انتصر لذلك القول بعدة استشهادات منطقية، انظر ذلك في موسوعة الغزوات الكبرى، لأحمد باشميل 3/148-152.

(2) رواه أحمد 4/303 وقال ابن حجر: إسناده حسن، انظر: الفتح 7/458.

(3) البداية والنهاية، ابن كثير 2/106.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply