الإسلام وعامل الزمن:
وحيث أن الزمن هو العنصر الثالث لبناء الحضارة، فإن الإسلام لم يغفله وجعل الوعي به في دائرة اهتماماته.فقد وجهت تعاليم الإسلام التي جاء بها محمد - صلى الله عليه وسلم - المسلم إلى التزام الإطار الزمني لكل أعماله، من شعائر العبادة إلى ما يعبد الله به من أقوال وأعمال، حتى يصبح النظام عادة له وسلوكا، تفاديا لهدر الزمن وإضاعته.
فقد خصصت هذه التعاليم لجميع العبادات والأحكام التي نزلت بها، أزمنة لممارستها:
فالصلوات لها أوقاتها المحددة والمضبوطة، والزكاة على المال لكي تصبح واجبة، يجب أن يبلغ نصابه أجلاً معلوماً. والصيام له زمنه ومدته المعلومة، وهي شهر رمضان. والحج كذلك، له وقت محدد: بعد رمضان إلى أيام التشريق.
كذلك لطهر المرأة من حيضها ونفاسها زمن. وللإحرام والحل في الحج زمن. بحيث يترتب على ذلك أمور لا يتسع المجال لذكرها..
كذلك في المعاملات: كالبيع والإجارة والوكالة، لها أزمنة تضبطها ويترتب عليها أحكام خطيرة.
وللزمن اعتبار في الطلاق والإيلاء والظهار واللعان والأَيمان وفي الشهادات..
وقد تتابعت الآيات والأحاديث التي تثبت ذلك في وعي المسلم وسلوكه.
إن الإسلام هو الدين الذي اعتنى بالوقت عناية بالغة، ولفت إليه الأنظار والعقول، وربى الأمة على احترام الوقت. فنجد أن الله - تعالى -في سور شتى يستعمل الوقت وأجزاءه في القسم: {والليل إذا يغشى *والنهار إذا تجلى..} . {والضحى والليل إذا سجى.. }. {والعصر.. }. {والفجر وليال عشر.. }. ونعلم أن الله - جل وعلا - إذا أقسم بشيء، فإنما ليلفتنا إلى أهميته وخطورته. ويقول - تعالى -: {وسخر لكم الليل والنهار... }. أي سخر لكم الزمن لتستفيدوا منه، ولتوظفوه وتستغلوه أحسن الاستغلال. ويقول - عز وجل - أيضا: {وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورا}. يعني أنه - تعالى -جعل الليل يخلف النهار، والنهار يخلف الليل. فمن فاته العمل في النهار، تداركه في الليل، ومن فاته شيء في الليل تداركه في النهار. المهم هو أن الوقت لا يضيع.. وكل يوم بليله ونهاره يشهد على ابن آدم يوم القيامة. فعن معقل بن يسار أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (ليس من يوم يأتي على العبد إلا ينادى فيه: يا ابن آدم، أنا خلق جديد، وأنا فيما تعمل عليك شهيد، فاعمل فيٌ خيرا أشهد لك به غدا، فإني لو قد مضيت لم ترني أبدا، ويقول الليل مثل ذلك). وعن معاذ بن جبل - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (لن تزول قدما عبد يوم القيامة، حتى يسأل عن أربع: عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه، وعن علمه ماذا عمل به). وعن أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إن قامت الساعة وبيد أحدكم فسيلة، فإن استطاع أن لا تقوم حتى يغرسها فليفعل).
وكان حسن البنا - رحمه الله - يقول: \" الوقت هو الحياة \". إذن: من ضيع وقته فقد ضيع حياته.
وقد كان السلف الصالح يعتبرون أن الله يمقت عبده، إذا ضيع وقته، فيقولون: \" من علامة المقت، إضاعة الوقت\". ويقولون أيضا: \"الوقت كالسيف، إن لم تقطعه قطعك\". ويقولون: \"لا تؤخر عمل اليوم إلى الغد، فإن لغد عمله... \".
ولهذه الأهمية للوقت، جعل مالك ابن نبي- كما سبق ذكره - الوقت هو العنصر الثالث لبناء الحضارة. وبالفعل، فعندما أعطى المسلمون منذ ثمانية قرون للوقت أهميته، كنا نحن العالم الأول في العالم، وليس العالم الثالث على حد تعبير : الدكتور القرضاوي لأننا كنا في موضع القيادة، وكان العالم آنذاك يتعلم منا.. كانت أسماء العلماء المسلمين أشهر الأسماء، وكانت المراجع العلمية المكتوبة في الطب والرياضيات وفي مختلف العلوم... هي المراجع الأساسية، وقد ترجمت إلى اللغة اللاتينية، فكان إشعاع الحضارة الإسلامية يعم أصقاع الدنيا..
إن البناء الحضاري يحتاج إلى وعي بالزمن، وطاقة دينامية، تملأ الزمن بالحركة الحية المتجددة التي تتباين مجالاتها وأساليبها وفقا لظروف الواقع المتغير، واحتياجات على هدى مبادئ الإسلام وتعاليمه. والدين الإسلامي قادر على إطلاق طاقة الإنسان من أبعد الأعماق، إلى أوسع الآفاق على مدى الزمن، إذا طبق هذا الإنسان تعاليم هذا الدين، وجعل محمدا الرسول قدوته..
هذا فيما يتعلق بطاقة الإنسان الدينامية: فماذا عن الطاقة الأخلاقية؟ التي هي صمام الأمان، والضامن لاستمرار حضارة راقية زاهية مزدهرة، تحقق للإنسان السعادة المطلوبة في الدارين، هل يقدر الإسلام الذي جاء به محمد على توليد هذه الطاقة؟
لقد سبق القول أن محمداً - صلى الله عليه وسلم - صنع مجتمعا فريدا من نوعه، مجتمعا مثالياً، أقرب إلى الملائكة منه إلى البشر، وقويا شامخا شموخ الجبال، وأن أصحابه وتلامذته استطاعوا أن يقيموا حضارة استمرت ثمانية قرون.. إذن، فالجواب واضح، ومحمد - صلى الله عليه وسلم - بصفاته الذاتية، وما جاء به من تعاليم، يقدر على ذلك. يكفي أن يجعله الإنسان قدوته الحسنة، ويتبعه.. وهنا، وفي هذا المجال، يتبادر - من جديد - إلى ذهنكم السؤال: من هو محمد؟ فأقول:
إنه رسول المحبة والسلام:
إن السلام في الإسلام شأن عظيم، وأمر خطير. رفع لواءه الدائم مع بقية المثل العليا التي دعا إليها. وما كان السلام في الإسلام أمراً شخصياً، ولا هدفاً قومياً، ولا مطلباً وطنياً، بل كان عالمياً وشمولياً. لقد شارك كل الأنبياء والرسل في تشييد صرح السلام، لكن لم يكتمل بناؤه منهجيا ولم يتم، إلا برسالة الرسول الأعظم الخاتم محمد - صلى الله عليه وسلم -، الذي كمُل به التخطيط الإلهي - عندما ختمت به الرسالات - لتحقيق سلام الإنسان الأبدي، وبالأحرى لتحقيق الإخاء والتعاون العالمي، من أجل سعادة كل البشر..
لقد كان محمد - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه وتلامذته الأبرار من بعده، القدوة الحسنة والبارزة في إقامة السلام، والمثال الحي في تعميم الإحسان والحب والإخاء في المجتمع العالمي الإسلاميº واستطاعوا بذلك في زمن قياسي، وبوسائل بدائية، أن يوحدوا نصف العالم القديم، من حدود فرنسا إلى الصين، في ظلال من العلم والحضارة والأخوة الروحية والمساواة بين الشعوب على اختلاف ألوانها وأديانها وقومياتها. واستطاعوا أن يمحوا الحدود السياسية والجغرافية، وإن يطبقوا العدالة الاجتماعية- وما تسمونه اليوم الديموقراطية الديموقراطية الحقة الصافية - وأن يعيدوا للإنسان عمليا حقوقه المغتصبة.. ومن الطبيعي أن ينبغ في هذا المناخ النقي الصافي عباقرة العلماء والقادة..
كذلك عم الرخاء والأمن على الشعوب، حتى صارت المرأة تجتاز صحراء العراق المخيفة، إلى مكة المكرمة، لا تخاف أحدا، ولا أبالغ إذا قلت: حتى صار الذئب يحرس الغنم، كما جاء في الأثر..
لقد أعطى المسلمون هذه الأهمية البالغة للسلام، بناء على ما جاء في مصدري التشريع الأولين: القرآن الكريم والسنة المطهرة. فنظرا لما تتضمنه كلمة السلام من معاني السلامة والأمن والطمأنينة، فقد جعلها الله - سبحانه - كلمة التحية لأهل الجنة. يحييهم الله والملائكة بالسلام، وهم كذلك يحيون الله والملائكة، ويحيي بعضهم البعض بالسلام:
{سلام قولا من رب رحيم} [يس: 85]
{والملائكة يدخلون عليهم من كل باب * سلام عليكم} [الرعد: 23]
{هو الذي يصلي عليكم وملائكته ليخرجوكم من الظلمات إلى النور وكان بالمؤمنين رحيما * تحيتهم يوم يلقونه سلام وأعد لهم أجرا عظيما} [الأحزاب: 43-44].
{إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات يهديهم ربهم بإيمانهم تجري من تحتهم الأنهار في جنات النعيم* دعواهم فيها سبحانك اللهم وتحيتهم فيها سلام وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين} [يونس: 9].
ولنفس الأهمية، نجد الله - سبحانه وتعالى - يجعل السلام اسما من أسمائه الحسنى، فيقول: {هو الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر. سبحان الله عما يشركون} [الحشر: 23]
ويمدح - سبحانه - عباده المؤمنين قائلا: {وعباد الرحمن الذين يمشون هونا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما} [الفرقان: 63]. ويقول - جل وعلا - مكافئا من نهج طريق السلام: {يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم} [المائدة: 16]. وللترغيب في السلام والحث عليه، سمى - سبحانه - الجنة: دار السلام، فقال عز من قائل: {لهم دار السلام عند ربهم وهو وليهم بما كانوا يعملون} [الأنعام: 127]. {والله يدعو إلى دار السلام ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم} [يونس: 25]
أما في السنة المطهرة، فإننا نجد الرسول - صلى الله عليه وسلم - لنفس الغرض - يقرر أن تكون كلمة السلام هي تحية الإسلام، وفرض أول ما فرض على المسلمين، أن تكون التحية بينهم هي السلام، حتى يشعروا بالأمن والسلامة والاطمئنان، ويأمن كل منهم جانب الآخر.. فكان أول خطاب للرسول محمد - صلى الله عليه وسلم -، عندما دخل المدينة المنورة مهاجرا يحث على السلام، إذ خاطب المسلمين قائلا: (أيها الناس، أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصلوا الأرحام، وصلوا بالليل والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام) [صحيح]. ولكي ترسخ هذه المعاني وتثبت، يفرض الله - عز وجل - رد هذه التحية بمثلها أو بأحسن منها فيقول: {وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها إن الله كان على كل شيء حسيبا}[النساء: 86]. ومن باب التأكيد يصرح الرسول - صلى الله عليه وسلم -: (إن السلام اسم من أسماء الله - تعالى -، فأفشوه بينكم) [صحيح]. وحتى يرسخ مفهوم السلام لدى أتباعه، فقد جعل كلمة السلام تتردد على ألسنة المصلين تسع مرات في الصلاة المكتوبة وحدها عند التشهد، وندعو بها عقب كل صلاة: اللهم أنت السلام، ومنك السلام، فحينا ربنا بالسلام، وأدخلنا الجنة دار السلام، تباركت وتعاليت يا ذا الجلال والإكرام. وجعل رد السلام حقا من حقوق المسلم على المسلم، فقال - صلى الله عليه وسلم -: (حق المسلم على المسلم خمس: رد السلام، وعيادة المريض، واتباع الجنائز، وإجابة الدعوة، وتشميت العاطس) [صحيح]. كما جعل السلام وسيلة للمحبة بين الناس فقال - صلى الله عليه وسلم -: (... أفلا أنبئكم بشيء إذا فعلتموه تحاببتم: أفشوا السلام بينكم) [حسن]
وحتى يدلل على أهمية السلام بالنسبة لروح الإنسان، لم ينس الأموات، فكان يهدي أرواحهم السلام كلما دخل المقبرة، وأمرنا بذلك، فكان يقول - صلى الله عليه وسلم -: (السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون... ) [صحيح]
أما موضوع المحبة، فقد مرت الإشارة إليه، والحديث عليه يحتاج إلى كتاب، ولكن الذي يجب أن يُعرف في هذا الصدد، أن الإسلام جعل المحبة والأخوة في الله من أعظم القربات، وبالقيام بحقوقهما يتقرب الإخوة المتحابون إلى الله زلفى، وبالمحافظة عليهما تنال الدرجات.
والمحبة في الإسلام مقامات: حب الله، وحب الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وحب خلق الله. وحب الله ورسوله فرض أوجبه الله على كل مسلم ومسلمة. يقول الله - تعالى -: {قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأذن الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين} [التوبة: 42]
وقال - صلى الله عليه وسلم -: (لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه). قالها - صلى الله عليه وسلم - لعمر - رضي الله عنه -، لما أخبره بقوله: يا رسول الله، والله لأنت أحب إلي من كل شيء إلا نفسي. وقد نبه هذا الحديث عمر - رضي الله عنه -، لما أجابه الرسول - صلى الله عليه وسلم - به، فاستدرك: فأنت الآن أحب إلي من نفسي. فأجابه الحبيب - صلى الله عليه وسلم -: (الآن يا عمر). أي الآن فقط، بلغت درجة الإيمان.
ومن تمام محبة الله ورسوله: العمل بالأوامر، واجتناب النواهي. وجعلُ المصطفى - صلى الله عليه وسلم - القدوة الحسنة. قال الله - تعالى -: {قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحبكم الله ويغفر لكم ذنوبكم.. } [آل عمران: 13]
وقد أعطى الرسول العظيم أعظم مثال للمحبة والإخاء، حين آخى بين الأنصار والمهاجرين، هذه الحركة التي لم يشهد لها التاريخ مثيلا لحد الآن. فكانت النتيجة رائعة، أفرزت مجتمعا جديدا هو إلى الملائكة أقرب منه إلى البشر أبهر العالم بأخلاقه وإنجازاته، حيث يقول فيه العلي القدير: {محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم... } [الفتح: 92]. وقال فيهم أيضا: {للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون * والذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون... } [الحشر: 8-9]
إنه رسول مكارم الأخلاق:
كيف ذلك؟ الجواب يتلخص بصفة إجمالية في قوله الله - تعالى - الذي بعثه: {وإنك لعلى خلق عظيم} [القلم: 4]. وفي حديثه - صلى الله عليه وسلم - عن أبي هريرة: (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق). وعن أبي أمامة الباهلي- رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (أنا زعيم بيت في ربض الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقا، وبيت في وسط الجنة لمن ترك الكذب وإن كان مازحا، وبيت في أعلى الجنة لمن حسن خلقه)، صحيح، رواه أبو داود. وكان دعاؤه - صلى الله عليه وسلم - على الدوام: (اللهم اهدني لأحسن الخلاق، لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عني سيئها، لا يصرف عني سيئها إلا أنت، لبيك وسعديك، والخير كله في يديك، والشر ليس إليك، أنا بك وإليك، تباركت وتعاليت)، رواه مسلم.
إن الإسلام الذي جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم -، يؤكد باستمرار على أن مكارم الأخلاق هي نتيجة حتمية لممارسة مختلف العبادات والمناسك، فكل عبادة تؤدي ممارستها إلى اكتساب نوع أو أنواع من الصفات الحميدة، التي بتكرارها وتطبيقها تصبح أخلاقا حميدة مألوفة مستساغة لا غنى عنها. بمعنى أن كل عبادة، مدرسة تقوم على تربية المسلم التربية المطلوبة، لتجعل منه العنصر الأول والأساسي لبناء الحضارة المنشودة. فالتربية الحسنة هي القوة الفعالة التي تجعل العمل الصالح البناء، ينطلق من الذات، ولا خير في عبادة لا تنتج هذه التربية.. ولذلك فإن الشيخ محمد الغزالي - رحمه الله -، يرى أن: الأخلاق أهم من العبادات\". واستدل على ذلك بالحديث الصحيح الذي رواه البخاري: (آية النافق ثلاث، وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان). وهو يرى أن \"الجملة الاعتراضية في الحديث: (وإن صام وصلى.. )، تدل على أن عبادة المنافق لم تشفع له في إخراجه من زمرة المنافقين، لما يعيب شخصيته من مفاسد الأخلاق، وأخلاق السوء \".
ودليلنا على استنباط الأخلاق من العبادات، قوله - تعالى -في الآية (45) من سورة العنكبوت: {اتل ما أوحي إليك من الكتاب وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون}. وكذلك الزكاة، فهي طهر لأموال المزكي، وطهر لنفسه من الأنانية والطمع والشح وعدم المبالاة بالغير.. وبالتالي فهي تعلم الملتزم بها، وتربيه على القناعة والكرم ومراعاة حاجيات الآخرين.. وهي طهر كذلك لنفس الفقير من الحسد والغيرة والكراهية للآخرين.. وبذلك فهي تؤدي إلى زيادة تماسك المجتمع، وتكافل أفراده، والقضاء على الفقر وما يرتبط به من مشاكل اجتماعية وأخلاقية واقتصادية وعراقيل وهدر للطاقات، إذا أحسن استغلال الأموال الناتجة عنها، وصرفها في مجالاتها ولمستحقيها.
يقول - تعالى -: {خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها} [التوبة: 103]
ويقول - سبحانه -: {الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة} [الحج: 41]
والآيات والأحاديث في هذا الموضوع أيضا كثيرة...
أما الحج: فهو أيضا مدرسة، يكتسب منها المسلم الصفات الخلقية الحميدة والمنافع. يقول - تعالى -: {وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق ليشهدوا منافع لهم} [الحج: 26]. وهذه المنافع عبادية، واقتصادية، وتربوية، وسياسية، واجتماعية.. ويقرر الحبيب المصطفى - صلى الله عليه وسلم - حقيقة خطيرة، مفادها أن الحاج الذي أدى هذه الفريضة بأركانها وواجباتها وأخلاقها، سيخلق من جديد. فعن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (من حج لله فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه).
أما عبادة الصيام، فمدرسة للتربية البدنية والأخلاقية، يقول - تعالى -: {يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون} [البقرة: 183]. ويقول أيضا - جل وعلا -: {وأن تصوموا خير لكم} [البقرة: 184]. وسر خيرية الصيام، اكتشفه الطب الحديث في تربية الصيام الصحية، فثبت لديه أن الصيام واجب من الواجبات التي يجب على الجسم أن يمارسها، حتى يتمكن من أداء وظائفه بكفاءة عالية، وأنه ضروري جدا لصحة الإنسان.. ويؤكد هذا المعنى، حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي رواه الطبراني: (صوموا تصحوا).
أما بالنسبة للتربية الخلقية: فالصيام يعود الصائم على مصارعة النفس، وجهادها في تحليل الحلال وتحريم الحرام، وما أدراك ما جهاد النفس! إنه كما قرر الحبيب - صلى الله عليه وسلم -: الجهاد الأكبر. والذي ينتصر في جهاد النفس، فقد فاز فوزا عظيما.. ونال حظه من الأخلاق وفيرا..
إذن فكل العبادات مدارس، تعلم وتربي المسلم على مكارم الأخلاق، التي لخص فيها الحبيب المصطفى - صلى الله عليه وسلم - بعثته المباركة إلى الناس كافة، في عبارة واحدة: (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق). ولا عجب إذا أثنى عليه ربه - عز وجل - في أوائل ما أنزل عليه من السور: {وإنك لعلى خلق عظيم}. ولا عجب أيضا إذا لخصت أمنا عائشة - رضي الله عنها- وهي من أعلم الخلق به خلقه العظيم في عبارة واحدة: \" كان خلقه القرآن\". وكفى بذلك عظمة..
ومكارم الأخلاق قيم، تجعل من يتحلى بها في المقام الرفيع، وحيث أن الأخلاق من الدين، فلا غرابة أن تكون القيم من الدين، بل إننا نجد القرآن الكريم يجعلها بدلا من الدين نفسه في الآية الكريمة:{قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم دينا قيما} [الأنعام: 16]. فموقع كلمة (قيما) من الإعراب: أنها بدل من(دينا)، ليلفت أنظار البشرية إلى أهمية القيم في الإسلام..
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد