إلى الذين لا يعرفون محمدا صلى الله عليه وسلم ( 1 )


  

بسم الله الرحمن الرحيم

قال الله - تعالى -: {وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك، قال إني أعلم ما لا تعلمون} [البقرة: 30].

وكان هذا الخليفة هو آدم - عليه السلام -، آدم الإنسان، خلقه وجعله في الأرض ليعمرها ويصلحها، لتكون ميدانا لاختبار بنيه، في صراعهم مع الشيطان وقبيله، جيلا بعد جيل وقرنا بعد قرن..ويعتري الضعف البشري بني آدم، وينتصر إبليس وجنوده، فتفسد العقيدة، ويُطرد الإيمان من القلوب، لتحل محله، النزوات والشهوات..فتقصر العقول عن التمييز بين حسن الأفعال وقبيحها، ونافعها وضارها، وتضل الطريق، وتتيه في الظلمات، فتقع الاصطدامات إذ تعارضت المصالح والأغراض، واختلفت النزعات والأهواء، وتضاربت العقائد الفاسدة والآراء الضالة، وكل ذلك أفضي إلى سفك الدماء، ونهب الأموال، وهتك الأعراض، والاعتداء على الحرمات، وبالتالي إلى تخريب وتدمير وإفساد، بدلا عن البناء والإعمار والإصلاح.. وهذا ما توقعته ملائكة الرحمن حين أجابته - جل وعلا -: {أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء... }، ولكنه - سبحانه -، سبق في علمه ما سيكون، وما سيفعله لمعالجة الأمور، لذا أجابهم: {إني أعلم ما لا تعلمون}. إنه - جل وعلا - أعلم بخلقه.. لقد قرر- سبحانه - خلق آدم، وهو يعلم ما سيطرأ عليه وعلى بنيه - من بعده - من ضعف وانكسار أمام تحديات إبليس وجنده، وبما سيلاقونه من كيده وتدليسه، وبالتالي فهو أعلم بحاجتهم إلى من ينقذهم، ويكشف لهم حجب الضلالة بنور الهداية، ويخرجهم من الظلمات إلى النور، ويكملهم بمعرفة ما قصرت عليه مداركهم، ويوقفهم على حقيقة ما عجزوا عنه، فيدفع عنهم الحيرة والألم، ويبلغهم شاطئ الطمأنينة والسعادة والأمان، ومن جهة أخرى، ليقيم عليهم الحجة والبرهان..

لذا اقتضت حكمته - سبحانه -، أن يبعث الأنبياء، ويرسل الرسل، رحمة بعباده، وإقامة للعدل بينهم، وتبصيرا بما يجب عليهم من حقوق نحوه - عز وجل - ونحو أنفسهم، ونحو غيرهم من سائر البشر، وإعذاراً إليهم، فلا أحد أحب إليه العذر من الله العزيز القدير.. بعث - سبحانه - أنبياء تعد بالآلاف (124000)، ورسلا تعد بالمئات (315 رسولا)، مبشرين ومنذرين، كما قال - تعالى -: {لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط} [الحديد: 35].

وقال جل في علاه: {رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل}[النساء: 165]. وكان آخر هؤلاء الأنبياء والرسل، محمدا - صلى الله عليه وسلم -.

بعث الله محمدا - عليه أفضل الصلاة والسلام -، والناس في ظلمات الكفر والشرك والبدع والضلالات، التي غيروا بها ملة إبراهيم - عليه السلام -.. ولم تكن تلك الأزمنة قبل البعثة خالية من فكر وفلسفة.. بل كان هناك مفكرون وفلاسفة من الإغريق والرومان والفرس، بحثوا في الأمور العقلية: في الرياضيات والطبيعيات.. وكذلك في الإلهيات، لكن كل تلك المعارف والفلسفات كانت ظلمات لا تغني من الحق شيئا، ولا تغني الناس عن الوحي، ولا تغنيهم عن بعثة رسول من الله العلي الحكيم، يأتيهم بالحق المبين، ويدعو إليه الخلق جميعا، ويجعل الطريق إلى معرفته وإلى جنته، هي طريق هذا الرسول، فلا يسع أحدا كائنا من كان، أن يخرج عن شريعته وأمره ونهيه.. وكان هذا الرسول هو محمدا - صلى الله عليه وسلم -.

إذن.. فمن هو محمد، - عليه أفضل الصلاة والسلام -؟ وبما جاء؟

إنه خاتم الأنبياء والرسل، جاء بالرسالة الخاتمة، التي تشمل كل ما جاء فيما قبلها من رسالات، وتزيد عليها علما وفقها ونسخاً وتفصيلاً وإيضاحاً..

إنه الرسول الخاتم، إذن: فهو رسول للبشرية جمعاء، كما جاء في محكم التنزيل: {وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا.. } [سبأ: 28]. {قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعاً} [الأعراف: 158]. {تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا} [الفرقان: 1]. بعثه الله - سبحانه - شاهدا على الناس جميعا، ومبشرا بسعادة الدارين، لمن اتبعه واقتدى به، ومنذرا من اتبع هوى نفسه وانصاع لإبليس، بالتعاسة والشقاء في الدنيا والآخرة.

لقد جاء - عليه الصلاة والسلام - بخير الدارين، جاء بمقومات الحياة السعيدة في هذه الدار الفانية، والإعداد لحياة أسعد في الدار الباقية.. جاء بمقومات القوة والتمكين في الأرض، لإعمارها وإصلاحها، وإقامة حضارة راقية مزدهرة عليها، ليكون الإنسان - حقا - جديرا بالاستخلاف فيها.. وكيف يتأتى ذلك؟

إنكم معاشر أهل الغرب، تعرفون الجواب، لأنكم الآن أهل حضارة، وتنعمون بالتقدم العلمي والتقني، الذي يسٌر لكم التمتع بالعيش الرغيد، والحياة المرفهة.. ولكن هذا التقدم العلمي والتقني لم يحقق لكم السعادة المطلوبة، بما فيها راحة البال والطمأنينة والأمن والاستقرار.. لماذا؟ لأنكم تعيشون فراغا روحيا رهيبا..

نعم، إنه الفراغ الروحي، الذي وضعتم أنفسكم فيه، فمنذ أن قمتم بالثورة الكاسحة على الكنيسة - ونحن لا ننكر مبرراتكم لذلك - ففرقتم بين الدين والدنيا، وجعلتم الدين لله، والدنيا للقيصر، وأنتم تعانون من هذا الفراغ الروحي، فحُرمتم الطمأنينة، والاستقرار والأمن وراحة البال.. وبالتالي حُرمتم السعادة التي يشقى من أجلها كل إنسان، وأصبحتم نهبا للقلق والحيرة والاكتئاب.. إلى غير ذلك من الأمراض النفسية والعصبية والعضوية، التي لازال بعضها مستعصيا على العلاج، الأمر الذي دفع الكثير منكم إلى اليأس والإحباط، فسارع إلى التخلص من حياته.. هذا رغم تقدمكم العلمي والتكنولوجي في مجالات الحياة المختلفة، هذا التقدم الذي لم يكن دائما إيجابيا، فقد كان سلبيا أيضا، لأنه كما أدى إلى الخير، فقد أدى إلى الشر معا.. لأن حضارتكم اهتمت بجانب واحد، هو الجانب العقلي المادي، وأهملت الجانب الأهم، وهو الجانب الروحي، وبالتالي أهملت جانب الأخلاق التي هي نتيجة حتمية من الدين. فالحضارة بالنسبة للعنصر البشري - طائر ذو جناحين: جناح العقل

و المادة، وجناح الروح والأخلاق، ولا يمكن لطائر أن يطير بجناح واحد! خصوصا إذا كان الجناح المفقود هو الجناح الأقوى..

لذا بعث الله العلي القدير محمدا - صلى الله عليه وسلم - للبشرية بهذا الدين العظيم، دين التوازن، الذي يحقق لأتباعه السعادة المرجوة في هذه الحياة الدنيا الفانية، وفي الحياة الأبدية الخالدة.. فقد تعلم منه أتباعه أن يعملوا لدنياهم كأنهم يعيشون أبدا، ويعملوا لآخرتهم كأنهم يموتون غدا.. وتعلم منه أتباعه أيضا أن الأخلاق صفات ضرورية، تختل بفقدها موازين الحياة لدى الإنسان، ولا يصلح المجتمع إلا بها، وتعلموا منه أن ماهية الإنسان تتحدد بالأخلاق أولا وليس بالعقل، بحيث يكون العقل تابعا للأخلاق. وأن الهمة الأخلاقية للإنسان أقوى من الأمر الواقع، وبها يستطيع أن يغير واقعه.

إن المسلمين عندما كانوا يعيشون هذه الحقائق، ملكوا الدنيا، وأقاموا حضارة زاهية مزدهرة، سطعت شمسها على العالم بأسره، وبنورها خرجتم من الظلام الدامس الذي كان مخيما عليكم، فأقمتم حضارتكم وتقدمكم..

إذن، فالحضارة والتقدم والنهضة لكي تضمن البقاء والاستمرار، وتحقق هدفها الذي هو راحة الإنسان، وطمأنينته واستقراره ورفاهيته... وبالتالي سعادته، يجب أن ترتكز على دعامتي الفكر والأخلاق، ومعلوم أن مصدر الفكر هو العقل، ومصدر الأخلاق هو الدين. وهذان المصدران هما موضوع الرسالة التي جاء بها محمد - صلى الله عليه وسلم -.

ومنه: فالعلاج الشافي والكافي لمختلف الأمراض النفسية والعصبية والعضوية التي تعاني منها البشرية، تجدونه في صيدلية الحبيب المصطفى محمد - صلى الله عليه وسلم - الذي لا تعرفونه، وإذا عرفتموه، فإنكم لم تعرفوه على حقيقته. فمن هو محمد - صلى الله عليه وسلم -؟

أنه رسول العقل والفكر:

إن الوحي الذي أنزله الله الحكيم العليم على رسوله محمد - صلى الله عليه وسلم -، يحث البشر على التدبر والتفكر واستعمال العقل الذي وهبه إياهم. ونجد ذلك في نصوص كثيرة من القرآن الكريم، منها: - {وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون} [النحل: من الآية44]

- {وهو الذي مد الأرض وجعل فيها رواسي وأنهارا ومن كل الثمرات جعل فيها زوجين اثنين يغشي الليل النهار إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون} [الرعد: 3]

- {أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها... } [الحج: من الآية 46]

- {ومن نعمره ننكسه في الخلق أفلا يعقلون} [يس: 68]

- {إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس وما أنزل الله من السماء من ماء فـأحيا به الأرض بعد موتها وبث فيها من كل دابة وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون} [البقرة: 164]

- {ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب لعلكم تتقون} [البقرة: 179]

- {إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض. ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار... } [آل عمران: 190]

- {لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب... } [يوسف: 111]

كما أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - ركز على ذلك، وحث الأمة على التفكر واستعمال العقل دون شطط. فعن عبد الله ابن عمر، - رضي الله عنهما -، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (تفكروا في آل الله، ولا تفكروا في الله - عز وجل -) [حسن].

 

إنه رسول العلم:

لقد حث الوحي المنزل على محمد - صلى الله عليه وسلم - على العلم والتعلم، فكانت أول آية نزلت هي: {اقرأ باسم ربك الذي خلق * خلق الإنسان من علق * اقرأ وربك الأكرم * الذي علم بالقلم * علم الإنسان ما لم يعلم} [العلق: 1-5]

ولئلا يفهم الناس أن المقصود من العلم هو العلم الشرعي فحسب: علم العبادات والمناسك، حث القرآن الكريم في كثير من آياته على تدبر وتتبع علوم الكون كله، واستنباط أسراره، واكتشاف قوانينه، والاستفادة من نظامه ودقة نواميسه: {أولم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض وما خلق الله من شيء} [الأعراف: 185]

وقد قرر - سبحانه وتعالى - أن غاية تعلم وتدبر البشر، هي معرفة الله العظيم حق المعرفة، فيقدرونه حق قدره، ويقدرون قدرته وعظمته، فيخشونه، ويلتزمون باتباع الأوامر واجتناب النواهي: {إنما يخشى الله من عباده العلماء} [فاطر: 28].

ليحققوا الغاية من بعثة محمد - صلى الله عليه وسلم - بتعاليم هذا الدين العظيم. ولقد أعلى الله من شأن أصحاب العلوم، فقال - تعالى -: {... يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات والله بما تعملون خبير} [المجادلة: 11]

أما بالنسبة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقد حث بدوره على طلب العلم، بل جعله فريضة من الفرائض. فقال - صلى الله عليه وسلم -: (طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة) [صحيح]، رواه ابن ماجة. وتبرأ من كل جاهل فقال - صلى الله عليه وسلم -: (ليس مني إلا عالم أو متعلم)، رواه الديلمي عن ابن عمر. وقال - صلى الله عليه وسلم - أيضا في نفس السياق: (الناس رجلان: عالم أو متعلم، ولا خير في سواهما)، رواه الطبري عن ابن مسعود. وجعل العلم طريقا إلى الفوز بالجنة، فقال - صلى الله عليه وسلم -: (من سلك طريقا يطلب فيه علما، سلك الله به طريقا إلى الجنة)، رواه مسلم. وجعل طالب العلم حبيبا إلى الملائكة، يقومون بتأييده ومعونته، فقال - صلى الله عليه وسلم -: (إن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضاء بما يصنع)، رواه أبو داود عن أبي الدرداء. وبين - صلى الله عليه وسلم - أن القليل منه، خير من كثير العبادة، فقال - صلى الله عليه وسلم -: (لأن تغدو فتتعلم بابا من العلم خير من أن تصلي مائة ركعة)، رواه ابن عد الرحمن عن أبي ذر. وجعل طلبه جهادا في سبيل الله فقال - صلى الله عليه وسلم -: (من خرج في طلب العلم فهو في سبيل الله حتى يرجع)، رواه الترمذي عن أنس. وجعل أثره بعد موت صاحبه عملا مستمرا له، وأجراً باقياً وثواباً جارياً في صحيفته فقال - صلى الله عليه وسلم -: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له)، رواه مسلم عن أبي هريرة.

 

إنه رسول العمل:

إن العمل في الإسلام شيء مقدس. به يُثبت الإنسان جدارته بالاستخلاف في الأرض، لإصلاحها وإعمارها.. وبه تقوم الأسباب لتحصيل الأرزاق التي كتبها الله لعباده وهم أجنة في بطون أمهاتهم. كما جاء في الحديث القدسي: (عبدي، لي عليك فريضة ولك علي رزق، فإن خالفتني في فريضتي لن أخالفك في رزقك). وفي الصحيحين عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يوما، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث الله إليه ملكا فيؤمر بأربع كلمات: بكتب رزقه وعمره وعمله وشقي أو سعيد). ومع ذلك فلا بد من العمل لتهيئة الأسباب للوصول إلى الرزق المكتوب.. يقول - تعالى -مخاطبا مريم: {.. وهزي إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطباً جنياً * فكلي واشربي وقري عينا... } [مريم: 24]

والإنسان في حاله الطبيعية، وهو قادر على العمل، يجب أن يعمل - وكلٌ ميسر لما خلق له - حتى ينال رضا الله والرسول - صلى الله عليه وسلم -، وحتى يكون مستجاب الدعوة، وحتى يكتب له ثواب المجاهد في سبيل الله، وحتى يكون من عباد الله القلائل الذين يتوجهون إلى الله العظيم بالشكر عن طريق عملهم، وحتى يحيا وأسرته في قومه عزيزا كريما مرفوع الهامة، عالي الهمة.. والآيات والأحاديث في ذلك كثيرة.. منها:

قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إن أطيب ما أكل الرجل من عمل يده، وإن نبي الله داود كان يأكل من عمل يده)، أخرجه البخاري.

وفي التنزيل: {وعلمناه صنعة لبوس لكم}[الأنبياء: 80].

وقال - تعالى -: {يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب وقدور راسيات اعملوا آل داوود شكرا وقليل من عبادي الشكور} [سبأ: 13].

وعن كعب بن عجرة - رضي الله عنه -، قال: مر على النبي - صلى الله عليه وسلم - رجل، فرأى أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من جلده ونشاطه، فقالوا: يا رسول الله، لو كان هذا في سبيل الله! فقال - صلى الله عليه وسلم -: (إن كان خرج يسعى على ولده صغارا فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى على أبوين شيخين كبيرين، فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى على نفسه يعفها، فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى رياء ومفاخرة، فهو في سبيل الشيطان)، رواه الطبراني، وهو صحيح. وعن أبي هريرة - رضي الله عنه -، قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (لأن يغدو أحدكم يحتطب على ظهره، فيتصدق به، فيستغني به عن الناس، خير له من يسأل رجلا أعطاه أو منعه، ذلك فإن اليد العليا خير من اليد السفلى، وابدأ بمن تعول)

وكل كسب غير مشروع حصل عليه الإنسان من غير عمل فهو سحت، النار أولى به، وهو حرام، سواء كان قمارا أو خداعا أو سرقة أو ربا.. فكم من بيوت خربت، وكم من مؤسسات أفلست بسبب الطمع والجشع واللجوء إلى الكسب الحرام.

والعمل في الإسلام عبادة، وله ثواب لا يقل عن ثواب سائر العبادات، وفي القرآن الكريم والسنة المطهرة أمثال من سير الأنبياء والرسل الصالحين الذين ضربوا أروع الأمثلة في ممارسة مختلف الأعمال النافعة لهم ولأسرهم ولصالح الأمة، ورغم تحملهم أعباء الرسالة، فلم يبتعدوا عن مجالات النشاط الإنساني، بل إن خاتمهم محمدا عليه وعليهم السلام ، كان مثالا يحتذى في مجال العمل، قبل البعثة، في ميدان الرعي والتجارة، وبعد البعثة في مختلف الميادين التي تدعو الضرورة اقتحامها، وخير مثال على ذلك: بناء المسجد، وحفر الخندق..

ولكي تتحقق العبودية في العمل، يجب أن يمارَس بنية الإعمار والإصلاح، بحيث يكون ضمن حدود الشرع، وأن يكون خالصا لوجه الله، وأن لا يشغل عن القيام بما أ وجب الله. وأن يراعى فيه الإتقان والإحسان..

ولقد جاء في التنزيل: {فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون} [الجمعة: 10]. {ولقد مكناكم في الأرض وجعلنا لكم فيها معايش قليلا ما تشكرون} [الأعراف: 10]. {هو الذي جعل لكم الأرض ذلول فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه} [الملك:12]º لأنه لبناء حضارة، فلا بد - بالإضافة إلى العنصر البشري - من عنصر الأرض، زد عليهما عنصر الزمن، كما حدد ذلك مالك ابن نبي: إنسان + تراب + وقت = حضارة

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply