ترك المهاجرون مكة المكرمة فرارا بدينهم وهربا من العذاب الذي لحق بهم، بعد أن خلفوا كل شيء وراءهم، فقد تركوا أموالهم، بل ومنهم من افتدى نفسه بالمال، وتركوا أهليهم، وانتقلوا إلى مكان غريبين عنه، فنظر رسول الله، - صلى الله عليه وآله وسلم -، ورأى ما أحل بأصحابه من الكآبة والحزن، وما أصيبوا من وحشة ووحدة، فهم قد نزلوا ضيوفا على الأنصار، فإلى متى يحلون ضيوفا عندهم؟ ولهذا كله، فقد جمع رسول الله، - صلى الله عليه وآله وسلم -، أصحابه من المهاجرين والأنصار، في بيت أبي طلحة الخزرجي، وآخى بينهم، لتذهب عنهم وحشة الغربة وليؤنسهم عن مفارقة الأهل والوطن والعشيرة، ويشد بعضهم أزر بعض ويتوارثون بعد الممات دون الأرحام، وبهذا وصل الرسول الكريم، - صلى الله عليه وآله وسلم -، إلى مجتمع متعاون متكافل متضامن، تسوده المحبة والأثرة، وتنتفي منه الضغينة والأنانية، هذا وقد آخى رسول الله، - صلى الله عليه وآله وسلم -، بين أبي بكر - رضي الله عنه -، وخارجة بن زيد ن فأصبحا أخوين، وبين عثمان بن عفان، - رضي الله عنه -، وأوس ابن ثابت، وبين طلحة بن عبيد الله وكعب بن مالك، وبين الزبير بن العوام وسلمة بن سلامة، وبين سعيد بن زيد وأبي بن كعب، وبين عبد الرحمن بن عوف وسعد بن الربيع، وبين أبي عبيدة بن الجراح وأبي طلحة الأنصاري، وبين مصعب بن عمير وأبي أيوب، وبين حمزة بن عبد المطلب وزيد بن حارثة، وبين جعفر بن أبي طالب وهو بالحبشة وبين معاذ بن جبل، وبين عمار بن ياسر وحذيفة بن اليمان، وبين سلمان الفارسي وأبي الدرداء وغيرهم، ثم دخل علي بن أبي طالب، كرم الله وجهه، فقال: يا رسول الله آخيت بين أصحابك ولم تؤاخ بيني وبين أحد؟ فأخذ رسول الله، - صلى الله عليه وآله وسلم -، بيده، وقال له: \" أنت أخي في الدنيا والآخرة \". وقد رضي الأنصار عن قناعة وإطمئنان، بما فعل رسول الله، - صلى الله عليه وآله وسلم -، فأكرموا المهاجرين إكراما عظيما، حيث آثروهم على أنفسهم، وضربوا بذلك أروع الأمثلة في التضحية والإيثار فهم قد رفضوا أن يشاركوا المهاجرين في الغنائم، عندما عرض عليهم رسول الله، - صلى الله عليه وآله وسلم -، أن يقسموا للمهاجرين في دورهم وأموالهم لهم، ويقسم الغنائم بين الجانبين بالتساوي، أو تبقى دور الأنصار وأموالهم لهم، ويعطي الغنائم للمهاجرين. فما كان رضهم - رضي الله عنهم -؟ أجابوه بقولهم: يا رسول الله، نقسم لهم ي ديارنا وأموالنا، ولا نشاركهم في الغنائم، فأنزل الله - سبحانه وتعالى - في مدحهم قوله {والذين تبوؤا الدار (1) والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا تجدون في صدورهم حاجة (2) مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة (3) ومن يوق (4) شح نفسه فأولئك هم المفلحون} 5
ومن صور الأثرة والتضحية بالمال، ما فعله الأنصاري سعد بن الربيع مع عبد الرحمن بن عوف، - رضي الله عنهما -، فقد انطلق سعد، بعد أن آخى رسول الله، - صلى الله عليه وآله وسلم -، بينه وبين عبد الرحمن بن عوف، إلى داره وقال له: يا عبد الرحمن، أنا أكثر أهل المدينة مالا وأقلهم عيالا، فانظر إلى أي شطر {6} من مالي فخذه ثم انظر إلى امرأتي هاتين، أيتهما تعجبك حتى أطلقها فتتزوج بها، فقال عبد الرحمن بن عوف: بارك الله لك في أهلك ومالك، دلوني على السوق، فدلوه، فذهب إليه وباع واشترى حتى ربح ربحا وفيرا فأثرى واغتنى. أما التوارث بين المهاجرين والأنصار، فقد نسخ بعد معركة بدر في السنة الثانية بقوله - تعالى - :{وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله إن الله بكل شيء عليم} 7
وبقيت فيما بينهم المودة والمحبة والإخاء والتعاون على الحق والنصر، والأخذ على يد الظالم. وكان رسول الله، - صلى الله عليه وآله وسلم -، يؤاخي بين المهاجرين والأنصار، كلما أتى إلى المدينة بعض المهاجرين، فالمؤاخاة لم تقع دفعة واحدة، إلى أن عز الإسلام واجتمع شمل المهاجرين، وذهبت الوحشة عنهم. لكن صفاء الجو هذا بين المهاجرين والأنصار، لم يكن يخلو من كدر أو هم وحزن، سببه اليهود المقيمون في المدينة ن والذين حسدوا محمدا، - صلى الله عليه وآله وسلم -، حسدا عظيما فأضمروا الشر والخديعة، وحاولوا بعث الفتنة من جديد بين الأوس والخزرج لولا أن تداركهم رسول الله، - صلى الله عليه وآله وسلم -، بقوله لهم: \" الله الله يا معشر المسلمين ن اتقوا الله، أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم بعد أن هداكم الله للإسلام؟ \" كما أسلم بعضهم نفاقا ليعيثوا فسادا في جسد المسلمين، وساعد هؤلاء اليهود جماعة من عرب المدينة المنورة، الذين أظهروا إسلامهم، وأضمروا كفرهم وعداءهم للإسلام ولرسول الله، - صلى الله عليه وآله وسلم -، وعلى رأس هؤلاء: عبد الله بن أبي الخزرجي، لكن الله - عز وجل - كشف زيف إيمانهم، وعراهم على حقيقتهم، بقوله - تعالى - :{إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يعلم إنك لرسوله والله يشهد إن المنافقون لكاذبون اتخذوا إيمانهم جنة (8) فصدوا عن سبيل الله إنهم ساء ما كانوا يعملون} 9
----------------------------------------
1- الدار: المدينة
2- حاجه: حسدا
3- خصاصة: حاجة إلى ما يؤثرون به
4- يوق شح نفسه: أي يحمي نفسه من الحرص والبخل
5- الآية 9 من سورة الحشر
6- أي شطر: أي من المال والأراضي أو الدور أو الإبل وغيرها
7- الآية 75 من سورة الأنفال
8- جنة: ستار، وقاية
9- الآية 1-2 من سورة المنافقون
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد