مع استمرار رسول الله، - صلى الله عليه وآله وسلم -، في نشر الدعوة الإسلامية، ازداد عدد المسلمين، وأخذ الإسلام يتسع وينتشر في القبائل العربية، ورأت قريش أن المسلمين ازدادوا قوة ومنعة، وأصبحت لهم دولة نزلوا في أرضها، واحتموا بملكها، آمنين مستقرين، وأن وفدهم الذي أرسلوه إلى النجاشي قد عاد خائبا فاشلا في المهمة التي أرسل بشأنها، وأن المسلمين في مكة ازدادوا عزة وقوة بإسلام حمزة بن عبد المطلب وعمر بن الخطاب - رضي الله عنهما -، كما رأت أن كل محاولات ثني رسول الله، - صلى الله عليه وآله وسلم -، عما جاء به، من مناقشات ومحاولات إيذاء وضغوط مختلفة قد باءت بالفشل الذريع، عندئذ تنادت قريش فعقدت مؤتمرا، خرج المشركون منه وقد اتفقوا على أن كل يكتبوا صحيفة يتعاقدون فيها على أن لا ينكحوا {1} بني هاشم وبني المطلب ولا ينكحوا إليهم، ولا يبيعوهم ولا يبتاعوا {2} منهم شيئا، ولا يقبلوا منهم صلحا حتى يسلموا محمدا للقتل، وعلقوها على أستار الكعبة، وكان قد كتبها لهم: منصور بن عكرمة العبدري، فدعا عليه النبي، - صلى الله عليه وآله وسلم -، فشلت أصابعه التي كتب بها، وكان غرضهم من هذه الصحيفة، مقاطعة بني هاشم وبني المطلب، لأنهم انحازوا إلى أبي طالب وتآزروا معه في الدفاع عن رسول الله، - صلى الله عليه وآله وسلم - وذلك في السنة السابعة للنبوة. ودخل بنو هاشم وبنو المطلب شعب {3} أبي طالب، وتركوا منازلهم في مكة، ومعهم رسول الله، - صلى الله عليه وآله وسلم -، وجميع أصحابه، - رضي الله عنهم -، ما عدا أبا لهب الذي ناصر قريشا والذي أبدى الشماتة برسول الله، - صلى الله عليه وآله وسلم - وبأصحابه ن حتى إنه لقي هند بنت عتبة فقال لها: يا بنت عتبة هل نصرت اللات والعزى؟.فقالت هند: نعم جزيت خيرا يا أبا عتبة.ثم إن قريشا منعت عنهم الغذاء والطعام والشراب، وكل ما يحتاجونه، إلى أن اضطر كثير من المسلمين إلى أكل أوراق الشجر، وكل شيء رطب، وواجه الرسول الكريم، - صلى الله عليه وآله وسلم -، وأصحابه طوال ثلاث سنوات، هذه المقاطعة بقوة وصلابة وبعزيمة لا تلين، وبإيمان بالله لا يتزعزع.أما خديجة، - رضي الله عنها -، فقد أحزنها ما حل بزوجها وبالمسلمين وجزعت أشد الجزع، فشاركت رسول الله، - صلى الله عليه وآله وسلم -، أحزانه وآلامه، وواجهت معه الجوع والعطش، ولم تكن لتفارقه فقد آثرت أن تترك بيتها لتخفف المصاب عن النبي، - صلى الله عليه وآله وسلم - وبذلت في سبيل ذلك مالها، وكذلك أبو طالب بذل ماله، وكان يطلب من رسول الله، - صلى الله عليه وآله وسلم ، أن ينام على فراشه ليلا حتى ينقطع المارة ويهدأ السير، فيأمر أحد بنيه أن ينام مكان النبي، - صلى الله عليه وآله وسلم -، لينام حيث شاء في مضارب بني هاشم وبني عبد المطلب، وذلك خوفا عليه من محاولات إيذائه، - صلى الله عليه وآله وسلم -، كذلك كن يأمر أخوه حمزة والعباس أن يرابطا على مدخل الشعب، ليرصدا تحركات المشركين خوفا من مؤامرة تستهدف حياة رسول الله، - صلى الله عليه وآله وسلم -، كما يأمر عبيدة والطفيل والحصين أبناء المطلب أن يرصدوا مدخل الشعب من الخلف. وكان أبو طالب يحمل ليلا سلاحه ويطوف حول البيوت مع جماعة من بني هاشم والمطلب، ثم ينامون في النهار، ووسط هذا كان رسول الله، - صلى الله عليه وآله وسلم -، يدعو قومه إلى الله ليلا نهار، وصباح مساء، سرا وجهرا، مظهرا أمر الله - تعالى - لا يخشى في ذلك أحدا من الناس ولا يخاف لومة لائم. وعندما كان يحاول بعض العقلاء خرق هذه المقاطعة، وإيصال بعض الطعام إلى المسلمين، كان المشركين يمنعونهم ويصدونهم، فقد أراد حكيم بن حزام، إيصال طعام لعمته خديجة بنت خويلد، - رضي الله عنها -، فمنعه أبو جهل، لولا أن أبا البختري بن هشام الأسدي تدخل في هذا الأمر وانتصر لحكيم ابن حزام، حيث أخذ حجرة وضرب بها أبا جهل فشجه، وانصرف حكيم بن حزام إلى عمته فأوصل لها الطعام. وها هو هشام بن عمرو العامري، يرق لحال المسلمين وما آل إليه وضعهم، حتى أن صبيانهم كانت تسمع أصواتهم من وراء الشعب، وكان هشام هذا شريفا مطاعا في عشيرته، وكان يحضر بعيرا من إبله محملا بالطعام والثياب ويأخذ بخطامه {4} حتى يصل إلى شعب أبي طالب فيخلع خطام البعير ويطلقه، ثم يضرب البعير لتجري وتدخل على بني هاشم، وكان يفعل ذلك كل مدة يسيرة، وكان يتألم كلما مر بالقوم ورأى حالهم، ثم هداه الله - عز وجل - إلى أن يسعى في نقض الصحيفة الظالمة القاطعة للأرحام .
نقض الصحيفة
شعر بعض أهل قريش، بالخزي والعار، لما أصاب بني هاشم وبني المطلب من ضر وألم، ولما حل بهم من جوع وعطش، فقام أحدهم وهو هشام بن عمرو، وأخذ يحض على نقض الصحيفة الظالمة، ويشجع رؤوس القوم وشجعانهم على ذلك، فسار هشام هذا إلى زهير بن أبي أمية المخزومي وقال له: يا زهير إننا والله قد ظلمنا أهلنا وأقاربنا، وإن ما فرضناه عليهم لجهل منا وظلم ما بعده ظلم، أفترضى يا زهير، أن تأكل وتشرب وتلبس الثياب، وتبيع وتشتري، وتنام هانئا قرير العين، وتصول وتجول؟، وأخوالك بنو هاشم والمطلب في الشعب محاصرون مقاطعون، لا طعام عندهم ولا شراب، يفترشون الأرض ويلتحفون السماء، قد فارق الزوج زوجه، والأب أبناءه. فقال زهير: ويحك يا هشام، أفنخالف قومنا فتدب الفرقة فيما بيننا؟، ثم إن محمدا ما يزال يحاربنا ويحارب آلهتنا، وإن نقضنا الصحيفة شمت بنا أعداؤنا، وذهبت هيبتنا بين القبائل. فقال هشام: إنك تخالف هواك ورغبتك يا زهير، ثم إن محمدا لن يدع هذا الأمر الذي جاء به، فقد عرفناه وخبرناه، وسواء عليه أنقضنا الصحيفة أم لا فإنه لن يكف عن سب آلهتنا وتسفيه أحلامنا، ثم إننا بتشديد الحصار عليه، قد ندفع كثيرا من الناس للإيمان به والدخول في دينه، فلماذا لا ندعو إلى نقض الصحيفة وليكن من شأن محمد بعد ذلك ما يكون. فقال زهير: وماذا عساي أن أفعل؟ وأنا رجل واحد، والله لو كان معي رجل آخر لسعيت في نقض الصحيفة، ولقمت بتمزيقها. فقال هشام: قد وجدت رجلا. قال زهير: فمن هو؟ قال هشام: أنـا. فقال زهير: أما ترى أننا قليل، فابحث لنا عن ثالث ن ندعم به موقفنا. فذهب هشام إلى المطعم بن عدي النوفلي الذي كان صديقا لأبي طالب. وقال له ك يا مطعم أرضيت أن يهلك بطنان من بني عبد مناف وأنت شاهد ذلك موافق لقريش فيه؟ والله إننا لنغدو سخرية العرب إن واصلنا مقاطعتنا لهم والتشديد عليهم. فقال المطعم: ويحك يا هشام أفترضى أن تتفرق كلمتنا وتسوء سمعتنا، ثم ماذا أصنع وأنا رجل واحد؟ فقال هشام: قد وجدت ثانيا وثالثا. وقال: من هما. قال: أنا وزهير بن أبي أمية المخزومي. فقال المطعم: هلا جعلتهم أربعة، فيكون ذلك أقوى لنا وأوفق. فذهب هشام إلى أبي البختري بن هشام الأسدي. فقال له: يا أبا البختري، ما قولك في هذا الذي حل ببني هاشم والمطلب ظ أفأنت راض أن يموتوا جوعا ويهلكوا عطشا، وبنت عمك خديجة بنت خويلد معهم تكابد الجوع والعطش أيضا؟ فقال أبو البختري: وهل من أحد يعين على هذا؟ قال هشام: نعم، قال أبو البختري: وهل من أحد يعين على هذا؟ قال هشام: نعم قال أبو البختري: ومن هو؟ قال هشام: أنا وزهير والمطعم. فقال البختري: فهل من خامس، نردد به بأسا وشدة. فذهب هشام إلى زمعة بن الأسود بن المطلب الأسدي وذكر له حق بني هاشم والمطلب وقرابتهم، وأن هذه المقاطعة لا تجوز بل هي جائزة ظالمة. فقال زمعة: ألك معين على ذلك يا هشام؟ فقال: نعم، ثم ذكر له أسماء الرجال الذين وافقوه على نقض الصحيفة، فما كان منهم إلا أن اجتمعوا وتعاقدوا وتعاهدوا على نقض الصحيفة الظالمة، وتبرع زهير أن يبدأ بحديث النقض، ثم إنهم حضروا بأسلحتهم، أندية قريش، فهب زهير واقفا، مبتدرا القوم بقوله: يا أهل مكة، أنأكل الطعام، ونلبش الثياب، ونبيع ونبتاع، وبنو هاشم والمطلب هلكى، لا يبيعون ولا يبتاعون ن والله لا أقعد حتى تشق هذه الصحيفة الظالمة القاطعة. فقال أبو جهل: كذبت والله لا تشق. فأجابه زمعة بن الأسود بقوله: بل أنت الكاذب يا أبا جهل، فو الله ما رضينا بها حين كتبت. ووافقه الرجال الخمسة وأيدوه. ثم إن أبا طالب وكان حاضرا حديث القوم، وقف قائلا: يا قوم، إن ابن أخي قد ذكر لي، أن الله قد سلط الأرضة {5} على الصحيفة، فلم تدع اسما لله إلا تركته، ولم تدع ظلما وقطيعة وبهتانا إلا أكلته، فإن كان ما يقوله صحيحا، أطلقناهم وأخرجناهم من الشعب، فقام القوم الصحيفة، وقام المطعم بن عدي ليشقها فوجد الأرضة قد أكلتها إلا ما كان مكتوبا ك باسمك اللهم. فصعقت قريش، ورأت أن الأمر قد خرج من يدها، وأن لبني هاشم والمطلب أنصارا أقوياء منهم لن يسلموهم، فانصاعت للأمر الواقع ورضيت على مضض تمزيق الصحيفة، فذهب الرجال الخمسة إلى الشعب، وأعادوا بني هاشم وبني المطلب إلى مساكنهم في مكة، وكان خروجهم من الشعب في السنة العاشرة من البعثة، فتخلص بنو هاشم وبنو المطلب من هذه المحنة القاسية والشدة الأليمة، أما رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - فقد مضى يدعو قومه إلى الله - عز وجل - وإلى نبذ الأوثان والأصنام، التي لا تنفع ولا تضر، وبدأت شوكة الإسلام تزداد قوة ومنعة بدخول وفود جديدة في الدين الإسلامي الحنيف.
----------------------------------------
1- أن لا ينكحوا: أي / لا يتزوجوا منهم ولا يزوجوهم
2- يبتاعوا: يشتروا2
3- الشعب: الوادي
4- الخطام: الزمام، ما يوضع على أنف البعير ليقاد به
5- الأرضة:دويبة بيضاء تشبه النملة
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد