اليوم الإسلامي بدايته ونهايته


 بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد: 

ينفرد المسلم عن سائر البشر في إتباعه أوامر الله، واجتنابه نواهيه، فلا يعمل عملا إلا وفق مراد الله، ولا يترك شيئا إلا لطلب مرضاة الله، فتحيط مرضاةُ الله والبعدُ عن سخطه جميع نشاطاتِه في هذه الحياة.

وفي كل هذه النشاطات –تركًا وفعلا – ينطلق من عقيدته في الله عز وجل، فلا يَقْدُم على عمل إلا لاعتقاده أن الله أمره بذلك، ولا يتخلى عن شيء إلا لإعتقاده أن الله نهاه عن إتيانه.

ولاشك أن من كان مطلبُه في هذه الحياة طلب رضاء الله، والتجنب عن سخطه فإن أعماله تختلف عن أعمال سائر البشر، فإن كان البشر ينظرون إلى عوائد الأعمال بمنظار المادة، من نيل رضا فلانٍ، والجمع لأكبر قدر ممكنٍ من المال، فإن المسلم ينظر إليها بمنظار رضوان الله وغضبه عز وجل.

ومن هنا تختلف أعمال المسلم كلها عن سائر أعمال الناس، فإن أعان محتاجا فلطلب محبة الله، وإن امتنع عن ارتكاب الفحشاء مثلا فللبعد عن غضبه، وهكذا سائر أعماله، ينظر إليها بمنظار شرع الله، فما أقره الشرع عمل به، وما نهاه عنه الشرع امتنع عنه.

ومن هذا المنطلق الأساسي ننظر إلى جميع الأمور التنظيمية في هذه الحياة، فما حدده الشرع حددناه بدايةً ونهايةً، وما لم يحدده الشرع رحمة بنا فهو على الإباحة فعلا وتركا، لصحة الخبر بذلك (إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها، وحد حدودًا فلا تعتدوها، وحرم أشياء فلا تنتهكوها، وسكت عن أشياء رحمةً بكم غير نسيان فلا تبحثوا عنها) (حديث حسن رواه الدار قطني، وهو أحد أحاديث الأربعين النووية).

 

فإن جئنا إلى تحديد اليوم -المكون من ليل ونهار– في الإسلام نجد شرع الله قد حدد بدايته ونهايته، مما لا يدع مجالا للاجتهادات الفردية أو الجماعية، فالأصل فيه أن الليل يأتي قبل النهار، وأن مغيب الشمس يعلن انتهاء يوم وابتداء يوم جديد، فبالليل يبتدئ اليوم في الإسلام، وبانتهاء النهار الذي يلي الليل ينتهي ذلك اليوم، فما بعد مغيب الشمس بداية ليوم جديد، يستغل فيه وقته كاستغلال ما سبقه، فلا يصح عد جزء من ليله ضمن أجزاء اليوم السابق، وإليك النصوص التي تحدد هذه البداية وتلك النهاية:

 1 / قال تعالى في تحديد بداية شهر رمضان: (شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدىً للناس وبينات من الهدى والفرقان فمن شهد منكم الشهر فليصمه........) (البقرة آية 185).

ولاشك أن المقصود من شهود الشهر شهود الجزء الأول منه، لأن حمل الشهود الوارد في الآية على غير هذا الجزء من الشهر، يؤدي إلى إيقاع عبادة الصوم في الزمان المنقضى، وهو ممتنع.

لذا أجمع المسلمون ومازالوا مجمعين على أن شهر رمضان يبتدئ من رؤية هلاله بعد مغيب الشمس من آخر يوم من أيام شعبان، وأن ما بعد المغيب –إن ثبتت الرؤية– جزء من رمضان، لا يجوز عده من شعبان.

وكذلك ينتهي شهر رمضان برؤية هلال شوال، فإن ثبتت الرؤية حكمنا على ما قبل المغيب بأنه جزء من رمضان، وما بعد المغيب بأنه جزء من شوال، فبداية الليل هي بداية يوم جديد لدى المسلمين، ومغيب الشمس معلن انتهاء مغيب ذلك اليوم.

ومن هذا المنطلق التحديدي لليوم الإسلامي جاء قوله عليه الصلاة والسلام: (إذا أقبل الليل من هاهنا، وأدبر النهار من ها هنا، وغربت الشمس فقد أفطر الصائم) (رواه البخاري، فتح الباري ج 4 ص 196).

لأن مغيب الشمس يعلن انتهاء صوم ذلك اليوم.

بل نجد الحث الشديد من المصطفى صلى الله عليه وسلم على المبادرة بالإفطار بمجرد سقوط قرص الشمس، ولعل السبب في ذلك خوف التباس من صوم يومٍ بصوم يومٍ آخر، إذا الليل ابتداءٌ ليوم جديد، ففي حديث عبدالله بن أبي أوفى رضي الله عنه قال: (كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر وهو صائم، فلما غابت الشمس قال لبعض القوم: يا فلان، قم فاجدح (الجدح تحريك السويق ونحوه بالماء، بعود المجدح، مجنح الرأس، كالملعقة وما شابه ذلك عندنا الآن) لنا فقال: يا رسول الله لو أمسيت، قال: انزل فاجدح لنا، قال:يا رسول الله فلو أمسيت قال: انزل فاجدح لنا قال: إن عليك نهارًا قال: انزل فاجدح لنا، فنزل فجدح لهم، فشرب النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال: إذا رأيتم الليل قد أقبل من هاهنا، فقد أفطر الصائم) (رواه البخاري، فتح الباري ج4 ص196).

2 / صح الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه حث المسلمين على صوم عاشوراء، وهو اليوم العاشر من شهر محرم، بعد أن يضيفوا إليه صومَ يومٍ قبلَه أوصوم يومٍ بعده (راجع فيما يتصل بذلك فتح الباري ج4 ص244)، وقد حدد شُرّاح الحديث عاشوراء قائلين (قال القرطبي معدولٌ عن عاشرة للمبالغة والتعظيم، وهوفي الأصل صفة للليلة العاشرة، لأنه مأخوذ من العشر، الذي هو اسم العقد، واليوم مضاف إليها فإذا قيل يوم عاشوراء فكأنه قيل يوم الليلة العاشرة، إلا أنهم لما عدلوا به عن الصفة غلبت عليه الإسمية فاستغنوا عن الموصوف فحذفوا الليلة، فصار هذا اللفظ علمًا على اليوم العاشر) (فتح الباري ج4 ص245 .

وعلى ذلك فالليل يجيئ قبل النهار كما أن الليل بداية اليوم الإسلامي، والنهار نهاية اليوم عند المسلمين، وعلى هذا الأساس يتعين دخول كل شهر من الأشهر القمرية الإسلامية، وعليه يتحدد يوم الوقوف بعرفة، كما يتحدد العيدان عيد الفطر وعيد الأضحى.

وإذا كان الأمر كذلك فما مدى صحة ما نتعامل به في حياتنا اليومية، بدءًا من إعلانات الجامعات

(ستناقش رسالة الدكتوراة...... يوم الإربعاء الموافق 23-24/ صفر/1428 بعد صلاة المغرب في قاعة المحاضرات....) (يزمع قسم الدراسات الإسلامية عقد جلسة مجلس القسم مساء يوم الاثنين 22-23/2/1428 بعد صلاة العشاء مباشرة) مثلا وانتهاءً بحفلات الزفاف والمعاملات الفردية.

ويبدو لي -والله أعلم– أن تعاملنا هذا يجانبه الصواب من وجوه:

1/ وضع تاريخين في الإعلان مخالفةٌ لما تقدم من النصوص، من أن مغيب الشمس يعلن ابتداء يوم جديد، فلا داعي لوضع تاريخ النهار السابق حسب نصوص الشرع.

2/ حين ينظر الممحص إلى جملة (يوم الإربعاء الموافق 23-24/صفر/1428) وما شابهها لايشك في تضاربها، ومخالفة عجزها لصدرها، إذ لكل ليلة سابقة ونهار لاحق تاريخ واحد، ويوم الإربعاء وما شابهه المُتَحَدَّثِ عنه ليس بِدْعًا في هذا الباب، فلا يستحق إلا إعطاء تاريخ واحد،

ربما استدل العاملون بالتعامل السابق بالوضع اللغوي، وأن العرب تجيز في لغتها إطلاق لفظ المساء (مساء الإثنين) على ما بعد الظهر إلى منتصف الليل (انظر المعجم الوسيط مادة مسى ج2ص877)، فلا مانع إذن من أن يمتد إطلاق ذلك اليوم إلى منتصف الليل اللاحق، كما نتعامل به الآن فلا بأس مادامت اللغة تبيح ذلك.

 

غير أن هذا الإستدلال في نظري منقوض من عدةِ أوجه:

1/ إن أغلب كتب اللغة التي حددت معنى المساء ذكرت في تحديد نهايته وقتين: المغرب ومنتصف الليل

(المساء: زمان وقته بعد الظهر إلى صلاة المغرب، أو إلى نصف الليل)

وانتهاؤه بالمغرب موضع اتفاق بين اللغويين، بينما امتداده إلى نصف الليل قول مرجوح، وموضع اختلاف بينهم،

واتباع مالا خلاف فيه أولى مما فيه خلاف، بل من اللغويين من لم يذكر المرجوح أصلًا ومن هؤلاء الفيومي في مصباحه (المساء خلاف الصباح، وقال ابن قوطية المساء مابين الظهر إلى المغرب، وأمسيت دخلت في المساء، ومسّاه الله بخير دعا له) (المصباح المنير مادة مسى ص698).

2/ إنْ كان إطلاق لفظ المساء موضع اختلاف بين اللغويين، فإن ذلك غير مُبَرر، لأن نوسع ونمد في مفهوم اليوم ووقته، ونبني على هذا القول المرجوح قاعدة التعامل اليومية ونتعامل بها باستمرار، بل يجب تبني القول الراجح في تحديد مفهوم المساء.

وعلى افتراض امتداد المساء إلى منتصف الليل، هل عد اللغويون ذلك الجزء من الزمن ضمن أجزاء اليوم السابق؟ أم أنه جزء من اليوم اللاحق تجوزوا في استعماله، دون أن يُضِيف ذلك الاستعمالُ إلى زمن اليوم السابق شيئًا، وبعبارة أخرى هل يعد ذلك الجزء من الليل ضمن أجزاء اليوم السابق أو اليوم اللاحق، الذي ابتدأ بمغيب الشمس.

لاشك أن ذلك جزء من اليوم اللاحق، لذا لم أعثر على نص لغوي عد ذلك الجزء من الليل ضمن أجزاء اليوم السابق رغم بحثي الطويل في كتب اللغة.

3/ نفترض أن المفهوم اللغوي صحيحٌ ووارد، وأن العرب حددوا نهاية مفهوم اليوم بمنتصف الليل، هل لنا أن نتعامل به؟

في ذلك تفصيل: فما كل المفاهيم اللغوية نتعامل بها، ولا كل المفاهيم اللغوية نرفضها في باب التعامل، بل القاعدة العامة في ذلك أن المفهوم اللغوي لكلمةٍ ما يبقى في سُلَّمِ التعامل وبمعناها المعمول لدى العرب ما لم يتدخل الشرع في ذلك،

فإن تدخل الشرع في تعيينِ مفهومٍ لكلمة عربية، وجب على المسلمين صرف الكلمة إلى ذلك المفهوم الاصطلاحي الخاص، كمفهوم الصلاة مثلا، فالصلاة: لغة: الدعاء، بينما الصلاة بالمفهوم الاصطلاحي بعد نزول الوحي: عبادة معروفة تبتدئ بالتكبير وتنتهي بالتسليم.

فمتى أطلقت كلمة الصلاة الآن لا نفهم منها إلا تلك العبادة، فكذلك مفهوم اليوم، فإن كان يقتضي قبل نزول الوحي إدخال النصف الأول من الليل فيه، فإنه بعد نزوله ينحصر مفهوم اليوم مابين مغيب الشمس إلى مغيب الشمس، وإن الليل بدايةٌ ليوم جديد.

هب أن المفهوم اللغوي لكلمة اليوم يقتضي إدخال النصف الأول من الليل فيه، فإن المفهوم الاصطلاحي لليوم يمنع ذلك، لما تقدم من النصوص الشرعية، فالكلمة في استعمالاتنا لا تحمل إلا مفهوما اصطلاحيا، لأن الشرع نقلها من مفهومها اللغوي السابق إلى مفهوم لغوي جديد، فلا يصح التغافل عنه، لأن أعمال المسلم كلها ترتبطِ بالشرع وبالمفاهيم الشرعية.

 

والخلاصة –والله أعلم– أن اليوم الإسلامي الذي ظهر لي من النصوص السابقة يبتدئ من مغيب الشمس، وأن بدايته بالليل ونهايته إلى غروب الشمس من النهاراللاحق، وأن إعطاء تاريخين لفترة ما بعد المغرب إلى منتصف الليل غير مستساغ شرعًا وعقلًا،

ولربما كان ذلك عدوى من الغرب، حيث يبتدئ يومهم من النصف الثاني من الليل، وينتهي بانتهاء النصف الأول من الليلة المقبلة، وبالتحديد يبتدئ اليوم الغربي من بعد الثانية عشرة ليلًا وينتهي بالثانية عشرة ليلًا من الليلة التالية .

وإن التعامل باليوم الإسلامي في هذا الخضم محتاج إلى وقفة إيمانية لا تهاب أحدًا، ولا تشعر بعار، هدفها اتباع أمر الله في كل صغيرة وكبيرة في هذه الحياة.

 ((إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد)) (غافر، آية 51).

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply