8/ ظهور المواقف البطولية: فالنبي - صلى الله عليه وسلم - تنتهي إليه الشجاعة بأسرها، ومن مواقفه البطولية ما كان من أمر الهجرة وذلك لما اجتمعت عليه قريش ورمته عن قوس واحدة، وأجمعت على قتله، والقضاء على دعوته، فما كان منه إلا أن قابل تلك الخطوب بجأشٍ, رابط، وجبين طَلقٍ,، وعزم لا يلتوي.
ولاحـت نجــومٌ للثريا كـــأنـها * * * جبين رسول الله إذ شاهد الزحفا
ولقد كان ذلك دَأبَهُ - عليه الصلاة والسلام - فلم تكن تأخذه رهبة من أشياع الباطل وإن كثر عددهم، بل كان يلاقيهم بالفئات القليلة ويفوز عليهم فوزاً عظيماً، وكان يقابل الأعداء بوجهه، ولا يوليهم ظهره وإن تزلزل جنده، وانصرفوا جميعاً من حوله.
وكان يتقدم في الحرب حتى يكون موقفه أقرب موقف من العدو، وإذا اتقدت جمرة الحرب، واشتدّ لهبها أوى إليه الناس، واحتموا بظله الشريفº فلم يكن يتوارى من الموت، أو يُقَطِّب عند لقائهº كيف وهو يتيقن أن موتَه هو انتقال من حياة مخلوطة بالمتاعب والمكاره إلى حياة أصفى لذة، وأهنأ راحةً، وأبقى نعيماً؟
ولقد كان لهذه المواقف البطولية الرائعة موضع قدوة لأصحابه ومن جاء بعدهمº فحقيق على الأمة التي تريد العزة، والرفعة، والسعادة أن تكون على درجة من الشجاعةº حتى تقر بها أعينُ حلفائها، ويكون لها مكانة مهيبة في صدور أعدائها.
وحقيق على علماء الإسلام وزعمائه أن يقتدوا برسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أدب الشجاعة التي هي الإقدام في حكمةº فقد جرت سنة الله على أن الحق لا يمحق الباطل، وأن الإصلاح لا يدرأ الفساد إلا أن يقيض الله لهما رجالاً يؤثرون الموت في جهاد على الحياة في غير جهاد.
9/ الحاجة إلى الحلم، وملاقاة الإساءة بالإحسان: فلما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - في مكة قبل الهجرة كان يلقى من الطٌّغاة، والطَّغام أذىً كثيراً، فيضرب عنه صفحاً، أو عفواًº فما عاقب أحداً مسَّه بأذى، ولا أغلظ له في القول، بل كان يلاقي الإساءة بالإحسان، والغلظة بالرفق.
ومما يجلِّي هذا المعنى ما كان منه - عليه الصلاة والسلام - لما عاد إلى مكة ظافراً فاتحاً حيث تمكن ممن كانوا يؤذونه بصنوف الأذى فقال لهم: \" ما تظنون أني فاعل بكم؟ \".
قالوا: أخ كريم وابن أخ كريم، فقال: \" اذهبوا فأنتم الطلقاء \".
فهذا دأبه وديدنه، يعفو ويصفح، ويدفع السيئة بالحسنة إلا أن يتعدى الشر، فيلقي في وجه الدعوة حجراً، أو يحدث في نظام الأمة خللاًº فَلِرَسول الله - صلى الله عليه وسلم - يومئذ شأنه الذي يقول فيه: \" لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها \".
فالانتصار ـ إذاً ـ ليس للنفس، ولا للحرص على الحياة.
وإنما هو انتصار للحق، وغضب لحرمات الله - عز وجل - .
وما الحسام الذي يأمر بانتضائه للجهاد في سبيل الله إلا كمبضع طبيب ناصح يشرط جسم العليلº لينزِف دمه الفاسد، أو ليستأصل منه أذى متمكناًº حرصاً على سلامته.
فهذه السيرة ترشد رئيس القوم والداعية والعالم أن يوسع صدره لمن يناقشه، ويجادله ولو صاغ أقواله في غِلَظٍ, وجفاءº فسيرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هي التي علمـت معاوية - رضي الله عنه - أن يقول: \" والله لا أحمل سيفي على من لا سيف له، فإن لم يكن من أحدكم سوى كلمة يقولهاº ليشتفي بها فإني أجعل له ذلك دبر أذني، وتحت قدمي \".
ويقول: \" لا أحمل سيفي ما كفاني سوطي، ولا أحمل سوطي ما كفاني مقولي \".
10/ استبانة أثر الإيمان: فلما تنفس الإسلام في بطاح مكة اعتنقه فريق من ذوي العقول السليمة، وما لبث عُبَّاد الأوثان يؤذونهم في أنفسهم، ويأبون أن يقيموا شعائر دينهم.
ولما كان أولئك المسلمون على إيمان أجلى من القمر يتلألأ في سماء صاحية تَحَمَّلُوا الأذى في صبر وأناة، وكانت مظاهر أولئك الطغاة حقيرة في أعينهمº منبوذة وراء ظهورهم حتى أذن الله لهم بالهجرة.
وكذلك الإيمان تخالط بشاشتهُ القلوبَº فيخلق من الضعف عزماً، ومن الخمول نهوضاً، ومن الذلة عِزّّاً، ومن البَطالة نشاطاً، ومن الشحِّ كرماً وبذلاً.
وهذا الأثر يعطي درساً عظيماً وهو أن الإيمان يصنع المعجزات، ويأتي بأطيب الثمرات.
وهذا بدوره يدفع أولي الأمر وأهل العلم أن يبذلوا قصارى جُهدِهم في سبيل تعليمِ الأمةِ أمرَ دينها وقيادتها ـ ولو بالسلاسل ـ إلى دعوة الإيمان والهدىº كي تعود لها عزتها السالفة، وأمجادها الغابرة.
11/ انتشار الإسلام وقوته: وهذا من فوائد الهجرةº فلقد كان الحق بمكة مغموراً بشغب الباطل، وكان أهل الحق في بلاء من أهل الباطل شديد.
والهجرة كانت من أعظم الأسباب التي رفعت صوت الحق على صخب الباطل، وخلَّصت أهل الحق من ذلك البلاء الجائر، وأورثتهم حياة عزيزة، ومقاماً كريماً.
وإذا كانت البعثة مبدأ الدعوة إلى الحق فإن الهجرة مبدأ ظهوره والعمل به في حالتي السر والعلانية.
ولا يبلغ قول الحق غايته، ويأتي بفائدته كاملة إلا أن يصبح عملاً قائماً، وسيرة متَّبعةº فالهجرة راشت جناح الإسلام، فذهب يحلق في الآفاقº ليمحوا آية الضلالة، ويجعل آية الهداية مبصرة قال - تعالى-: (إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَد نَصَرَهُ اللَّهُ إِذ أَخرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثنَينِ إِذ هُمَا فِي الغَارِ إِذ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحزَن إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ, لَم تَرَوهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السٌّفلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ العُليَا)[التوبة: 40].
فإنك تجد الآية الكريمة تَذكُر شيئاً من أمر الهجرة النبوية، وتعد من جملة النعم الجليلة المترتبة عليها جَعل كلمة الذين كفروا السفلى، وكلمة الله هي العليا.
علت كلمة الله حقا، وإنما علت على كاهل تلك الدولة التي قامت بين لا بتي المدينة، وبسطت سلطاناً لا تستطيع يد المخالفين أن تمسه من قريب ولا من بعيد.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد