الخطاب الدعوي في مكة وحدة الأهداف والمنطلقات


 

بسم الله الرحمن الرحيم

في الجاهلية الأولى كان المال دولة بين الأغنياء...قِلَّة غنية وكَثرة بالكاد تجد قوت يومها، وفي الجاهلية الأولى كانت الحروب تأكل الرجال على ناقة أو لأن فرسا سبقت أختها، وفي الجاهلية الأولى كان الزنا وكانت الخمر وكان وأد البنات وبيع الأحرار.وكان الشرك الأكبر (شرك النسك وشرك الطاعة)... تُدعى الأصنام من دون الله ويُنذر لها ويُذبح عندها، وكان شرك الطاعة... يُشَرِّع الملأ ويتبع العوام.

ولم تخل الجاهلية من المصلحين، الذين يسعون في إصلاح ذات البين لحقن الدماء ورفع الظلم عن الضعفاء.

وحين بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يضع يده في يد أحد من هؤلاء.

 

بكلمات أخر : رغم أن الدعوة الإسلامية كانت تدعوا لمثل ما كان يدعو إليه المصلحون من مكارم الأخلاق إلا أنها لم تضع يدها في يد أحد من هؤلاء. ذلك لأنه وإن اتحدت الأهداف فإن المنطلقات متغايرة. فهؤلاء دوافعهم شتى.. تدفعهم المروءة ويدفعهم الثناء الحسن ويدفعهم عرف الآباء، أما المسلمون فيدفعهم طاعة الله ورسوله ـ ولا ينبغي أن يكون لهم دافع غير ذلك ـ. وهؤلاء تقف أهدافهم عند إصلاح الدنيا والمسلمون يصلحون الدنيا للآخرة. وشتان.

ومن يتدبر أحداث السيرة النبوية وما كان يَتَنَزَلُ في بداية البعثة يجد أن الدعوة الإسلامية بدأت بتعريف الناس بربهم.. بأسمائه وصفاته وآثار ذلك في مخلوقاته.. كيف أنه الحي القيوم الرحيم الرحمن ذي الجلال والإكرام مالك الملك القريب المجيب.. الخ، ثم بترسيخ نظرية الثواب والعقاب وذلك بتعريفهم بالجنة (دار الثواب) وبالنار دار العقاب، وقُصَّ عليهم خبر من سبقوا، مَن أطاعوا منهم كيف كانت عاقبتهم ومن عصوا منهم ماذا فعل الله بهم. واقرءوا ما نزل من القرآن في مكة.

 ثم جاءت التشريعات باسم الله الذي عرفوه بأسمائه وصفاته وبين يدي الثواب والعقاب.

فمثلا قيل لهم: الله ـ الذي عرفوه ـ يأمركم بالصلاة، ومن فعل فله الجنة ـ التي عرفوها ـ ومن عصى فله النار ـ التي عرفوها ـ.

والله الذي عرفتموه يأمركم بالزكاة ومن أطاع فثوابه الجنة التي عرفتموها، ومن عصى فله النار التي عرفتموها.

لذا استقامت النفوس محبه ورهبة لله وخوفا من النار وطمعا في الجنة.

وبهذا يتضح منطلق الدعوة الإسلامية وهدفها، وهو تعبيد الناس لله... تعريفهم بربهم ليعظموه ويوقروه ويسبحوه، وإصلاح الدنيا ـــ يجيء تبعا وليس أصلا ـــ ثم الفوز بالجنة.

 

نعم. في العهد المكي كانت الدعوة الإسلامية في خطابها الموجه للجاهلية يومها، كانت مصرة على أن تبدأ من اليوم الآخر ترغيبا وترهيبا.

 

تحاول أن تجعل القلوب معلقة بما عند ربها ترجوا رحمته وتخشى عقابه. ويكون كل سعيها دفعا للعقاب وطلبا للثواب فتكون الدنيا بجملتها مطية للآخرة، على هذا تربى الصحابة رضوان الله عليهم. بل ورسول الله ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ هو أيضا تربى على هذا

 

المعني، فقد كان يتنزل عليه \" وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعضَ الَّذِي نَعِدُهُم أَو نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَينَا مَرجِعُهُم ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفعَلُونَ [يونس: 46] \" وَإِن مَا نُرِيَنَّكَ بَعضَ الَّذِي نَعِدُهُم أَو نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيكَ البَلاغُ وَعَلَينَا الحِسَابُ \" [يونس: 40]

 

ولهذا استقامت النفوس تبذل قصارى جهدها في أمر الدنيا ترجوا به ما عند الله فكان حالهم كما وصف ربهم \" تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا \" [الفتح: من الآية 39] فهذا وصف للظاهر (ركعا سجدا) ووصف للباطن (يبتغون فضلا من الله ورضوانا)، والسياق يوحي بأن هذه هي هيئتهم الملازمة لهم التي يراهم الرائي عليها حيثما يراهم. كما يقول صاحب الظلال ـ - رحمه الله - ــ.

هذا حال من ابتدؤا وإنا نجد في كتاب ربنا أننا ملزمون بالسير على دربهم واقتفاء آثارهم،

\" ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا \" \" فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا \". وما لنا أن لا نقتفي آثارهم ونسير على دربهم وهم أنجح جيل في التاريخ ولم يأت مثله في حياة الناس؟

 

أقول: ومن يتدبر آيات الأحكام في كتاب الله يجد أن هناك إصرار من النص القرآني على وضع صورة الآخرة عند كل أمر ونهي ضمن السياق بواحدة من دلالات اللفظ، المباشرة منها أو غير المباشر (دلالة الإشارة أو التضمن أو الاقتضاء أو مفهوم المخالفة.. الخ)، فمثلا يقول الله - تعالى -\" ويل للمطففين. الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون. ألا يظن أولئك أنهم مبعثون ليوم عظيم. يوم يقوم الناس لرب العالمين... \"

فتدبر كيف يأتي الأمر بعدم تطفيف الكيل حين الشراء وبخسه حين البيع؟

ولا أريد أن أعكر صفو النص بكلماتي.

ومثله \" فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور \"

فهنا أمر بالسعي على الرزق، وتذكير بأن هناك نشور ووقوف بين يدي الله - عز وجل - فيسأل المرء عن كسبه من أين وإلى أين؟

بل واقرأ عن الآيات التي تتحدث عن الطلاق في سورة البقرة تجد أنها تختم باسم أو اسمين من أسماء الله - عز وجل - \"... فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ \" \"... وَاعلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيءٍ, عَلِيمٌ \" \"... وَاللَّهُ بِمَا تَعمَلُونَ خَبِيرٌ \" \"... وَاعلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعمَلُونَ بَصِيرٌ \" \".... إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعمَلُونَ بَصِيرٌ \"

وهذا لا شك استحضار للثواب والعقاب.

 

 هذا هو هدف البعثة المحمدية ـــ وكل بعثة كانت، من آدم - عليه السلام - إلى محمد ــ - صلى الله عليه وسلم - ـــ... تعبيد الناس لله وليس ما يسمى الرقي المادي بالإنسانية كما يردد دعاة الإصلاح اليوم، قال الله - تعالى -\" وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون \" [الأنبياء: 25].

 بل إن الرقي المادي لازم من لوازم الانضباط على شرع الله، قال الله - تعالى -\" ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون \" [الأعراف: 96].

\" ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم منهم أمة مقتصدة وكثير منهم ساء ما يعملون \" [المائدة: 66]

 

ولا بد حين قراءة السيرة النبوية أو عرضها على الناس من الوقوف عند الخطاب المكي، وليس الاقتصار فقط على حركة الأشخاص... وقفة تبين فيم كان يتحدث محمد - صلى الله عليه وسلم - مع الكافرين ومع المحبين؟ ماذا كان يريد؟، ولم لم يدع يده في يد أصحاب الدعوات الأخرى ممن يشتركون معه في بعض الأمور؟

 

نحن بحاجة إلى قراءة جديدة للسيرة النبوية نبين فيها للناس أهداف الدعوة الإسلامية ومنطلقاتها... نحتاج هذا الطرح الفكري اليوم أكثر من أي يوم مضى.

واليوم قامت بعض الفصائل الإسلامية بالتحالف مع الأحزاب ذات التوجهات اليسارية، و توجهت إلى الجماهير بخطاب دنيوي بحت ونادت بشرع الله من باب الأفضلية... لأنه خير من غيره أو لأنه هو الأنسب لإصلاح الدنيا، فيُقبل من يُقبل وليس عنده هدف سوى ما فهمه من هذا الخطاب المنقوص.

واليوم رفعت بعض الفصائل المجاهدة الشعارات الوطنية وراحت تثني على الزعمات العلمانية بدعوى لم شمل أبناء الوطن الواحد، وهؤلاء وأولئك نحسن الظن بهم ولكن خطاب كهذا تضيع به الأهداف الحقيقية للدعوة الإسلامية أو تتميع في أحسن الأحوال، ولست اغمز أحدا ــ معاذ الله ـــ وإنما أنصح بما أراه صحيحا. أقول: لا بد من المفاصلة الفكرية التي يتميز بها سبيل المؤمنين من سبيل الكافرين والمنافقين. وتعرف العامة أين هي وتمضي بوضوح في طريق الله المستقيم. كما بدأت الدعوة في مكة بين ظهراني قريش على يد الحبيب - صلى الله عليه وسلم -.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply