قراءة دعوية في السيرة النبوية


 

بسم الله الرحمن الرحيم

المقدمة :

نحن - أيها الأحبة - نعلم أنا ما تعبدنا بإتباع أحد إلا بإتباع الرسول - صلى الله عليه وسلم - فهو قدوتنا وأسوتنا، كما قال - جل وعلا -: {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيراً} وإذا عرفنا ذلك ظهرت لنا أهمية سيرة النبي - عليه الصلاة والسلام - وتعلمها، والاقتباس منها، والإقتداء بها، سيما في مثل هذه الأعصر التي كثر فيها التخبط، وازدادت فيها الشبهات، وتكاثرت الفتن، وأصبح كلٌ يقول بقول، ويدعو إلى دعوة، ويبقى المسلم لا يضبطه شيء إلا دعوة الرسول - صلى الله عليه وسلم -.

ومن رحمة الله - عز وجل - بعباده المؤمنين، وبهذه الأمة على وجه الخصوص، وبالناس أجمعين عامة، أن هذه العبرة كانت واضحة مفصلة، كأنما ولد - عليه الصلاة والسلام - على ضوء الشمس - كما يقول بعض المؤرخين -، فما من شيء خفي من سيرته، فنحن نعلم عن مولده، وعن طفولته، وعن قبيلته وأسرته، وعن نسبه وعن حسبه، كما نعلم أيضاً عن حياته في بيته، ونعلم أقواله وأفعاله، حتى في أدق الأمور وأبسطها، فكان ذلك نوعاً من النعمة الكبرى، حتى يجتري المسلم من سيرة النبي - عليه الصلاة والسلام - كل ما يحتاج إليه.

ومن هنا فإن السيرة النبوية يمكن أن تقرأ قراءات عديدة، فيمكن أن نقرأها قراءة عسكرية في حنكته - عليه الصلاة والسلام - في الغزوات التي قادها، والسرايا التي أنفذها، وما يلحق بذلك من الأمور، ويمكن أن نقرأ السيرة قراءة فكرية، فيما كان يبينه النبي - عليه الصلاة والسلام - من دحض الشبه، وإبطال الباطل، وإقامة الحجة، إلى غير ذلك من الأساليب والمقتبسات التي يمكن أن تؤخذ من سيرته - عليه الصلاة والسلام -.

وقراءتنا هذه هي قراءة دعوية في السيرة النبويةº وهي صفحات متنوعة من سيرة النبي - عليه الصلاة والسلام - إلا أنها متدرجة مترتبة بحسب التاريخ الذي وقعت فيه هذه الأحداث، وقرئت فيه هذه الصفحات، إضافة على أن هذه القراءة تأتي قراءة منهجية، مرتبط بعضها ببعض فهي تعبر عن البداية والخطوة التي بعدها، وما يلحق بذلك في نوع من بيان الأولويات وترتيبها، ولذلك هي أو هذا الدرس محاولة لاختصار السيرة من خلال عرض مراحل الدعوة فيها، فنحن نريد أن نرى سيرة النبي - صلى الله عليه وسلم - في دعوته، والملامح والمعالم التي ينبغي أن يستقيها الدعاة والمربون من هذه السيرة العطرة، ليكون تأسيسهم وبناؤهم ودعوتهم على طريقة قويمة، وأن تؤتي بإذن الله - عز وجل - الثمار المرجوة المنشودة

 

الصفحة الأولى: سياج الوقاية والحماية عن العادات الجاهلية :

روى البخاري، أنه لما بنيت الكعبة ذهب النبي - صلى الله عليه وسلم - والعباس ينقلان الحجارة، فقال العباس للنبي - صلى الله عليه وسلم - اجعل إزارك على رقبتك، فخر إلى الأرض ، وطمحت عيناه إلى السماء، فقال: أرني إزاري فشده عليه. وروى الحاكم عن علي مرفوعاً إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (ما هممت بشيء مما كان أهل الجاهلية يعملون به غير مرتين، كل ذلك يحول الله بيني وبين ما أريد من ذلك، وما هممت بسوء حتى أكرمني الله - عز وجل - برسالته، فإني قد قلت ليلة لغلام من قريش كان يرعى معي بأعالي مكة، لو أبصرت لي غنمي حتى أدخل مكة فأسمر بها كما يسمر الشباب، فقال: افعل فخرجت أريد ذلك، حتى إذا جئت أول دور من دور مكة سمعت عزفاً بالدفوف والمزامير فقلت ما هذا؟ فقالوا: فلان بن فلان تزوج فلانة بنت فلان، فجلست أنظر إليهم، فضرب الله على أذني فنمت، فما أيقظني إلا مس الشمس، فجئت إلى صاحبي فقال: ما خبرك؟ فقصصت عليه الخبر، ثم كان ذلك ثانية فلما جلست لأستمع ضرب الله على أذني فنمت فما أيقظني إلا مس الشمس). قال: فلم يقع منه - عليه الصلاة والسلام - إلا مثل هذا. قال الحاكم: صحيح على شرط مسلم، ووافقه الذهبي، وضعف بعضهم هذا الحديث بعلل معتبرة عند بعض أهل العلم، وقال ابن كثير- رحمة الله عليه - في تاريخه: هذا غريب جداً ولكن هذه الراويات بمجموعها مع وجود رواية صحيحة في البخاري هي التي نريد أن نقف فيها الوقفة الأولى.

إذ هذه الصفحة من سيرته - عليه الصلاة والسلام - تبين لنا معلماً مهماً من معالم الدعوة، وهو تجنب التأثير السلبي للمجتمع المنحرف، ذلك أن النبي - عليه الصلاة والسلام - قد عاش في هذه الجاهلية التي كانت منحرفة في أفكارها وعقائدها، وكانت أيضاً منحرفة في سلوكها وأخلاقياتها، وكانت منحرفة في قوانينها وعاداتها، إلا أنه - عليه الصلاة والسلام - لم يشارك هؤلاء القوم بشيء من هذا، ولم يخالطهم فيه، ولم يقبل منهم ذلك، بل كان بما وفقه الله - عز وجل - إليه، وما عصمه به، مجتنباً هذه الصور الانحرافية كلها، وهذا أمر مهم في شأن الدعوة، وهو سياج الوقاية والحماية ولا بد لنا أن ندرك أن الوقاية أهم وأولى في التقديم من العلاج.

ولذلك في مجال الدعوة سيما في الأعصر التي تختلط فيها المفاهيم الأساسية، ولا تتمثل معالم المجتمع الإسلامي تمثلاً كاملاً، وإذا بمبادئ ومذاهب فكرية تخالف دين الله - عز وجل - وإذا بشرائع وأحكام وقوانين لا تتفق مع شريعة الله - سبحانه وتعالى - وإذا بأوضاع وعادات وتقاليد لا تتطابق مع هدي الرسول - صلى الله عليه وسلم - وإذا بالمسلم في وسط هذه البيئة إن خالطها أو أخذ شيئاً منها أو قبلها أو فتن بها أو اعتقدها أو دعا إليها، فلا شك أنه سيكون متأثراً غاية التأثر وسيضع هذا الاشتراك بصماته على فكره، وعلى قلبه، وعلى سلوكه وتصوراته، ولذلك لا بد أن نؤكد على هذا المعنى، وهو معنى أن يعتزل المسلم كل انحراف في الجاهلية التي يعش فيها، وألا يكون موافقا لها من ناحية المبدأ، وألا يكون مائلاً لها من ناحية الشعور، وألا يكون متطابقاً معها من ناحية السلوك، وألا يكون مساعداً لها من ناحية الغض عنها أو عدم السعي لإنكارها، وتضييق سبل ترويجها وقوتها وانتشارها.

ولذلك ورد الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في ذم بني إسرائيل وتلا - عليه الصلاة والسلام - قول الله - جل وعلا - في وصفهم: {كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون} والنبي - عليه الصلاة والسلام - قال: (إن بني إسرائيل لما وقع فيهم النقص كان الرجل فيهم يرى أخاه على الذنب فينهاه عنه فإذا كان الغد لم يمنعه ما رأى منه أن يكون أكيله وشريبه وخليطه فضرب الله قلوب بعضهم ببعض...)

فهذا معلم مهم ينبغي أن يرسخه أهل الدعوة، أهل العلم والإيمان وهو أن ينشئوا في قلب المؤمن تلك العزلة الشعورية، والمفاصلة القلبية، والمفارقة من حيث الاعتقاد والمبدأ لكل صورة انحرافية يعيشها المسلم في وسط أي مجتمع من المجتمعات.

وذلك حتى يبرأ من الآثارº لأن القلب والنفس جهاز استقبال فإذا سمع المرء الخنا، وإذا رأى الفحش والفجور، وإذا سمع مقالات الباطل، يوشك أن ينطبع بعضها في قلبه، وأن يغيّر في فكره، وأن يؤثر في سلوكه، وهذا معلم مهم يعد أول الخطوات التي هي الوقاية استعداداً لما بعدها.

 

الصفحة الثانية: الخلوة في العبادة

ومن سيرته - عليه الصلاة والسلام - أنه (كان يتحنث الليالي ذوات العدد في حراء) وفي رواية خديجة - رضي الله عنها - قالت: فكنت أزوده لذلك فيختلي في غار حراء الشهر والشهرين أو أكثر من ذلك، فقد ورد في بعض الراويات في سيرة ابن هشام: أنه كان يمكث شهراً من كل سنة، وفي بعض الراويات: أنه كان يمكث ستة أشهر، وهذا المعلم معلم مهم أيضاً في حياة المرء المسلم في البيئة الجاهلية، فكما أنه فارقها بقلبهº فإنه يحتاج إلى خلوة يخلو بها ويخلد بها من سخط الدنيا إلى الهدوء الذي يتأمل فيه في ملكوت الله - عز وجل - ويخرج من فتنة إغراء ومدح المادحين، وذكر محاسنه ومناقبه، إلى خلوة يتذكر فيها أمره، ويحاسب نفسه، كما أنه يخرج من هذه المشكلات والمعضلات التي قد تؤثر على نفسه وعلى إيمانه، فيصفو قلبه في لحظات من المناجاة لله - عز وجل - والدعاء له، والسكينة إليه - سبحانه وتعالى -.

 

ولذلك يحتاج المسلم بين الفينة والأخرى إلى أوقات قليلة من يومه، وإلى أوقات أطول قليلاً من أسبوعه وشهره، حتى يجعل لنفسه هذه المحطات التي يراجع فيها نفسه، ويخلصها من أدرانها وأوضارها، وأن يكون أيضاً مستقلاً فيها عن كل ما يؤثر على فكره ورأيه وموقفه، ليكون ذلك أدعى له على تجديد نشاطه، وعلى تقويم مسيرته. وكانت هذه في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل بعثته، فكانت معيناً له، ومهيأ له بما استقبل من الوحي بعد ذلك وما تلقاه من الرسالة التي وردت في الصحيح من حديث النبي- صلى الله عليه وسلم - في وصف أول اتصال بين الأرض والسماء، وأول نزول للوحي على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلما كان في بعض أيامه ولياليه في غار حراء كما يقول - عليه الصلاة والسلام - إذ نزل عليه جبريل فقال له: اقرأ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ما أنا بقارئ! قال: فأخذني فغطني ـ أي بمعنى ضمّني ـ حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني ـ أي أطلقني ـ فقال: اقرأ، قلت: ما أنا بقارئ! قال: فأخذني فغطني الثانية ثم أرسلني فقال: اقرأ، قلت: ما أنا بقارئ! ثم غطني الثالثة حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال: اقرأ، قلت: ما أنا بقارئ! قال: {اقرأ باسم ربك الذي خلق * خلق الإنسان من علق * اقرأ وربك الأكرم * الذي علم بالقلم} فكان هذا أول نزول للوحي على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.

 

الصفحة الثالثة: الصلة بالله

وفي هذه الصفحة معلمان مهمان في حياة الإنسان المسلم وفي سيرة الدعوة التي ينبغي أن ننتبه لها: ـ

1 ـ الصلة بالله - عز وجل -º فإنه لا يمكن للإنسان المسلم أن يواجه الباطل، ولا أن يقف في وجه الأعداء، ولا أن يتغلب على شهوات النفس، ولا أن يستعلي على فتن الدنيا، ولا أن يكون موصول الحبل بالله - عز وجل - والنبي - صلى الله عليه وسلم - منذ أن اقتبس هذه النبوة أو قبست في قلبه هذه النبوة والرسالة بالوحي، بقي مشدوداً بهذا الحبل المتين في الصلة بالله - عز وجل -، تلك الصلة التي تجعل المرء كلما احلولكت في وجهه الظلمات، وسدت في وجهه الأبواب، وجد أن النور والشعاع والضياء فيما عند الله - عز وجل -، ووجد أن الفرج والتنفيس والنصر من عند الله - عز وجل - كما ورد في قوله - سبحانه وتعالى -: {الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيماناً وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل} هذه الصلة بالله - عز وجل - هي الأساس المتين، وال

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply