كان المسلمون في المدينة قد سمعوا بخروج النبي - صلى الله عليه وسلم - من مكة، فكانوا يغدون كل غداة إلى ظاهر المدينة ينتظرونه، حتى إذا اشتد الحر عليهم عادوا إلى بيوتهم، حتى إذا كان اليوم الذي قدم فيه انتظروه حتى لم يبق ظل يستظلون به فعادو...
وقدم الرسول - صلى الله عليه وسلم - وقد دخلوا بيوتهم، فبصر به يهودي فناداهم، فخرجوا فاستقبلوه، وكانت فرحتهم به غامرة، فقد حملوا أسلحتهم وتقدموا نحو ظاهر الحرة فاستقبلوه.
وقد نزل الرسول - صلى الله عليه وسلم - في قباء في بني عمرو بن عوف أربع عشرة ليلة وأسس مسجد قباء.
ولما عزم رسول الله صلى عليه وسلم أن يدخل المدينة أرسل إلى زعماء بني النجار فجاءوا متقلدين سيوفهم.
وقد سجلت رواية أن عدد الذين استقبلوه خمسمائة من الأنصار، فأحاطوا بالرسول - صلى الله عليه وسلم - وبأبي بكر وهما راكبان، ومضى الموكب داخل المدينة، (وقيل في المدينة: جاء نبي الله - صلى الله عليه وسلم -). وقد صعد الرجال والنساء فوق البيوت، وتفرق الغلمان في الطرق ينادون: يا محمد يا رسول الله، يا رسول الله.
قال الصحابي البراء بن عازب - وهو شاهد عيان -: \" ما رأيت أهل المدينة فرحوا بشيء فرحهم برسول الله - صلى الله عليه وسلم - \"
أما تلك الروايات التي تفيد استقباله بنشيد (طلع البدر علينا من ثنيات الوداع) فلم ترد بها رواية صحيحة.
وأقبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسير حتى نزل جانب دار أبي أيوب الأنصاري فتساءل: أي بيوت أهلنا أقرب؟ فقال أبو أيوب: أنا يا نبي الله، هذه داري وهذا بابي. فنزل في داره.
وقد ورد في كتب السيرة أن زعماء الأنصار تطلعوا إلى استضافة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فكلما مر بأحدهم دعاه للنزول عنده، فكان يقول لهم: دعوا الناقة فإنها مأمورة فبركت على باب أبي أيوب، وكان داره طابقين، قال أبو أيوب الأنصاري: ((لما نزل عليّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بيتي نزل في السّفل وأنا وأم أيوب في العلو، فقلت له: يا نبي الله - بأبي أنت وأمي - إني لأكره وأعظم أن أكون فوقك، وتكون تحتي، فاظهر أنت في العلو، وننزل نحن فنكون في السفل. فقال: يا أبا أيوب: إن أرفق بنا وبمن يغشانا أن نكون في سفل البيت.
قال: فلقد انكسر حبّ لنا فيه ماء، فقمت أنا وأم أيوب بقطيفة لنا مالنا لحاف غيرها ننشف بها الماء تخوفاً أن يقطر على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منه شيء يؤذيه)).
وقد أفادت رواية ابن سعد أن مقامه - صلى الله عليه وسلم - بدار أبي أيوب سبعة أشهر.
وقد اقترعت الأنصار على سكنى المهاجرين، وآثروهم على أنفسهم، فنالوا من الثناء العظيم الذي خلّد ذكرهم على مرّ الدهور وتتالي الأجيال، إذ ذكر الله مأثرتهم في قرآن يتلوه الناس: {والذين تبوّأوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فألئك هم المفلحون} (الحشر9).
وقد أثنى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الأنصار ثناء عظيماً فقال: (لولا الهجرة لكنت امرءاً من الأنصار) و (لو سلكت الأنصار وادياً أو شعباً لسلكت وادي الأنصار أو شعبهم).
وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي حيث أدركته الصلاة، ثم أمر ببناء المسجد في أرض كان فيها نخل لغلامين يتيمين من بني النجار.
وقد اشتراها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقام المسلمون بتسويتها وقطع نخيلها وصفوا الحجارة في قبلة المسجد، وما أعظم سرورهم وهم يعملون في بنائه ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعمل معهم وهم يرتجزون: اللهم إنه لا خير إلا خير الآخرة *** فانصر الأنصار والمهاجرة.
وقد بناه أولاً بالجريد ثم بناه باللبن بعد الهجرة بأربع سنين، وقد واجه المهاجرون من مكة صعوبة اختلاف المناخ، فالمدينة بلدة زراعية، تغطي أراضيها بساتين النخيل، ونسبة الرطوبة في جوها أعلى من مكة، وقد أصيب العديد من المهاجرين بالحمى منهم أبو بكر وبلال.
فأخبرت عائشة - رضي الله عنها - رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: ((اللهم حبّب إلينا المدينة كحبّنا مكة أو أشدّ، وصححها، وبارك لنا في صاعها ومدّها، وانقل حمّاها فاجعلها بالجحفة)). وقال: ((اللهم امض لأصحابي هجرتهم، ولا تردهم على أعقابهم)).
لقد تغلب المهاجرون على المشكلات العديدة، واستقروا في الأرض الجديدة مغلبين مصالح العقيدة ومتطلبات الدعوة، بل صارت الهجرة واجبة على كل مسلم لنصرة النبي - عليه الصلاة والسلام - ومواساته بالنفس، حتى كان فتح مكة فأوقفت الهجرة لأن سبب الهجرة ومشروعيتها نصرة الدين وخوف الفتنة من الكافرين. والحكم يدور مع علته، ومقتضاه أن من قدر على عبادة الله في أي موضع اتفق لم تجب عليه الهجرة منه، وإلا وجبت. ومن ثم قال الماوردي: إذا قدر على إظهار الدين في بلد من بلاد الكفر، فقد صارت البلد به دار إسلام، فالإقامة فيها أفضل من الرحلة منها لما يترجى من دخول غيره في الإسلام.
وعندما دون التاريخ في خلافة عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - اتخذت مناسبة الهجرة بداية التاريخ الإسلامي، لكنهم أخروا ذلك من ربيع الأول الى المحرم لأن ابتداء العزم على الهجرة كان في المحرم، إذ بيعة العقبة الثانية وقعت في أثناء ذي الحجة، وهي مقدمة الهجرة. فكان أول هلال استهل بعد البيعة والعزم على الهجرة هلال المحرم، فناسب أن يجعل مبتدأ التاريخ الإسلامي. والله الموفق والهادي الى سواء السبيل.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد