أول خطبة خطبها رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

كانت أول خطبة خطبها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة أنه قام فيهم، فحمد الله، وأثنى عليه بما هو أهله ثم قال:

«أما بعد: أيها الناس فقدموا لأنفسكم، تعلمن والله ليصعقن أحدكم، ثم ليدعن غنمه ليس لها راعٍ,، ثم ليقولن له ربه، وليس له ترجمان ولا حاجب يحجبه دون: ألم يأتك رسولي فبلغك وآتيتك مالا، وأفضلت عليك، فما قدمت لنفسك؟ فلينظرن يميناً وشمالاً فلا يرى شيئاً، ثم لينظرن قُدامه فلا يرى غير جنهم، فمن استطاع أن يقي وجهه من النار ولو بشق تمرة فليفعل ومن لم يجد فبكلمة طيبة، فإنها بها تجزى الحسنة عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، والسلام عليكم وعلى رسول الله ورحمة الله وبركاته».

 

ثم خطب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مرة أخرى فقال:

«إن الحمد لله أحمده وأستعينه، نعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إن أحسن الحديث كتاب الله تبارك وتعالى، قد أفلح من زينه الله في قلبه، وأدخله في الإسلام بعد الكفر، واختاره على ما سواه من أحاديث الناس، إنه أحسن الحديث وأبلغه أحبوا من أحبه الله، أحبوا الله من كل قلوبكم، ولا تملوا كلام الله وذكره، ولا تقس عنه قلوبكم، فإنه من كل ما يخلق اللهº يختار ويصطفي قد سماه الله خيرته من الأعمال، ومصطفاه من العباد، والصالح من الحديث، ومن كل ما أوتي الناس من الحلال والحرام، فاعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا واتقوه حق تقاته، واصدقوا الله صالح ما تقولون بأفواهكم، وتحابوا بروح الله، إن الله يغضب إن نكث عهده والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته».

 

الصٌّفَّة التابعة للمسجد النبوي:

لما تم تحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة المشرفة بأمر الله - تعالى -، وذلك بعد ستة عشر شهراً من هجرته - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة بقي حائط القبلة الأولى في مؤخر المسجد النبوي، فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - به فظلل أو سقف وأطلق عليه اسم الصفة أو الظلة ولم يكن له ما يستر جوانبه.

قال القاضي عياض: الصفة ظلة في مؤخر مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأوي إليها المساكين وإليها ينسب أهل الصفة.

وقال ابن تيمية: الصفة كانت في مؤخرة مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم - في شمالي المسجد بالمدينة المنورة.

وقال ابن حجر: الصفة مكان في مؤخر المسجد النبوي مظلل أعد لنزول الغرباء فيه ممن لا مأوى له ولا أهل.

 

1- أهل الصفة:

قال أبو هريرة: «وأهل الصفة أضياف الإسلام، لا يأوون على أهل ولا مال ولا على أحد».

إن المهاجرين الأوائل الذين هاجروا قبل النبي - صلى الله عليه وسلم - أو معه أو بعده حتى نهاية الفترة الأولى قبل غزوة بدر، استطاع الأنصار أن يستضيفوهم في بيوتهم وأن يشاركوهم النفقة ولكن فيما بعد كبر حجم المهاجرين مما لم يعد هناك قدرة للأنصار على استيعابهم.

فقد صار المهاجرون يكثرون بعد ذلك شيئاً بعد شيء، فإن الإسلام صار ينتشر والناس يدخلون فيه..ويكثر المهاجرون إلى المدينة من الفقراء والأغنياء، والآهلين والعُزَّاب، فكان من لم يتيسر له مكان يأوي إليه، يأوي إلى تلك الصٌّفة في المسجد.

والذي يظهر للباحث أن المهاجر الذي يقدم إلى المدينة كان يلتقي بالرسول - صلى الله عليه وسلم -، ثم يوجهه بعد ذلك إلى من يكفله فإن لم يجد فإنه يستقر في الصفة مؤقتاً ريثما يجد السبيل فقد جاء في المسند عن عبادة بن الصامت، قال: «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُشغل، فإذا قدم رجل مهاجر على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دفعه إلى رجل منا يعلمه القرآن، فدفع إلي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجلاً، وكان معي في البيت أُعشيه عشاء أهل البيت، فكنت أقرئه القرآن»، وقد كان أول من نزل الصفة المهاجرون لذلك نسبت إليهم فقيل صفة المهاجرين وكذلك كان ينزل بها الغرباء من الوفود التي كانت تقدم على النبي - صلى الله عليه وسلم - معلنة إسلامها وطاعتها وكان الرجل إذا قدم على النبي - صلى الله عليه وسلم - وكان له عريف نزل عليه وإذا لم يكن له عريف نزل مع أصحاب الصفة وكان أبو هريرة - رضي الله عنه - عريف من سكن الصفة من القاطنين، ومن نزلها من الطارقين، فكان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا أراد دعوتهم عهد إلى أبي هريرة فدعاهم لمعرفته بهم، وبمنازلهم ومراتبهم في العبادة والمجاهدةونزل بعض الأنصار في الصفة حباًّ لحياة الزهد والمجاهدة والفقر، رغم استغنائهم عن ذلك ووجود دار لهم في المدينة ككعب بن مالك الأنصاري، وحنظلة بن أبي عامر الأنصاري (غسيل الملائكة) وحارثة بن النعمان الأنصاري وغيرهم.

 

2- نفقة أهل الصفة ورعاية النبي - صلى الله عليه وسلم - والصحابة لهم:

كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يتعهد أهل الصفة بنفسه، فيزورهم ويتفقد أحوالهم ويعود مرضاهم، كما كان يكثر مجالستهم ويرشدهم ويواسيهم ويذكرهم ويعلمهم ويوجههم إلى قراءة القرآن الكريم ومدارسته، وذكر الله والتطلع إلى الآخرة. وكان - صلى الله عليه وسلم - يؤمن نفقتهم بوسائل متعددة ومتنوعة فمنها:

* إذ أتته - صلى الله عليه وسلم - صدقة بعث بها إليهم ولم يتناول منها شيئاً، وإذا أتته هدية أرسل إليهم وأصاب منها، وأشركهم فيها.

 

* كثيراً ما كان يدعوهم إلى تناول الطعام في إحدى حجرات أمهات المؤمنين - رضي الله عنهم -، ولم يكن يغفل عنهم مطلقاً، بل كانت حالتهم ماثلة أمامه، فعن عبد الرحمن بن أبي بكر - رضي الله عنهما -، قال إن أصحاب الصفة كانوا أناسا فقراء، وإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال مرة: «من كان عنده طعام اثنين فليذهب بثالث، ومن كان عنده طعام أربعة فليذهب بخامس أو سادس» أو كما قال، وإن أبا بكر جاء بثلاثة، وانطلق النبي - صلى الله عليه وسلم - بعشرة.

 

* وكما كان - صلى الله عليه وسلم - يقدم حاجتهم على غيرها مما يطلب منه، فقد أتى بسبي مرة فأتته فاطمة - رضي الله عنها - تسأله خادماً، فكان جوابه كما في المسند عند الإمام أحمد: «والله لا أعطيكم وأدع أهل الصفة تطوي بطونُهم من الجوع لا أجد ما أنفق عليهم، ولكن أبيعهم وأنفق عليهم أثمانهم».

 

3- انقطاعهم للعلم والعبادة والجهاد:

كان أهل الصفة يعتكفون في المسجد للعبادة، ويألفون الفقر والزهد فكانوا في خلواتهم يصلون ويقرأون القرأن ويتدارسون آياته ويذكرون الله - تعالى -، ويتعلم بعضهم الكتابة حتى أهدى أحدهم قوسه لعبادة بن الصامت - رضي الله عنه -º لأنه كان يعلمهم القرآن والكتابة، واشتهر بعضهم بالعلم وحفظ الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مثل أبي هريرة - رضي الله عنه - عرف بكثرة تحديثه، وحذيفة بن اليمان الذي اهتم بأحاديث الفتن.

وكان أهل الصفة يشاركون في الجهاد، بل كان منهم الشهداء ببدر مثل صفوان بن بيضاء، وخريم بن فاتك الأسدي، وخبيب بن يساف، وسالم بن عمير، وحارثة بن النعمان الأنصاري، ومنهم من استشهد بأحد مثل حنظلة الغسيل، ومنهم من شهد الحديبية مثل جرهد بن خويلد وأبو سريحة الغفاري ومنهم من استشهد بخيبر مثل تقف بن عمرو ومنهم من استشهد بتبوك مثل عبد الله ذو البجادين.

ومنهم من استشهد باليمامة مثل سالم مولى أبي حذيفة وزيد بن الخطاب، فكانوا رهباناً بالليل فرساناً في النهار، وكان بعض الصحابة قد اختاروا المكوث في الصفة رغبة منهم لا اضطرارا، كأبي هريرة - رضي الله عنه - فقد أحب أن يلازم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويعوض ما فاته من العلم والخير، فقد جاء إلى المدينة بعد فتح خيبر في العام السابع، وحرص على سماع أكبر قدر ممكن من حديثه - صلى الله عليه وسلم - ومعرفة أحواله وتبركا بخدمته - صلى الله عليه وسلم - وهذا لا يتوفر له إلا إذا كان قريباً من بيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فكانت الصفة هي المكان الوحيد الذي يؤمن له ذلك، ولنستمع إليه يوضح لنا ذلك، قال أبو هريرة - رضي الله عنه -: «إنكم تقولون إن أبا هريرة يكثر الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وتقولون ما بال المهاجرين والأنصار لا يحدثون عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، بمثل حديث أبي هريرة، وإن إخوتي من المهاجرين كان يشغلهم صفقٌ الأسواق، وكنت ألزم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على ملء بطني، فأشهد إذا غابوا، وأحفظ إذا نسوا، وكان يشغل إخوتي من الأنصار عمل أموالهم، وكنت امرءاً مسكيناً من مساكين الصفة أعي حين ينسون» وهكذا يوضح - رضي الله عنه - أنه فعل ذلك رغبة منه في ملازمة النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم إن أبا هريرة كان له سكن في المدينة، وهو المكان الذي تسكنه أمه، والتي طلب من النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يدعو لها بالهداية ثم إن أبا هريرة لم يكن فقيراً معدماً، ففي أول يوم قدم فيه على النبي - صلى الله عليه وسلم - في خيبر أسهم له - صلى الله عليه وسلم - من الغنيمة، كما أنه لما قدم كان معه عبد يخدمه كما ورد في الصحيح وإذن فالذي أفقره هو إيثاره ملازمة النبي - صلى الله عليه وسلم - واستماع أحاديثه، وكان يستطيع الاستغناء عن الصٌّفة لو أراد.

 

كان أهل الصفة يكثرون ويقلون بحسب تبدل الأحوال التي تحيط بأهل الصٌّفة من عودة الأهل، أو زوج، أو يسر بعد عَسر، أو شهادة في سبيل الله.

ولم يكن فقرهم لقعودهم عن العمل وكسب الرزق، فقد ذكر الزمخشري أنهم كانوا يرضخون النوى بالنهار، ويظهر أنهم كانوا يرضخون النوى- يكسرونه- لعلف الماشية وهم ليسوا أهل ماشية، فهم إذن يعملون لكسب الرزق.

 

4- عددهم وأسماؤهم:

كان عددهم يختلف باختلاف الأوقات، فهم يزيدون إذا قدمت الوفود إلى المدينة ويقلون إذا قل الطارقون من الغرباء على أن عدد المقيمين منهم في الظروف العادية كان في حدود السبعين رجلاً، وقد يزيد عددهم كثيراً حتى أن سعد بن عبادة كان يستضيف وحده ثمانين منهم، فضلاً عن الآخرين الذين يتوزعهم الصحابة، ومن أراد الوقوف على بعض أسمائهم فليرجع إلى كتب السيرة.

وقد وقع بعض الباحثين في خطأ فادح حين استدل بعضهم على مشروعية مسلك بعض المنحرفين من المتصوفة، من حيث ترك العمل والإخلاد إلى الراحة والكسل، والمكوث في الزوايا والتكايا، بحجة التوكل بحال أهل الصفة. إن أبا هريرة، وهو أكثر ارتباطاً بالصفة من غيره لم يستمر فيها وخرج إلى الحياة، بل أصبح أميراً في بعض أيامه على البحرين في عهد عمر بن الخطاب، ولم يكن مخشوشنا في حياته بل إن أهل الصفة كانوا من المجاهدين في سبيل الله في ساحات القتال، وقد استشهد بعضهم كما ذكرت.

 

خامسًا: فوائد ودروس وعبر:

1- المسجد من أهم الركائز في بناء المجتمع:

إن إقامة المساجد من أهم الركائز في بناء المجتمع الإسلامي، ذلك أن المجتمع المسلم إنما يكتسب صفة الرسوخ والتماسك، بالتزام نظام الإسلام وعقيدته وآدابه، وإنما ينبع ذلك من روح المسجد ووحيه.

قال - تعالى -: (لاَ تَقُم فِيهِ أَبَدًا لَّمَسجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقوَى مِن أَوَّلِ يَومٍ, أَحَقٌّ أَن تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يٌّحِبٌّونَ أَن يَتَطَهَّرُوا وَاللهُ يُحِبٌّ المُطَّهِّرِينَ) [التوبة: 108].

قال - تعالى -: (فِي بُيُوتٍ, أَذِنَ اللهُ أَن تُرفَعَ وَيُذكَرَ فِيهَا اسمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالغُدُوِّ وَالآَصَالِ ` رِجَالٌ لاَ تُلهِيهِم تِجَارَةٌ وَلاَ بَيعٌ عَن ذِكرِ اللهِ وَإِقَامِ الصَّلاَةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَومًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ القُلُوبُ وَالأَبصَارُ ` لِيَجزِيَهُمُ اللهُ أَحسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُم مِّن فَضلِهِ وَاللهُ يَرزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيرِ حِسَابٍ,) [النور: 36-38].

 

2- المسجد رمز لشمولية الإسلام:

أ- حيث أنشئ ليكون متعبداً لصلاة المؤمنين وذكرهم الله - تعالى -وتسبيحهم له، وتقديسهم إياه بحمده وشكره على نعمه عليهم، يدخله كل مسلم، ويقيم فيه صلاته وعبادته ولا يضاره أحد، ما دام حافظاً لقداسته ومؤدياًّ حق حرمته».

 

ب- كما «أنشئ ليكون ملتقى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأصحابه والوافدين عليه، طلباً للهداية ورغبة في الإيمان بدعوته وتصديق رسالته».

 

ج- وهو قد أنشئ ليكون جامعة للعلوم والمعارف الكونية والعقلية والتنزيلية، التي حث القرآن الكريم على النظر فيها، وليكون مدرسة يتدارس فيها المؤمنون أفكارهم وثمرات عقولهم، ومعهدا يؤمه طلاب العلم من كل صوب، ليتفقهوا في الدين ويرجعوا إلى قومهم مبشرين ومنذرين، داعين إلى الله هادين، يتوارثونها جيلاً بعد جيل.

 

د- وهو قد أنشئ ليجد فيه الغريب مأوى، وابن السبيل مستقراً لا تكدره منَّة أحد عليه فينهل من رفده ويعب من هدايته ما أطاق استعداده النفسي والعقلي، لا يصده أحد عن علم أو معرفة أو لون من ألوان الهداية، فكم من قائد تخرج فيه، وبرزت بطولته بين جدرانه، وكم من عالم استبحر علمه في رحابه، ثم خرج به على الناس يروي ظمأهم للمعرفة، وكم من داعٍ, إلى الله تلقى في ساحاته دروس الدعوة إلى الله فكان أسوة الدعاة، وقدوة الهداة، وريحانة جذب القلوب شذاها فانجفلت تأخذ عنها الهداية لتستضيء بأنوارها»

وكم من أعرابي جلف لا يفرق بين الأحمر والأصفر، وفد عليه فدخله ورأى أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حوله هالة تحف به، يسمعون منه وكأن على رؤوسهم الطير، فسمع معهم وكانت عنده نعمة العقل مخبأة تحت ستار الجهالة، فانكشف له غطاء عقله، فعقل وفقه، واهتدى واستضاء، ثم عاد إلى قومه إماماً يدعوهم إلى الله، ويربيهم بعلمه الذي علم، وسلوكه الذي سلك فآمنوا بدعوته، واهتدوا بهديه، فكانوا سطراً منيراً في كتاب التاريخ الإسلامي».

 

هـ- وهو «قد أنشئ ليكون قلعة لاجتماع المجاهدين إذا استنفروا، تعقد فيه ألوية الجهاد، والدعوة إلى الله، وتخفق فيه فوق رؤوس القادة الرايات للتوجه إلى مواقع الأحداث، وفي ظلها يقف جند الله في نشوة ترقب النصر أو الشهادة.

 

و- وهو «قد أنشئ ليجد فيه المجتمع المسلم الجديد ركناً في زواياه، ليكون مشفى يستشفى فيه جرحى كتائب الجهاد ليتمكن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - من عبادتهم، والنظر في أحوالهم والاستطباب لهم، ومداواتهم في غير مشقة ولا نصب تقديراً لفضلهم.

 

ز- وهو «قد أنشئ ليكون مبرداً لبريد الإسلام منه تصدر الأخبار، ويبرد البريد، وتصدر الرسائل، وفيه تتلقى الأنباء السياسية سلماً أو حرباً وفيه تتلقى وتقرأ رسائل البشائر بالنصر، ورسائل طلب المدد، وفيه ينعى المستشهدون في معارك الجهاد ليتأسى بهم المتأسون وليتنافس في الاقتداء بهم المتنافسون.

 

ح- وهو «قد أنشئ ليكون مرقباً للمجتمع المسلم، يتعرف منه على حركات العدو المريبة ويرقبها ولا سيما الأعداء الذين معه يساكنونه ويخالطونه في بلده من شراذم اليهود وزمر المنافقين ونفايات الوثنية، الذين تمتوا في الشرك فلم يتركوه، ليحذر المجتمع المسلم عاقبة كيدهم وسوء مكرهم وتدبيرهم، ويأمن مغبة غدرهم وخياناتهم».

فالمسجد النبوي «بدأ بتأسيسه وبنائه رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أول ما بدأ من عمل في مستقره ودار هجرته في مطلع مقدمه ليكون نموذجا يحتذى به في بساطة المظهر، وعمق وعموم المخبر، ليحقق به أعظم الأهداف وأعمها، بأقل النفقات وأيسر المشقات».

 

3- التربية بالقدوة العملية:

من الحقائق الثابتة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - شارك أصحابه العمل والبناء، فكان يحمل الحجارة وينقل اللبن على صدره وكتفيه، ويحفر الأرض بيديه كأي واحد منهم، فكان مثال الحاكم العادل الذي لا يفرق بين رئيس ومرؤوس، أو بين قائد ومقود، أو بين سيد ومسود، أو بين غني وفقير، فالكل سواسية أمام الله، لا فرق بين مسلم وآخر إلا بالتقوى، ذلك هو الإسلام عدالة ومساواة في كل شيء، والفضل فيه يكون لصاحب العطاء في العمل الجماعي للمصلحة العامة، وبهذا الفضل ثواب من الله، والرسول - صلى الله عليه وسلم - كغيره من المسلمين لا يطلب إلا ثواب الله فقد كانت مشاركة النبي - صلى الله عليه وسلم - في عملية البناء ككل العمال الذين شاركوا فيه، وليس بقطع الشريط الحريري فقط، وليس بالضربة الأولى بالفأس فقط، بل غاص بعلمية البناء كاملة، فقد دهش المسلمون من النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد علته غبرة، فتقدم أسيد بن حضير - رضي الله عنه - ليحمل عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله أعطنيه؟ فقال: «اذهب فاحتمل غيره فإنك لست بأفقر إلى الله مني» فقد سمع المسلمون ما يقول النبي - صلى الله عليه وسلم - لصاحبه، فازدادوا نشاطا واندفاعا في العمل.

 

إنه مشهد فريد من نوعه ولا مثيل له في دنيا الناس، وإذا كان الزعماء والحكام قد يقدمون على المشاركة أحياناً بالعمل لتكون شاشات التلفزيون جاهزة لنقل أعمالهم، وتملأ الدنيا في الصحف ووسائل الإعلام كلها بالحديث عن أخلاقهم وتواضعهم، فالنبي - صلى الله عليه وسلم - ينازع الحجر أحد أفراد المسلمين، ويبين له أنه أفقر إلى الله - تعالى -، وأحرص على ثوابه منه.

وقد تفاعل الصحابة الكرام تفاعلاً عظيماً في البناء وأنشدوا هذا البيت:

لئن قعدنا والنبي يعمل ***  لذاك منا العمل المضلل

 

إن هذه التربية العملية لا تتم من خلال الموعظة، ولا من خلال الكلام المنمق، إنما تتم من خلال العمل الحي الدؤوب، والقدوة المصطفاة من رب العالمين، والتي ما كان يمكن أن تتم في أجواء مكة، والملاحقة والاضطهاد والمطاردة فيها إنما تتم في هذا المجتمع الجديد والدولة التي تبني وكأنما غدا هذا الجميع من الصحابة الكرام كله صوتاً واحداً، وقلباً واحداً، فمضى يهتف:

اللهم إن العيش عيش الآخرة ***  فانصر الأنصار والمهاجرة

ويهتف بلحن واحد:

لئن قعدنا والنبي يعمل ***  لذاك منا العمل المضلل

 

وكان الهتاف الثالث:

هذي الحمال لا حمال خيبر ***  هذا أبر لربنا وأطهر

فأحمال التمر والزبيب من خيبر إلى المدينة كانت لها مكانتها في المجتمع اليثربي أصبحت لا تذكر أمام حمل الطوب لبناء المسجد النبوي العظيم، فقد أيقنوا: (مَا عِندَكُم يَنفَدُ وَمَا عِندَ اللهِ بَاقٍ,) [النحل: 96].

 

وأما الهتاف الرابع:

لا يستوي من يعمر المساجدا *** بدأب فيه قائماً وقاعداً

ومن يرى عن الغبار حائدا

 

4- الاهتمام بالخبرة والاختصاص:

أخرج الإمام أحمد عن طلق بن علي اليمامي الحنفي، قال بنيت المسجد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فكان يقول: «قربوا اليمامي من الطين فإنه أحسنكم له مسيساً» وأخرج الإمام أحمد عن طلق أيضاً، قال: جئت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه يبنون المسجد وكأنه لم يعجبه عملهم، فأخذت المسحاة، فخلطت الطين، فكأنه أعجبه فقال: «دعوا الحنفي والطين، فإنه أضبطكم للطين» وأخرج ابن حبان عن طلق فقال: فقلت: يا رسول الله أأنقل كما ينقلون؟ قال: «لا، ولكن اخلط لهم الطين، فأنت أعلم به».

 

فقد اهتم النبي - صلى الله عليه وسلم - بهذا الوافد الجديد على المدينة، والذي لم يكن من المسلمين الأوائل، ووظف خبرته في خلط الطين، وفي قوة العمل، وهو درس للمسلمين في الثناء على الكفاءات والاستفادة منها، وإرشاد نبوي كريم في كيفية التعامل معها وما أحوجنا إلى هذا الفهم العميق.

 

5- شعار الدولة المسلمة:

إن أذان الصلاة شعار لأول دولة إسلامية عالمية: (الله أكبر، الله أكبر) إنها تعني أن الله أكبر من أولئك الطغاة، وأكبر من صانعي العقبات، وهو الغالب على أمره.

(أشهد أن لا إله إلا الله) أي لا حاكمية ولا سيادة ولا سلطة إلا لله رب العالمين (إن الحكم إلا لله) فمعنى لا إله إلا الله: لا حاكم ولا آمر ولا مشرع إلا الله.

(أشهد أن محمدًا رسول الله) أسلمه الله - تعالى -القيادة، فليس لأحد أن ينزعها منه، فهو ماضٍ, بها إلى أن يكمل الله دينه بما ينزله على رسوله من قرآن، وبما يلهمه إياه من سنة، ويعني الاعتراف لرسول الله بالرسالة والزعامة الدينية والدنيوية والسمع والطاعة له.

(حي على الصلاة، حي على الفلاح) أقبل يا أيها الإنسان للانضواء تحت لواء هذه الدولة التي أخلصت لله، وجعلت من أهدافها تمتين العلاقة بين المسلم وخالقه، وتمتين العلاقة بين المؤمنين على أساس من القيم السامية.

(قد قامت الصلاة) وقد اختيرت الصلاة من بين سائر العباداتº لأنها عماد الدين كلهº ولأنها بما فيها من الشعائر كالركوع والسجود والقيام أعظم مظهر لمظاهر العبادة بمعناها الواسع التي تعني: الخضوع والتذلل والاستكانة، فهي خضوع ليس بعده خضوع، فكل طاعة لله على وجه الخضوع، والتذلل، فهي عبادة، فهي طاعة العبد لسيده، فيقف بين يديه قد أسلم نفسه طاعة وتذللاً قال - تعالى -: (قُل إِنِّي نُهِيتُ أَن أَعبُدَ الَّذِينَ تَدعُونَ مِن دُونِ اللهِ لَمَّا جَاءَنِيَ البَيِّنَاتُ مِن رَّبِّي وَأُمِرتُ أَن أُسلِمَ لِرَبِّ العَالَمِينَ) [غافر: 16].

وهذا الارتباط بين شعار الدولة الرسمي بحاكمية الله وسيادة الشرع، وسقوط الطواغيت، وقوانينهم، وأنظمتهم وشرائعهم بـ(حي على الفلاح.. قد قامت الصلاة) يشير إلى أنه لا قيام للصلاة، ولا إقامة لها كما ينبغي إلا في ظل دولة تقوم عليها وتقوم بها ولها، فقد كان المسلمون يصلون خفية في شعاب مكة قبل قيام دولتهم، أما وقد

قامت تحت حماية سيوف الأنصار، فليجهروا بالأذان، والإقامة، وليركعوا وليسجدوا لله رب العالمين.

 

إن الواقع التاريخي خير شاهد على أن الله لا يعبد في الأرض حق عبادته إلا في ظل دولة قوية تحمي رعايها من أعداء الدين.

ثم تتكرر كلمات الأذان (الله أكبر.. الله أكبر) للتأكيد على المعاني السابقة.

إننا بحاجة ماسة لفهم الأذان، وإدراك معانيه والعمل على ترجمته ترجمة عملية، لنجاهد في الله حق جهاده، حتى ندمر شعارات الكفر، ونرفع شعارات الإيمان، ونقيم دولة التوحيد التي تحكم بشرع الله ومنهجه القويم.

 

6- فضائل المسجد النبوي:

تحدث النبي - صلى الله عليه وسلم - عن فضائل المسجد النبويº ولذلك تعلق الصحابة به ويمكننا الرجوع إلى صحيحي البخاري ومسلم وغيرهماº للوقوف على هذه الفضائل الميمونة. وسنذكر هنا حديثًا واحدًا لمعناه العميق الذي نحتاجه ونستمسك به وهو عن:

 

7- فضل التعلم والتعليم في المسجد النبوي:

عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول:«من دخل مسجدنا هذا ليتعلم خيراً أو يعمله كان كالمجاهد في سبيل الله، ومن دخله لغير ذلك كان كالناظر إلى ما ليس له».

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply

التعليقات ( 1 )

الذكاء

-

محبي النبي

18:18:26 2021-02-01

رائع جدا