بسم الله الرحمن الرحيم
أذكر أنني صمت خلف الأسوار سبع سنوات، وخارجها أكثر من سبعين عاما، ومازالت ذاكرتي تحتفظ ـ والحمد لله ـ بذكرياتي أيام الطفولة والصبا بقريتنا المجاورة لمدينة طما ـ محافظة سوهاج.
في الطفولة كنت كل ما أعرفه عن رمضان: لحظات الإفطار، وطبلة المسحراتي وكحك العيد، والثياب الجديدة والعيدية من الوالد - رحمه الله - وذوي القربى، وكان كل ما يهمنا من رمضان ـ وننتظره ـ هو يوم العيد، حيث كنا نذهب إلى البندر" المدينة " لننفق ما لدينا على المراجيح، وبعض المأكولات والمشروبات، والسيرك المتواضع أحياناً، كنت ثالث اثنين من الذكور ـ الإخوة الأشقاء، وكنت مدللاً، باعتباري الأصغر سناً من ناحية، ومن ناحية أخرى، كنت الوحيد الذي واصل حفظ القرآن بكُتاب (سيدنا) والإصرار على مواصلة التعليم ابتداء من المدرسة الأولية بطما، ولم يكن في قريتنا سوى الكتاب الوحيد.
فيما مضى، كان رمضان في القرية يمثل ساعة الإفطار ـ وساعة السحور، وزيارات يقوم بها البعض، في دعوات على الفطور أو للسهر جزء من الليل، وكان في قريتنا سهرتان: إحداهما في دوار العمدة يحييها قارئ للقرآن، ولا يؤمها إلا الأعيان، والأخرى لأسرة مجاورة، وتمتد السهرة حتى قبيل وقت السحور، كما كان يعني رمضان صلاة القيام بعد صلاة العشاء: عشرين ركعة عدا ركعتي الشفع والوتر، وكان مسموحاً لنا نحن الأطفال بأن نحضر في المساجد، ونحن حريصون على السهر ليس إلا.
لم تكن هناك فرص متاحة للسهر في القرية، فالظلام الدامس يشملها باستثناء الشارع الموجود به دوار العمدة، وكانت الفرصة الوحيدة للسهر بالنسبة لنا الليالي القمرية في الصيف، حيث كنا نمارس لوناً من اللهو البريء، وفي أوائل مرحلة الشباب، كنا نذهب إلى البندر المُضاء والمقاهي والراديو وبعض ألوان التسلية، كانت بعض المقاهي يجتذب الكثير لسمع الطرب وبخاصة شاعر الربابة الذي لم يكن له منافس، وكانت قصص عنترة بن شداد وأبي زيد الهلالي، وعزيزة ويونس والظاهر بيبرس من أكثر القصص التي تشد الانتباه، وكانت لذلك ترتفع أسعار المشروبات: الشاي والقهوة من قرش إلى قرش ونصف، والمثلجات من قرش ونصف إلى قرشين، وينحني (الجرسون) (للزبون) إذا منحه نصف قرش، ولا يفعل ذلك إلا الأعيان.
وفي مرحلة التعليم المتوسط، في أسيوط، كنت وبعض الزملاء المجاورين في المسكن نلتقي معاً على طعام الإفطار ـ المتواضع، وطعام السحور الأكثر تواضعاً، وكنا نقضي بعض يومي الخميس والجمعة في قرانا، ويعد كل منا بالكثير من الخير، وكان المجال في الليل أكثر اتساعاً. المساجد الكبرى عامرة، والحديقة العامة، والسينما، حلقات الحواة في الميادين، كنت أحرص على سماع مجلس العلم عصر كل يوم بمسجد الإمام السيوطي، وأصبحت معي كراسة وقلم رصاص لأدون ما يذكره الشيخ من أحاديث نبوية أو أقوال الصحابة، والحكم، وكانت هناك بعض السرادقات التي يتلى فيها القرآن من القراء المشهورين بالمنطقة، وكان أكثر ما كنت أحرص عليه، ختم القرآن الكريم أكثر من مرة.
إن لرمضان في القاهرة مذاقاً خاصاً، المساجد عامرة لبعض الساعات، والملاهي تسهر حتى ما بعد السحور، المقاهي و(الكازينوهات) غاصة بطلاب المتعة، وقد نجح التلفاز والإذاعة في إفساد شهر القرآن، وحولوه إلى شهر الفن بالمسلسلات والأغاني الهابطة، وبالنسبة ليº فإن هذا الشهر الكريم يتفوق على غيره من الشهور في مجال القراءة والكتابة.
وماذا عن ذكرياتي الرمضانية خلف الأسوار:
صمت رمضان في السجن الحربي عام 1955 م، كنا في زنازين، كل زنزانة ـ كانت معدة لواحد أيام الاحتلال البريطاني، وفي عهد (الحرية والاستقلال) أصبحت تضم سبعة أفراد، ولم تكن تسمح لنا أن نصلي في جماعة، ولم يسمح لنا بمغادرة الزنزانة إلا نصف ساعة في الفجر نقضي حاجتنا ونتوضأ ونغسل أطباقنا.
كان نصيب كل واحد ثلاثة أرغفة في اليوم، وقطعة صغيرة من اللحم، وأحياناً ثلاث وحدات من اليوسفندي الصغيرº إلا أن العساكر المكلفين بالتوزيع كانوا (أمناء للغاية) فكنا نحصل نحن السبعة على أقل من ثلثي الكمية المقررة، وكان للشاويش شحاتة أحد الإخوة معتقلاً، وكان زميلاً للعساكر، وكان مسئولاً عن مخزن الأغذية، وكان ينتهز فرصة انشغال العساكر باللهو، فيرد إلينا بعض ما أخذ منا، وكنا نضحك ونقول: هذه بضاعتنا ردت إلينا، ولم يشفع لنا رمضان في أن يخفف عنا، وعندما جيء إلينا بيهوديين متهمين بالتجسس، لم يطبق عليهما ما يطبق علينا، وقد تدخلت هيئة الصليب الحمر بشأنهما، ولم تتدخل بشأن ألوف المعتقلين من الإخوان..ولله في خلقه شئون!
وصمت خلف الأسوار في معتقل (مزرعة طرة) ست سنين، في السابع من يونيو سنة 1965 م أودعت قسم شرطة المعادي أسبوعاً، ثم تقرر إحالتي إلى المعتقل، وفي مدخل المعتقل وقفنا كأسرى، أبصرت الضابط الجالس على كرسي ـ في زهو وخيلاء، وفي يده جريدة الأهرام، وفي الصفحة الأولى تصريح للإمام الأكبر الشيخ حسن مأمون يقول: "إن جمال عبد الناصر أجرى الحرية أنهاراً، لا في مصر وحدها بل في البلاد العربية كلها" طوى الضابط الجريدة، ونهض يملي علينا تعليماته، أهمها: "من كان معه مصحف فليخرجه بالتي هي أحسن" وجمعت المصاحف وأودعت المخزن.
الغرفة معدة لاستقبال ثلاثين، وحشرنا فيها ونحن حوالي 125 بشراً، ولم يكن يسمح لنا في بادئ الأمرº إلا بنصف ساعة قبيل إشراقة الصباح، نصحنا شاويش طيب بأن لا نجهر بصلاة الجماعة لأن هذا ليس في مصلحتنا، ونجحنا في رشوة أمين المخزن لنحصل على مصحف، وكنا نخبئه إذا فوجئنا بالتفتيش، سمح لنا بكتابة الرسائل الخاضعة للمراقبة ثم سمح لنا بقراءة الصحف، وكان راديو المعتقل دائب الإرسال، ولم يكن لشهر رمضان أي امتياز.كان يقدم إلينا طعام يتنافس في الرداءة، كنا نلقي بقطع اللحم للقطط فتشمها ثم تنصرف عنها..
وحدث تطور بعد النكسة في الخامس من يونيو عام 1967م. و جاء التخفيف نتيجة لاعتقال اليهود المصريين، وتدخل الصليب الأحمر بشأنهم/ وبدأت الزيارات الشهرية، وأصبح بالمعتقل (كانتين) لشراء ما نحتاج إليه من طعام وشراب، وبعد رحيل عبد الناصر في 28 سبتمبر أصبح المعتقل مفتوحاً، لا غلق للأبواب، ومارس الحرفيون حرفهم من الترزية والنجارين وغيرهم.
كانت لأيام رمضان خلف الأسوار مذاقاً خاصاً، كنا نعتبر أنفسنا في ضيافة الله، لقد ألقي بنا خلف الأسوار بتهمة الانتماء إلى الدعوة الإسلامية، والصائم من ناحية أخرى هو في ضيافة الله - عز وجل -، كما في الحديث القدسي: "كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي، وأنا أجزي به" إذن فنحن في ضيافة مضاعفة.
كنت أركز جزءا من اليوم الرمضاني في تلاوة القرآن، ثم كتابة خواطر لا تحاج إلى مراجع، طبع منها (الشهيدة) قصة واقعية سمعتها من زوج البطلة الشهيدة، التي انتهت حياتها بسبب مطاردة أجهزة الأمن لها، ومساومتها على شرفها مقابل الإفراج عنه، بل إن أيام رمضان على مدى الأعوام الستة دراسة وافية عن مفردات القرآن الكريم، وفي طريقه إلى المطبعة إن شاء الله، عنوان الدراسة "مفردات القرآن الكريم: زاد المسافر والمقيم".
كان الإمام ابن تيمية يرى:"من كان في طلب السلطان فهو في سفر" وهذا المبدأ لا ينطبق إلا على المعتقلين، وهذا صحيح، ولكن ما هو أهم أن كنا لا نبالي بذلك، وحسبنا أن كنا جميعاً في ضيافة الله!
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد