إرسال المرسلين بلسان أقوامهم:
أرسل الله أنبياءه ورسله باللسان الذي يتكلم به المرسل إليهم، حتى يعرفوا خطابه ومراده منه، ولئلا يتعللوا بعدم الفهم له، فكان الإرسال بهذه الطريقة سدًا لذريعة تكذيبهم بحجة عدم الفهم عنهم. قال - تعالى -: \"وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم فيضل الله من يشاء ويهدي من يشاء وهو العزيز الحكيم\" [إبراهيم: 4].
واختص الله نبينا محمدًا - صلى الله عليه وسلم - بإرساله إلى الناس كافة من العرب والعجم، كما هو مرسل إلى الجن أيضًا، ولا حجة لغير العرب في ذلك، لأن الله قيض لدينه من ينشره إلى غير العرب بلسانهم وأقيمت الحجة عليهم بذلك.
قال القرطبي: «وما أرسلنا من رسول» أي قبلك يا محمد «إلا بلسان قومه» أي بلغتهم، ليبين لهم أمر دينهم، ولا حجة للعجم وغيرهم في هذه الآية، لأن كل من ترجم له ما جاء به النبي - صلى الله عليه وسلم - ترجمة يفهمها لزمته الحجة، وقد قال الله - تعالى -: \"وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا\" (الجامع لأحكام القرآن 5/3569).
وقال ابن تيمية: وأما كون القرآن أنزل باللسان العربي وحده فعنه أجوبة: أحدها: أن يقال: والتوراة إنما أنزلت باللسان العبري وحده، وكذلك سائر الكتب لا ينزلها الله إلا بلسان واحد، بلسان الذي أنزلت عليه، ولسان قومه الذين يخاطبهم أولاً، وسائر الأنبياء إنما يخاطبون الناس بلسان قومهم الذي يعرفونه أولاً، ثم بعد ذلك تبلغ الكتب وكلام الأنبياء لسائر الأمم، إما أن يترجم لمن لا يعرف لسان ذلك الكتاب، وإما بأن يتعلم الناس لسان ذلك الكتاب فيعرفون معانيه. [الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح 1/189]
وقال ابن كثير: وهذا من لطفه - تعالى -بخلقه: أنه يرسل إليهم رسلاً منهم بلغاتهم ليفهموا عنهم ما يريدون وما أرسلوا به إليهم، كما قال الإمام أحمد: حدثنا وكيع، عن عمر بن ذر قال: قال مجاهد: عن أبي ذر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لم يبعث الله نبيًا إلا بلغة قومه»، وقد كانت هذه سنة الله في خلقه: أنه ما بعث نبيًا في أمة إلا أن يكون بلغتهم، فاختص كل نبي بإبلاغ رسالته إلى أمته دون غيرهم، واختص محمد بن عبد الله رسول الله بعموم الرسالة إلى سائر الناس. [تفسير ابن كثير 3/297].
وقال القاسمي في تفسيره: فإن قلت: لم يبعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى العرب وحدهم، وإنما بعث إلى الناس جميعًا، \"قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا\" [الأعراف: 158]، بل إلى الثقلين وهم على ألسنة مختلفة. قلت: لا يخلوا إما أن ينزل بجميع الألسنة أو بواحد منها، فلا حاجة إلى نزوله بجميع الألسنة، لأن الترجمة تنوب عن ذلك وتكفي التطويل، فبقي أن ينزل بلسان واحد، فكان أولى الألسنة لسان قوم الرسول - صلى الله عليه وسلم -º لأنهم أقرب إليه، فإذا فهموا عنه وتبينوه وتنوقل عنهم وانتشر، قامت التراجم ببيانه وتفهمه، كما ترى الحال وتشاهد من نيابة التراجم في كل أمة من أمم العجم. [محاسن التأويل 10/3706، 3707].
وفي صحيح مسلم عن جابر بن عبد الله الأنصاري - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أعطيت خمسًا لم يعطهن أحد قبلي». وذكر منها: «وبعثت إلى كل أحمر وأسود».
قال النووي في شرحه: قيل: المراد بالأحمر: البيض من العجم وغيرهم، وقيل: المراد بالأسود: السودان، وبالأحمر: من عداهم من العرب وغيرهم، قيل: الأحمر الإنس، والأسود الجن، والجميع صحيح، فقد بعث إلى جميعهم. [شرح النووي على مسلم 5/5].
نهي المؤمنين عن مخاطبة النبي - صلى الله عليه وسلم - بلفظ «راعنا»:
كان المؤمنون يقولون كلمة: «راعنا» للنبي - صلى الله عليه وسلم - ويقصدون بها معنى صحيحًا وهو: راعنا سمعك، أي اسمع لنا ما نريد أن نسأل عنه، ونراجعك فيه القول لنفهمه عنك، ولكن اليهود كانوا يقولونها ويقصدون بها الحط من مقام النبي - صلى الله عليه وسلم -، فكانوا يقولون: «راعنا» من المراعاة، وهي تقتضي المشاركة في الرعاية، أي: ارعنا نرعك، وفي خطاب النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك من سوء الأدب ما هو ظاهر، أو أنهم كانوا يُميلون ألسنتهم في نطق هذه الكلمة لتؤدي معنى آخر مشتقًا من الرعونة فنهاهم الله - عز وجل - أن يقولوا لنبيه - صلى الله عليه وسلم - هذه الكلمة سدًا لذريعة الانتقاص من قدره - صلى الله عليه وسلم -، وأمرهم أن يتخيروا من الألفاظ أحسنها ومن المعاني أفضلها.
قال ابن تيمية: إنه - سبحانه - منع المسلمين من أن يقولوا للنبي - صلى الله عليه وسلم -: «راعنا» مع قصدهم الصالح لئلا يتخذه اليهود ذريعة إلى سبه - صلى الله عليه وسلم -، ولئلا يتشبه بهم، ولئلا يخاطب بلفظ يحتمل معنى فاسدًا. [مجموع الفتاوى الكبرى 3/144].
وقال ابن كثير: نهى الله - تعالى -المؤمنين أن يتشبهوا بالكافرين في مقالهم وفعالهم، وذلك أن اليهود كانوا يُعانون من الكلام ما فيه تورية لما يقصدونه من التنقص - عليهم لعائن الله -، فإذا أرادوا أن يقولوا: اسمع لنا يقولون: راعنا، يُوَرٌّون بالرعونة، كما قال - تعالى -: \"من الذين هادوا يحرفون الكلم عن مواضعه ويقولون سمعنا وعصينا واسمع غير مسمع وراعنا ليا بألسنتهم وطعنا في الدين\" [النساء: 46]، وكذلك جاءت الأحاديث بالأخبار عنهم بأنهم كانوا إذا سلموا إنما يقولون: «السام عليكم» والسام هو: الموت، ولهذا أمرنا أن نرد عليهم بـ «وعليكم»، فإنه يستجاب لنا فيهم ولا يستجاب لهم فينا». [تفسير ابن كثير 1/213].
وقال الشيخ عبد الرحمن السعدي: «كان المسلمون يقولون حين خطابهم للنبي - صلى الله عليه وسلم - عند تعلمهم أمر الدين: (راعنا)، أي: ارع أحوالنا، فيقصدون بها معنى صحيحًا، وكان اليهود يريدون بها معنى فاسدًا، فانتهزوا الفرصة فصاروا يخاطبون الرسول - صلى الله عليه وسلم - بذلك، ويقصدون المعنى الفاسد، فنهى الله المؤمنين عن هذه الكلمة، سدًا لهذا الباب، ففيه النهي عن الجائز إذا كان وسيلة إلى محرم» [تيسير الكريم الرحمن 1/120].
وبالله - تعالى -التوفيق.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد