عصمة الله لنبيه صلى الله عليه وسلم


  

بسم الله الرحمن الرحيم

عن أبي هريرة: قال أبو جهل هل يعفّر محمد وجهه بين أظهركم؟ قالوا: نعم، قال: واللآت والعزى لئن رأيته يفعل ذلك لأطأن على رقبته أو لأعفّرن وجهه في التراب، قال: فأتى رسول الله – صلى الله عليه وسلم - وهو يصلي زعم ليطأ على رقبته، فما فجأهم إلا وهو ينكص على عقبيه ويتقي بيديه، فقيل له: مالك؟ قال: إن بيني وبينه لخندقا من نار، وهولا وأجنحة، فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ((لو دنا مني لاختطفته الملائكة عضوا عضوا، فأنزل الله: كلا إن الإنسان ليطغى..إلى قوله - تعالى -: كلا لا تطعه واسجد واقترب)).

 

في هذا الحديث معجزة من معجزاته، وهي عصمة الله - تعالى -له من أعدائه، وهم الجم الغفير، والعدد الكثير، وهم على أتم حنق عليه، وأشد طلب لنفسه، وهو بينهم مسترسل قاهر، ولهم مخالط، ومكاثر، ترمقه أبصارهم شزرا، وترتد عنه أيديهم ذعرا، وقد هاجر عنه أصحابه حذرا، حتى استكمل مدّته فيهم ثلاث عشرة سنة، ثم خرج عنهم سليما لم يكلم في نفس ولا جسد، وما كان ذلك إلا بعصمة إلهية، وعده الله بها، فحققها له، حيث قال - سبحانه -: ( يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس ) [المائدة: 67].

 

ولقد تجلّت عصمة الله - تعالى - لنبيه في وقائع متعددة، منها:

عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: لما نزلت: تبت يدا أبي لهب وتب جاءت امرأة أبي لهب ورسول الله – صلى الله عليه وسلم -جالس ومعه أبو بكر، فقال له أبو بكر: لو تنحّيت! لا تؤذيك بشيء. فقال: ((إنه سيحال بيني وبينها))، فأقبلت حتى وقفت على أبي بكر فقالت: يا أبا بكر هجانا صاحبك! فقال أبو بكر: لا ورب هذه البنية ما ينطق بالشعر ولا يتفوّه به. فقالت: إنك لمصدق، فلما ولّت قال أبو بكر: ما رأتك؟ قال: ((لا، ما زال ملك يسترني حتى ولّت)).

 

وحدث أن قريشا استغاثت بمعمر بن يزيد وكان أشجع قومه، وكانت بنو كنانة تصدر عن رأيه وتطيع أمره فقال لهم: إني قادم إلى ثلاث وأريحكم منه، وعندي عشرون ألف مدجّج، فلا أرى هذا الحي من بني هاشم يقدر على حربي، وإن سألوني الدية أعطيتهم عشر ديات، ففي مالي سعة. وكان يتقلد بسيف طوله سبعة أشبار في عرض شبر، وقصته في العرب مشهورة بالشجاعة والبأس، فلبس يوم وعده قريشا سلاحه، وظاهر بين درعين، فوافقهم بالحطيم، ورسول الله – صلى الله عليه وسلم -في الحجر يصلي وقد عرف ذلك فما التفت ولا تزعزع، ولا قصر في الصلاة.

 

فقيل له: هذا محمد ساجد، فأهوى إليه وقد سلّ سيفه، وأقبل نحوه، فلما دنا منه رمى بسيفه وعاد، فلما صار إلى ربا الصفا عثر في درعه فسقط، فقام وقد أدمي وجهه بالحجارة يعدو كأشد العدو حتى بلغ البطحاء ما يلتفت إلى خلف، فاجتمعوا وغسلوا عن وجهه الدم وقالوا: ماذا أصابك؟ قال: إني لما دنوت من محمد – صلى الله عليه وسلم -فأردت أن أهوي بسيفي إليه أهوى إلي من عند رأسه شجاعان أقرعان ينفخان بالنيران، وتلمح أبصارهم، فغدوت، فما كنت لأعود في شيء من مساءة محمد – صلى الله عليه وسلم -.

 

ولما أصرّت قريش على قتل رسول الله– صلى الله عليه وسلم -، وأجمعوا أمرهم على أن يبيت أمام دار النبي – صلى الله عليه وسلم -أربعون شابا جلدا من شباب قريش، معهم السيوف فإذا خرج ضربوه ضربة رجل واحد، وأمره الله بالهجرة، فخرج من بينهم ليلا وأعمى الله أبصارهم فلم يشعروا به، فانطلق ومعه أبو بكر حتى دخلا الغار. ولما أصبحت قريش ورأت أن النبي – صلى الله عليه وسلم - قد فاتهم تتبعوا الآثار في الرمال حتى انتهوا إلى باب الغار فوقفوا عليه، فقال أبو بكر: يا رسول الله – صلى الله عليه وسلم -! لو أن أحدهم نظر إلى قدميه لأبصرنا! فقال: ((يا أبا بكر! ما ظنك باثنين الله ثالثهما))، وفي ذلك يقول الله - تعالى -: ( إلا تنصروه فقد نصره الله إذا أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا والله عزيز حكيم ) [التوبة: 40].

 

وهكذا حفظ الله رسوله– صلى الله عليه وسلم -، وردّ الذين كفروا بغيظهم، ولكنهم لم ييأسوا، فجعلوا لمن يأتي برسول الله حيا أو ميتا مائة من الإبل، فخرج الفرسان يطلبون رسول الله، وكان منهم سراقة بن مالك، فلما رآه أبو بكر قال: يا رسول الله هذا سراقة قد قرب، فقال رسول الله: ((اللهم اكفنا سراقة))، فأخذت الأرض قوائم فرسه إلى إبطها، فقال سراقة: يا محمد! ادع الله أن يطلقني ولك علي أن أردّ من جاء يطلبك ولا أدل عليك، فقال رسول الله: ((اللهم إن كان صادقا فأطلق فرسه)) فأطلقه الله، فرجع، ثم أسلم بعد ذلك وحسن إسلامه.

 

ولما كانت بدر، ورجعت قريش تجر أذيال الهزيمة جلس عمير بن وهب الجمحي مع صفوان بن أمية في الحجر، وكان عمير بن وهب شيطانا من شياطين قريش، وممن كان يؤذي رسول الله وأصحابه ويلقون منه عناء وهو بمكة. وكان ابنه وهب في أسرى بدر، فذكر أصحاب القليب ومصابهم، فقال صفوان: والله إن في العيش بعدهم خير، فقال له عمير: صدقت والله، أما والله لولا دين علي ليس له عندي قضاء، وعيال أخشى عليهم الضيعة بعدي، لركبت إلى محمد حتى أقتله، فإن لي فيهم علة، ابني أسير بأيديهم، فاغتنمها صفوان فقال: علي دينك أقضيه عنك، وعيالك مع عيالي أواسيهم ما بقوا، لا يسعني شيء ويعجز عنهم، فقال له عمير: فاكتم شأني وشأنك، قال: أفعل.

 

فأمر عمير بسيفه فشحذ له وسُمّ، ثم انطلق حتى قدم المدينة، فبينما عمر في نفر من المسلمين يتحدثون عن يوم بدر، ويذكرون ما أكرمهم الله به، إذ نظر عمر إلى عمير حين أناخ على باب المسجد متوشحا سيفه. فقال: هذا الكلب عدو الله عمير، والله ما جاء إلا لشر، وهو الذي حرّش بيننا وحزرنا للقوم يوم بدر. ثم دخل عمر على رسول الله فقال: يا نبي الله هذا عدو الله عمير قد جاء متوشحا سيفه، قال: ((فأدخله علي)). فأقبل عمر حتى أخذ بمحالة سيفه في عنقه فلببه بها وقال لرجال ممن كانوا معه من الأنصار: ادخلوا على رسول الله فاجلسوا عنده، واحذروا عليه من هذا الخبيث، فإنه غير مأمون. ثم دخل به عمر على رسول الله، فلما رآه وعمر أخذ بحمالة سيفه في عنقه قال: ((أرسله يا عمر، ادن يا عمير!)) فدنا ثم قال: أنعموا صباحا، وكانت تحية أهل الجاهلية بينهم، فقال رسول الله: ((قد أكرمنا الله بتحية خير من تحيتك يا عمير، بالسلام، تحية أهل الجنة))، فقال: أما والله يا محمد إن كنت لحديث عهد به. قال: ((فما جاء بك يا عمير؟)) قال: جئت لهذا الأسير الذي في أيديكم فأحسنوا إليه، قال: ((فما بال السيف في عنقك؟)) قال: قبّحها الله من سيوف وهل أغنت عنا شيئا، قال: ((اصدقني، ما الذي جئت له؟)) قال: ما جئت إلا لذلك، قال: ((بل قعدت أنت وصفوان بن أمية في الحجر فقلت: أما والله لولا دين علي ليس له عندي قضاء، وعيال أخشى عليهم الضيعة بعدي لركبت إلى محمد حتى أقتله. فقال لك صفوان: علي دينك أنا أقضيه عنك، وعيالك مع عيالي أواسيهم ما بقوا، لا يسعني شيء ويعجز عنهم))، فقال عمير: أشهد أنك رسول الله، قد كنا يا رسول الله نكذبك بما كنت تأتينا به من خبر السماء، وما ينزل عليك من الوحي، وهذا أمر لم يحضره إلا أنا وصفوان، فوالله إني لأعلم ما أتاك به إلا الله، فالحمد لله الذي هداني للإسلام وساقني هذا المساق، ثم شهد شهادة الحق، فقال رسول الله: ((فقّهوا أخاكم في دينه، وأقرؤه القرآن، وأطلقوا له أسيره، ففعلوا)).

 

ولما قدم رسول الله المدينة كان يخاف على نفسه الغيلة، فاتخذ حرسا حتى أنزل الله عليه: (يا أيها الرسول بلّغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلّغت رسالته والله يعصمك من الناس ) [المائدة: 67].

أي: يا أيها الرسول بلّغ أنت رسالتي، وأنا حافظك وناصرك ومؤيدك على أعدائك ومظفرك بهم، فلا تخف ولا تحزن، فلن يصل إليك أحد منهم بسوء.

 

عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: سهر النبي ذات ليلة مقدمه المدينة فقلت: ما شأنك؟ قال: ((ليت رجلا صالحا من أصحابي يحرسني الليلة)). قالت: فبينما نحن كذلك سمعنا خشخشة سلاح، فقال: ((من هذا؟)) قال: سعد بن مالك. قال: ((ما جاء بك؟)) قال: جئت أحرسك يا رسول الله، قالت: فسمعت غطيط رسول الله، فلما نزلت الآية قال: ((يا أيها الناس انصرفوا فقد عصمني الله)).

ولما كان يوم أحد وتنازع المسلمون وعصوا الله ورسوله، وسلط الله عليهم المشركين انصرفوا عن رسول الله فعصمه الله: عن سعد بن أبي وقاص قال: ((رأيت يوم أحد عن يمين رسول الله وعن شماله رجلين عليهما ثياب بيض، يقاتلان دون رسول الله أشد القتال، ما رأيتهما قبل ولا بعد يعني جبريل وميكائيل)).

 

وعن جابر بن عبد الله قال: غزونا مع رسول الله غزاة قبل نجد، فأدركنا رسول الله في القائلة في واد كثير العضاة، فنزل تحت شجرة فعلق سيفه بغصن من أغصانها، وتفرق الناس في الوادي يستظلون بالشجر، فنادى رسول الله في الناس فقال: ((إن رجلا أتاني وأنا نائم فأخذ السيف فاستيقظت وهو قائم على رأسي والسيف صلتاً في يده، فقال: من يمنعك مني؟ قلت: الله، قال: من يمنعك مني؟ قلت: الله، قال: فشام السيف، فها هو ذا جالس، ثم لم يعرض له رسول الله. وكان ملك قومه، فانصرف حين عفا عنه فقال: لا أكون في قوم هم حرب لك)).

وحدث أن قتل رجل من المسلمين رجلين مشركين من بني عامر، معهما عقد وعهد من رسول الله لم يشعر به، فأخبر رسول الله فقال: ((لقد قتلت قتيلين لأديهما)).

 

فخرج إلى بني النضير يستعينهم في ديتهما، وكان بين بني النضير وبني عامر عقد وحلف، فلما أتاهم يستيعنهم قالوا: نعم نعينك، ثم خلا بعضهم ببعض فقالوا: إنكم لن تجدوا الرجل على مثل هذه الحال، وكان النبي جالسا على جانب جدار لهم، فقالوا: من رجل يعلو على هذا البنيان فيلقي هذه الصخرة عليه فيقتله ويريحنا منه؟ فانبعث لذلك أشقاهم عمرو بن كعب، فأتاه الخبر من السماء، فقام مظهرا أنه يقضي حاجة، وقال لأصحابه: لا تبرحوا، ورجع مسرعا إلى المدينة. واستبطأه أصحابه فأخبروا أنه توجه إلى المدينة فلحقوا به، فأخبرهم بأمرهم، وأمر بحربهم والمسير إليهم.

 

وعن جابر: أن يهودية من أهل خيبر سمّت شاة مصلية، ثم أهدتها لرسول الله، فأخذ رسول الله الذراع، فأكل منها وأكل رهط من أصحابه معه، فقال رسول الله: ((ارفعوا أيديكم))، وأرسل إلى اليهودية فدعاها فقال: ((سممت الشاة؟)) قالت: من أخبرك؟ قال: ((أخبرتني هذه في يدي)) للذراع. قالت: نعم، قلت: إن كان نبياً فلن تضرّه، وإن لم يكن نبيا استرحنا منه، فعفا عنها رسول الله ولم يعاقبها)).

 

ولما فتح النبي مكة وطاف بالبيت، جاء رجل من المشركين يسمى فضالة بن عمير يريد قتل النبي وهو يطوف، فلما دنا منه قال: ((أفضالة؟)) قال: نعم فضالة يا رسول الله! قال: ((ماذا كنت تحدث به نفسك؟)) قال: لا شيء، كنت أذكر الله، قال: ((فضحك رسول الله ثم قال: استغفر الله، ثم وضع يده على صدره فسكن قلبه، فكان فضالة يقول:والله ما رفع يده عن صدري حتى ما من خلق الله شيء أحب إلي منه)).

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply