فوائد ودروس وعبر من هجرة سيد البشر


 

بسم الله الرحمن الرحيم

1 ـ الهجرة من سنن الرسل الكرام:

إن الهجرة في سبيل الله سنة قديمة، ولم تكن هجرة نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - بدعاً في حياة الرسل لنصرة عقائدهم، فلئن كان قد هاجر من وطنه ومسقط رأسه من أجل الدعوة حفاظاً عليها وإيجاد بيئة خصبة تتقبلها وتستجيب لها وتذود عنها، فقد هاجر عدد من إخوانه من الأنبياء قبله من أوطانهم لنفس الأسباب التي دعت نبينا للهجرة.

 

وذلك أن بقاء الدعوة في أرض قاحلة لا يخدمها بل يعوق مسارها ويشل حركتها، وقد يعرضها للانكماش داخل أضيق الدوائر، وقد قص علينا القرآن الكريم نماذج من هجرات الرسل وأتباعهم من الأمم الماضية لتبدو لنا في وضوح سنة من سنن الله في شأن الدعوات يأخذ بها كل مؤمن من بعدهم إذا حيل بينه وبين إيمانه وعزته، واستخف بكيانه ووجوده واعتدي على مروءته وكرامته(1).

 

 2 ـ الصراع بين الحق والباطل صراع قديم وممتد:

 

وهو سنة إلهية نافذة، قال - عز وجل -: (الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله ولوا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيراً ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز ) (سورة الحج، الآية: 40).

ولكن هذا الصراع معلوم العاقبة: ( كتب الله لأغلبن أنا ورسلي إن الله قوي عزيز ) (المجادلة: الآية21).

 

 3ـ مكر خصوم الدعوة بالداعية أمر مستمر متكرر، سواء عن طريق الحبس أو القتل أو النفي والإخراج من الأرض، وعلى الداعية أن يلجأ إلى ربه وأن يثق به ويتوكل عليه ويعلم أن المكر السيء لا يحيق إلا بأهله(2)، كما قال - عز وجل -: (وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين) (سورة الأنفال: الآية 30).

ومن مكر أهل الباطل وخصوم الدعوة استخدام سلاح المال لإغراء النفوس الضعيفة للقضاء على الدعوة والدعاة ولذلك رصدوا مائة ناقة لمن يأتي بأحد المهاجرين حياً أو ميتاً، فتحرك الطامعون ومنهم سراقة، الذي عاد بعد هذه المغامرة الخاسرة مادياً بأوفر ربح وأطيب رزق، وهو رزق الإيمان، وأخذ يعمي الطريق على الطامعين الآخرين الذين اجتهدوا في الطلب، وهكذا يرد الله عن أوليائه والدعاة(3)، قال - تعالى -: ( إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة ثم يغلبون والذين كفروا إلى جهنم يحشرون ) (الأنفال: الآية 36).

 

4ـ الإيمان بالمعجزات الحسية:

وفي هجرة النبي - صلى الله عليه وسلم - وقعت معجزات حسية، وهي دلائل ملموسة على حفظ الله ورعايته لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ومن ذلك ـ على ما روي ـ نسيج العنكبوت على فم الغار، ومنها ما جرى لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع أم معبد، وما جرى له مع سراقة، ووعده إياه بأن يلبس سواري كسرى، فعلى الدعاة أن لا يتنصلوا من هذه الخوارق، بل يذكروها ما دامت ثابتة بالسنة النبوية، على أن ينبهوا الناس على أن هذه الخوارق هي من جملة دلائل نبوته ورسالته - عليه السلام -(4).

 

 5 ـ جواز الاستعانة بالكافر المأمون:

 

ويجوز للدعاة أن يستعينوا بمن لا يؤمن بدعوتهم ما داموا يثقون بهم ويأتمنوهم على ما يستعينون به معهم، فقد رأينا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبا بكر استأجرا مشركاً ليدلهم على طريق الهجرة ودفعا إليه راحلتيهما وواعداه عند غار ثور، وهذه أمور خطيرة أطلعاه عليها، ولا شك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وصاحبه وثقا به وأمناه، مما يدل على أن الكافر أو العاصي أو غير المنتسب إلى الدعاة قد يوجد عند هؤلاء ما يستدعي وثوق الدعاة بهم، كأن تربطهم رابطة القرابة أو المعرفة القديمة أو الجوار أو عمل معروف كان قد قدمه الداعية لهم. أو لأن هؤلاء عندهم نوع جيد من الأخلاق الأساسية مثل الأمانة وحب عمل الخير إلى غير ذلك من الأسباب، والمسألة تقديرية يترك تقديرها إلى فطنة الداعي ومعرفته بالشخص(5).

 

 6 ـ دور المرأة في الهجرة:

 

وقد لمعت في سماء الهجرة أسماء كثيرة كان لها فضل كبير ونصيب وافر من الجهاد: منها عائشة بنت أبي بكر الصديق التي حفظت لنا القصة ووعتها وبلغتها للأمة، وأم سلمة المهاجرة الصبور، وأسماء ذات النطاقين(6) التي ساهمت في تموين الرسول - صلى الله عليه وسلم - وصاحبه في الغار بالماء والغذاء، وكيف تحملت الأذى في سبيل الله؟ فقد حدثتنا عن ذلك فقالت: لما خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر - رضي الله عنه - أتانا نفر من قريش، فيهم أبو جهل بن هشام، فوقفوا على باب أبي بكر، فخرجت إليهم فقالوا: أين أبوك يا بنت أبي بكر؟ قالت: قلت: لا أدري والله أين أبي؟ قالت: فرفع أبو جهل يده ـ وكان فاحشاً خبيثاً ـ فلطم خدي لطمة طرح منها قرطي قالت: ثم انصرفوا)(7).

 

فهذا درس من أسماء - رضي الله عنها - تعلمه لنساء المسلمين جيلاً بعد جيل كيف تخفي أسرار المسلمين من الأعداء، وكيف تقف صامدة شامخة أمام قوى البغي والظلم؟ وأما درسها الثاني البليغ، فعندما دخل عليها جدها أبو قحافة، وقد ذهب بصره، فقال: والله إني لأراه قد فجعكم بماله مع نفسه، قالت: كلا يا أبت، ضع يدك على هذا المال. قالت: فوضع يده عليه، فقال: لا بأس، إذا كان ترك لكم هذا فقد أحسن، وفي هذا بلاغ لكم. ولا والله ما ترك لنا شيئاً، ولكني أردت أن أسكن الشيخ بذلك)(8).

 

وبهذه الفطنة والحكمة سترت أسماء أباها، وسكنت قلب جدها الضرير، من غير أن تكذب، فإن أباها قد ترك لهم حقاً هذه الأحجار التي كومتها لتطمئن لها نفس الشيخ! إلا أنه قد ترك لهم معها إيماناً بالله لا تزلزله الجبال، ولا تحركه العواصف الهوج، ولا يتأثر بقلة أو كثرة في المال، وورثهم يقيناً وثقه به لا حد لها، وغرس فيهم همة تتعلق بمعالي الأمور، ولا تلتفت إلى سفاسفها، فضرب بهم للبيت المسلم مثالاً عز أن يتكرر، وقل أن يوجد نظيره.

لقد ضربت أسماء - رضي الله عنها - بهذه المواقف لنساء وبنات المسلمين مثلاً هن من أمس الحاجة إلى الإقتداء به، والنسج على منواله.

 

وظلت أسماء مع إخوتها في مكة، لا تشكو ضيقاً، ولا تظهر حاجة، حتى بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - زيد بن حارثة وأبا رافع مولاه، وأعطاهما بعيرين وخمسمائة درهم إلى مكة فقدما عليه بفاطمة وأم كلثوم ابنتيه، وسودة بنت زمعة زوجه، وأسامة بن زيد، وأم بركة المكناة بأم أيمن، وخرج معهما عبد الله بن أبي بكر بعيال أبي بكر، فيهم عائشة وأسماء، فقدموا المدينة، فأنزلهم في بيت حارثة بن النعمان(9).

 

 7 ـ أد الأمانة إلى من ائتمنك كانت أمانات المشركين عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:

وفي إيداع المشركين ودائعهم عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع محاربتهم له وتصميمهم على قتله دليل باهر على تناقضهم العجيب الذي كانوا واقعين فيه، ففي الوقت الذي كانوا يكذبونه ويزعمون أنه ساحر أو مجنون أو كذاب لم يكونوا يجدون فيمن حولهم من هو خير منه أمانة وصدقاً، فكانوا لا يضعون حوائجهم ولا أموالهم التي يخافون عليها إلا عنده! وهذا يدل على أن كفرانهم لم يكن بسبب الشك لديهم في صدقه، وإنما بسبب تكبرهم واستعلائهم على الحق الذي جاء به، وخوفاً على زعامتهم وطغيانهم(10)، وصدق الله العظيم: ( قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون ) (سورة الأنعام: الآية33).

 

وفي أمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - لعلي - رضي الله عنه - بتأدية هذه الأمانات لأصحابها في مكة، رغم هذه الظروف الشديدة التي كان من المفروض أن يكتنفها الاضطراب، بحيث لا يتجه التفكير إلا إلى إنجاح خطة هجرته فقط، رغم ذلك فإن الرسول - صلى الله عليه وسلم - ما كان لينسى أو ينشغل عن رد الأمانات إلى أهلها، حتى ولو كان في أصعب الظروف التي تنسي الإنسان نفسه فضلاً

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply