عرف النبي - صلى الله عليه وسلم - معرفة اليقين أنه أصبح نبيا لله الرحيم الكريم، وجاء جبريل - عليه السلام - للمرة الثانية، وأنزل الله على نبيه قوله - تعالى -: (يَا أَيٌّهَا المُدَّثِّرُ ` قُم فَأَنذِر ` وَرَبَّكَ فَكَبِّر ` وَثِيَابَكَ فَطَهِّر) [المدثر: 1-4].
كانت هذه الآيات المتتابعة إيذانًا للرسول - صلى الله عليه وسلم - بأن الماضي قد انتهى بمنامه وهدوئه، وأنه أمامه عمل عظيم، يستدعي اليقظة والتشمير، والإنذار والإعذار، فليحمل الرسالة، وليوجه الناس، وليأنس بالوحي، وليقوَ على عنائه فإنه مصدر رسالته ومدد دعوته([1]).
وتعد هذه الآيات أول أمر بتبليغ الدعوة، والقيام بالتبعة، وقد أشارت هذه الآيات إلى أمور هي خلاصة الدعوة المحمدية، والحقائق الإسلامية التي بني عليها الإسلام كله، وهي الوحدانية، والإيمان باليوم الآخر، وتطهير النفوس، ودفع الفساد عن الجماعة، وجلب النفع([2]).
كانت هذه الآيات تهييجًا لعزيمة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لينهض بعبء ما كُلِّفه من تبليغ رسالات ربه، فيمضي قُدمًا بدعوته، لا يبالي العقبات والحواجز، كان هذا النداء المتلطف (يَا أَيٌّهَا المُدَّثِّرُ) إيذانا بشحذ العزائم، وتوديعًا لأوقات النوم والراحة، وجاء عقب هذا النداء الأمر الجازم بالنهوض (قُم) في عزيمة ناهضة وقوة حازمة، تتحرك في اتجاه تحقيق واجب التبليغ، وفي مجيء الأمر بالإنذار منفردًا عن التبشير في أول خطاب وجه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد فترة الوحي، إيذان بأن رسالته تعتمد على الكفاح الصبور، والجهاد المرير، ثم زادت الآيات في تقوية عزيمة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وشد أزره وحضه على المضي قدما إلى غاية ما أمر به، غير عابئ بما يعترض طريقه من عقبات مهما يكن شأنها فقيل له: (وَرَبَّكَ فَكَبِّر) أي: لا تعظم شيئا من أمور الخلق، ولا يتعاظمك منهم شيء، فلا تتهيب فعلا من أفعالهم، ولا تخشى أحدًا منهم، ولا تعظم إلا ربك الذي تعهدك وأنت في أصلاب الآباء وأرحام الأمهات، فرباك على موائد فضله، ورعاك بإحسانه وجوده، حتى أخرجك للناس نبيًّا ورسولاً، بعد أن أعدّك خَلقًا وخُلُقًا، لتحمل أمانة أعظم رسالاته، (وَرَبَّكَ فَكَبِّر) فكل تعظيم وتكبير وإجلال حق لله - تعالى -وحده، لا يشاركه فيه أحد، أو شيء من مخلوقاته([3]).
وفي قوله: (وَثِيَابَكَ فَطَهِّر) فكأنه قيل له - صلى الله عليه وسلم -: فأنت على طهرك وتطهرك بفطرتك في كمال إنسانيتك بما جبلك الله عليه من أكرم مكارم الأخلاق، وبما حباك به من نبوته ليعدَّك بها ليومك هذا، أحوج إلى أن تزداد في تطهرك النفسي، فتزداد من المكارم في حياتك مع الناس والأشياء، فأنت اليوم رسول الله إلى العالمين، وكمال الرسالة في كمال الخلق الاجتماعي، صبرًا، وحلمًا، وعفوًا، وإحسانًا ودُؤُوبًا على الجد في تبليغ الدعوة إلى الله - تعالى -، ولا يثنيك إيذاء، ولا يقعدك عن المضي إلى غايتك فادح البلاء([4]).
وفي قوله: (وَالرٌّجزَ فَاهجُر) فكأنه قيل له - صلى الله عليه وسلم -: ليكن قصدك ونيتك في تركك ما تركت، فطرة وطبعًا هَجرَه تكليفًا وتعبدًا لتكون قدوة أمتك، وعنوان تطهرها بهداية رسالتك([5]).
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد