المبحث الأول - نزول الوحي على سيد الخلق أجمعين - صلى الله عليه وسلم -
كان النبي - صلى الله عليه وسلم - قد بلغ الأربعين من عمره وكان يخلو في غار حراء بنفسه، ويتفكر في هذا الكون وخالقه، وكان تعبده في الغار يستغرق ليالي عديدة حتى إذا نفد الزاد عاد إلى بيته فتزود لليالٍ, أخرى، وفي نهار يوم الاثنين(1) من شهر رمضان جاءه جبريل بغتة لأول مرة داخل غار حراء(2)، وقد نقل البخاري في صحيحه حديث عائشة - رضي الله عنها -، فعن عائشة - رضي الله عنها - قالت:«أول ما بدئ به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فَلَق الصبح، ثم حبب إليه الخلاء، وكان يخلو بغار حراء، فيتحنث فيه وهو التعبد الليالي ذوات العدد، قبل أن ينزع إلى أهله ويتزود لذلك، ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها، حتى جاءه الحق وهو في غار حراء، فجاءه الملك فقال: اقرأ، قال: «ما أنا بقارئ» قال: فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني قال: اقرأ، فقلت: «ما أنا بقارئ» فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني فقال: اقرأ فقلت: «ما أنا بقارئ» فأخذني فغطني الثالثة ثم أرسلني فقال: (اقرَأ بِاسمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الإِنسَانَ مِن عَلَقٍ, اقرَأ وَرَبٌّكَ الأكرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالقَلَمِ) [العلق: 1: 4] فرجع بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يرجُف فؤاده، فدخل على خديجة بنت خويلد فقال: «زملوني! زملوني» فزملوه حتى ذهب عنه الرَّوع، فقال لخديجة وأخبرها الخبر: «لقد خشيت على نفسي» فقالت خديجة: كلا والله ما يخزيك الله أبدًا، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل(3) وتكسب المعدوم(4)، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق(5)، فانطلقت به خديجة، حتى أتت به ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى، ابن عم خديجة، وكان أمرأً تنصر في الجاهلية، وكان يكتب الكتاب العبراني، فيكتب الإنجيل بالعبرانية ما شاء الله أن يكتب، وكان شيخًا كبيرًا قد عمي، فقالت له خديجة: يا ابن عم اسمع من ابن أخيك، فقال له ورقة: يا ابن أخي ماذا ترى؟ فأخبره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خبر ما رأى: فقال له ورقة: هذا الناموس(6) الذي نزل الله على موسى، يا ليتني فيها جَذَعًا(7)، ليتني أكون حيا إذ يخرجك قومك، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أَوَمُخرِجِيّ هم؟ » قال: نعم، لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي، وإن يدركني يومك أنصرك نصرًا مؤزرًا(8)، ثم لم ينشب ورقة أن توفي، وفتر الوحي(9)»(10).
عندما نتأمل في حديث السيدة عائشة يمكن للباحث أن يستنتج قضايا مهمة تتعلق بسيرة الحبيب المصطفى - صلى الله عليه وسلم - ومن أهمها:
أولاً: الرؤيا الصالحة:
ففي حديث عائشة - رضي الله عنها - أن أول ما بدئ به محمد - صلى الله عليه وسلم - من الوحي الرؤيا الصالحة، وتسمى أحيانًا بالرؤيا الصادقة، والمراد بها هنا رؤى جميلة ينشرح لها الصدر وتزكو بها الروح(11) ولعل الحكمة من ابتداء الله - تعالى -رسوله - صلى الله عليه وسلم - بالوحي بالمنام، أنه لو لم يبتدئه بالرؤيا، وأتاه الملك فجأة ولم يسبق له أن رأى ملكًا من قبل، فقد يصيبه شيء من الفزع، فلا يستطيع أن يتلقى منه شيئا، لذلك اقتضت حكمة الله - تعالى -أن يأتيه الوحي أولا في المنام ليتدرب عليه ويعتاده(12) والرؤيا الصادقة الصالحة جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة كما ورد في الحديث الشريف(13) وقد قال العلماء: وكانت مدة الرؤيا الصالحة ستة أشهر، ذكره البيهقي، ولم ينزل عليه شيء من القرآن في النوم بل نزل كله يقظة.
والرؤيا الصالحة من البشرى في الحياة الدنيا فقد ورد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قوله: «أيها الناس، إنه لم يبق من مبشرات النبوة إلا الرؤيا الصالحة يراها المسلم أو تُرى له»(14).
فكان - صلى الله عليه وسلم - قبل نزول جبريل - عليه السلام - عليه بالوحي في غار حراء يرى الرؤى الجميلة فيصحو منشرح الصدر، متفتح النفس لكل ما في الحياة من جمال(15)، لقد أجمعت الروايات من حديث بدء الوحي أن أول ما بُدئ به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الوحي الرؤيا الصادقة الصالحة، يراها في النوم فتجيء في اليقظة كاملة، واضحة كما رآها في النوم، لا يغيب عليه منها شيء كأنما نقشت في قلبه وعقله، وقد شبهت السيدة عائشة رضي الله عنها- وهي من أفصح العرب- ظهور رؤيا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، إذا استيقظ بها من كمال وضوحها بظهور ضوء الصبح ينفلق عنه غبش الظلام، وهو تصوير بياني لا تنفلق دنيا العرب في ذرى فصاحتهم عن أبلغ منه(16).
ثانيًا: ثم حبب إليه الخلاء، فكان يخلو بغار حراء فيتحنث فيه:
وقبيل النبوة حبب إلى نفس النبي - صلى الله عليه وسلم - الخلوة، ليتفرغ قلبه وعقله وروحه إلى ما سيلقى إليه من أعلام النبوة، فاتخذ من غار حراء متعبدًا، لينقطع عن مشاغل الحياة ومخالطة الخلق، واستجماعًا لقواه الفكرية، ومشاعره الروحية، وإحساساته النفسية، ومداركه العقلية، تفرغًا لمناجاة مبدع الكون وخالق الوجود(17) والغار الذي كان يتردد عليه الحبيب المصطفى - صلى الله عليه وسلم - يبعث على التأمل والتفكر، تنظر إلى منتهى الطرف فلا ترى إلا جبالاً كأنها ساجدة متطامنة لعظمة الله، وإلا سماء صافية الأديم، وقد يرى من يكون فيه، مكة إذا كان حاد البصر(18).
كانت هذه الخلوة التي حببت إلى نفس النبي - صلى الله عليه وسلم - لونًا من الإعداد الخاص، وتصفية النفس من علائق المادية البشرية إلى جانب تعهده الخاص بالتربية الإلهية والتأديب الرباني في جميع أحواله، وكان تعبده - صلى الله عليه وسلم - قبل النبوة بالتفكر في بديع ملكوت السماوات، والنظر في آياته الكونية الدالة على بديع صنعه وعظيم قدرته، ومحكم تدبيره، وعظيم إبداعه(19).
وقد أخذ بعض أهل السلوك إلى الله من ذلك، فكرة الخلوة مع الذكر والعبادة في مرحلة من مراحل السلوك، لتنوير قلبه وإزالة ظلمته وإخراجه من غفلته وشهوته وهفوته، ومن سنن النبي - صلى الله عليه وسلم - سنة الاعتكاف في رمضان(20) وهي مهمة لكل مسلم سواء كان حاكمًا أو عالمًا، أو قائدًا، أو تاجرًا..لتنقية الشوائب التي تعلق بالنفوس والقلوب، ونصحح واقعنا على ضوء الكتاب والسنة، ونحاسب أنفسنا قبل أن نحاسب(21).
ويمكن لأهل فقه الدعوة أن يعطوا لأنفسهم فترة من الوقت للمراجعة الشاملة والتوبة، والتأمل في واقع الدعوة وما هي عليه من قوة أو ضعف واكتشاف عوامل الخلل، ومعرفة الواقع بتفاصيله، خيره وشره.
وفي قول السيدة عائشة: «فيتحنث الليالي ذوات العدد» يقول الشيخ محمد عبد الله دراز: «هذا كناية عن كون هذه الليالي لم تصل إلى نهاية القلة ولا إلى نهاية الكثرة، وما زال هذا الهدي الذي كان عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل البعثة من التوسط والاقتصاد في الأعمال، شعارًا للملة الإسلامية ورمزًا للهدي النبوي الكريم بعد أن أرسله الله رحمة للعالمين»(22).
ثالثـًا: حتى جاءه الحق وهو في غار حراء، فجاء المَلَك فقال: اقرأ.
قال: قلت: ما أنا بقارئ، فأخذني فغطني الثالثة ثم أرسلني فقال: (اقرَأ بِاسمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ` خَلَقَ الإِنسَانَ مِن عَلَقٍ, ` اقرَأ وَرَبٌّكَ الأكرَمُ ` الَّذِي عَلَّمَ بِالقَلَمِ) [العلق: 1-4].
لقد كانت هذه الآيات الكريمات المباركات أول شيء نزل من القرآن الكريم وفيها التنبيه على ابتداء خلق الإنسان من علقة، وإن من كرم الله - تعالى -أن علم الإنسان ما لم يعلم، فشرفه وكرمه بالعلم، وهو القدر الذي امتاز به آدم - عليه السلام - على الملائكة، والعلم تارة يكون في الأذهان، وتارة يكون في اللسان، وتارة يكون بالكتابة بالبنان(23) وبهذه الآيات كانت بداية نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - لقد كان هذا الحادث ضخمًا، لقد عبر عنه الشهيد سيد قطب - رحمه الله - في ظلاله فقال: «إنه حادث ضخم، ضخم جدًا، ضخم إلى غير حد، ومهما حاولنا اليوم أن نحيط بضخامته، فإن جوانب كثيرة منه ستظل خارج تصورنا!
إنه حادث ضخم بحقيقته، وضخم بدلالته، وضخم بآثاره في حياة البشرية جميعًا، وهذه اللحظة التي تم فيها هذا الحادث تعد بغير مبالغة هي أعظم لحظة مرت بهذه الأرض في تاريخها الطويل.
ما حقيقة هذا الحادث الذي تم في هذه اللحظة؟
حقيقته أن الله جل جلاله، العظيم الجبار القهار المتكبر، مالك الملك كله، قد تكرم في عليائه فأراد أن يرحم هذه الخليقة المسماة بالإنسان، القابعة في ركن من أركان الكون، لا يكاد يُرى اسمه الأرض، وكرَّم هذه الخليقة باختيار واحد منها ليكون ملتقى نوره الإلهي، ومستودع حكمته، ومهبط كلماته، وممثل قدره الذي يريده - سبحانه - بهذه الخليقة.. »(24).
كانت بداية الوحي الإلهي فيها إشادة بالقلم وخطره، والعلم ومنزلته، في بناء الشعوب والأمم وفيها إشارة واضحة بأن من أخص خصائص الإنسان العلم والمعرفة(25).
وفي هذا الحادث العظيم تظهر مكانة ومنزلة العلم في الإسلام، فأول كلمة في النبوة تصل إلى رسول الله هي الأمر بالقراءة (اقرَأ بِاسمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ) [العلق: 1].
وما زال الإسلام يحث على العلم ويأمر به ويرفع درجة أهله ويميزهم على غيرهم
قال - تعالى -: ( يَرفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُم وَالَّذِينَ أُوتُوا العِلمَ دَرَجَاتٍ, وَاللهُ بِمَا تَعمَلُونَ خَبِيرٌ) [المجادلة: 11] وقال - سبحانه - ( قُل هَل يَستَوِي الَّذِينَ يَعلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الألبَابِ) [الزمر: 9].
إن مصدر العلم النافع من الله - عز وجل -، فهو الذي علم بالقلم، وعلم الإنسان ما لم يعلم، ومتى حادت البشرية عن هذا المنهج، وانفصل علمها عن التقيد بمنهج الله - تعالى -رجع علمها وبالاً عليها وسببًا في إبادتها(26).
رابعًا: الشدة التي تعرض لها النبي - صلى الله عليه وسلم - ووصف ظاهرة الوحي:
لقد قام جبريل - عليه السلام - بضغط النبي - صلى الله عليه وسلم - مرارا حتى أجهده وأتعبه، وبقي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يلقى من الوحي شدة وتعبًا وثقلاً كما قال - تعالى -: (إِنَّا سَنُلقِي عَلَيكَ قَولا ثَقِيلاً) [المزمل: 5]. كان في ذلك حكمة عظيمة لعل منها: بيان أهمية هذا الدين وعظمته وشدة الاهتمام به، وبيان للأمة أن دينها الذي تتنعم به ما جاءها إلا بعد شدة وكرب(27).
إن ظاهرة الوحي معجزة خارقة للسنن والقوانين الطبيعية، حيث تلقى النبي - صلى الله عليه وسلم - كلام الله (القرآن) بواسطة الملك جبريل (- عليه السلام -)º وبالتالي فلا صلة لظاهرة الوحي بالإلهام أو التأمل الباطني، أو الاستشعار الداخلي، بل إن الوحي يتم من خارج ذات النبي - صلى الله عليه وسلم -، وتنحصر وظيفته بحفظ الموحى وتبليغه، وأما بيانه وتفسيره فيتم بأسلوب النبي كما يظهر في أحاديثه وأقواله - صلى الله عليه وسلم -(28).
إن حقيقة الوحي، هي الأساس الذي تترتب عليه جميع حقائق الدين، بعقائده وتشريعاته وأخلاقه، ولذلك اهتم المستشرقون والملاحدة من قبلهم، بالطعن والتشكيك في حقيقة الوحي، وحاولوا أن يأولوا ظاهرة الوحي ويحرفوها عن حقيقتها عما جاءنا في صحاح السنة الشريفة، وحدثنا به المؤرخون الثقات، فقائل يقول: إن محمدا - صلى الله عليه وسلم - تعلم القرآن ومبادئ الإسلام من بحيرا الراهب، وبعضهم قال بأن محمدًا كان رجلاً عصبيًا أو مصابًا بداء الصرع(29).
والحقيقة تقول: إن محمدًا - عليه الصلاة والسلام - وهو في غار حراء فوجئ بجبريل أمامه يراه بعينه، وهو يقول له: اقرأ، حتى يتبين أن ظاهرة الوحي ليست أمرا ذاتيًا داخليًا مرده إلى حديث النفس المجرد، وإنما هو استقبال وتلقٍّ, لحقيقة خارجية لا علاقة لها بالنفس وداخل الذات، وضم الملك إياه ثم إرساله ثلاث مرات قائلا في كل مرة: اقرأ، يعتبر تأكيدا لهذا التلقي الخارجي ومبالغة في نفي ما قد يتصور، من أن الأمر لا يعدو كونه خيالاً داخليًا فقط.
ولقد أصيب النبي - صلى الله عليه وسلم - بالرعب والخوف مما سمع ورأى، وأسرع إلى بيته يرجف فؤاده، وهذا يدل على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن متشوقا للرسالة التي سيكلف بثقلها وتبليغها للناس، (30) وقد قال - تعالى -تأكيدا لهذا المعنى: (وَكَذَلِكَ أَوحَينَا إِلَيكَ رُوحًا مِّن أَمرِنَا مَا كُنتَ تَدرِي مَا الكِتَابُ وَلاَ الإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلنَاهُ نُورًا نَّهدِي بِهِ مَن نَّشَاءُ مِن عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهدِي إلى صِرَاطٍ, مٌّستَقِيمٍ, ` صِرَاطِ اللهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرضِ أَلاَ إلى اللهِ تَصِيرُ الأُمُورُ) [الشورى: 52-53].
وقال - تعالى -(وَإِذَا تُتلَى عَلَيهِم آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ, قَالَ الَّذِينَ لاَ يَرجُونَ لِقَاءَنَا ائتِ بِقُرآنٍ, غَيرِ هَذَا أَو بَدِّلهُ قُل مَا يَكُونُ لِي أَن أُبَدِّلَهُ مِن تِلقَاءِ نَفسِي إِن أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِن عَصَيتُ رَبِّي عَذَابَ يَومٍ, عَظِيمٍ,. قُل لَّو شَاءَ اللهُ مَا تَلَوتُهُ عَلَيكُم وَلاَ أَدرَاكُم بِهِ فَقَد لَبِثتُ فِيكُم عُمُرًا مِّن قَبلِهِ أَفَلاَ تَعقِلُونَ) [يونس: 15، 16].
لقد تساقطت آراء المشككين في حقيقة الوحي أمام الحديث الصحيح الذي حدثتنا به السيدة عائشة - رضي الله عنها -، وقد استمر الوحي بعد ذلك يحمل الدلالة نفسها على حقيقة الوحي، وأنه ليس كما أراد المشككون.
وقد أجمل الدكتور البوطي هذه الدلالة فيما يلي:
1- التمييز الواضح بين القرآن والحديث، إذ كان يأمر بتسجيل الأول فورًا، وعلى حين يكتفي بأن يستودع الثاني ذاكرة أصحابهº لا لأن الحديث كلام من عنده لا علاقة للنبوة به، بل لأن القرآن موحى به إليه بنفس اللفظ والحروف بواسطة جبريل - عليه السلام -، أما الحديث فمعناه وحي من الله - عز وجل -، ولكن لفظه وتركيبه من عنده - عليه الصلاة والسلام -، فكان يحاذر أن يختلط كلام الله - عز وجل - الذي يتلقاه من جبريل بكلامه هو.
2- كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يُسأل عن بعض الأمور، فلا يجيب عليها وربما مر على سكوته زمن طويل، حتى تنزل آية من القرآن في شأن سؤاله، وربما تصرف الرسول في بعض الأمور على وجه معين، فتنزلت آيات من القرآن تصرفه عن ذلك الوجه، وربما انطوت على عتب أو لوم له.
3- كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أميًّا.. وليس من الممكن أن يعلم إنسان بواسطة المكاشفة النفسية حقائق تاريخية، كقصة يوسف - عليه السلام -، وأم موسى حينما ألقت وليدها في اليم، وقصة فرعون، ولقد كان هذا من جملة الحكم في كونه - صلى الله عليه وسلم - أميًّا: (وَمَا كُنتَ تَتلُو مِن قَبلِهِ مِن كِتَابٍ, وَلاَ تَخُطٌّهُ بِيَمِينِكَ إذا لاَّرتَابَ المُبطِلُونَ) [العنكبوت: 48].
4- إن صدق النبي - صلى الله عليه وسلم - أربعين سنة مع قومه واشتهاره فيهم بذلك، يستدعي أن يكون - صلى الله عليه وسلم - من قبل ذلك صادقًا مع نفسه، ولذا فلا بد أن يكون قد قضى في دراسته لظاهرة الوحي على أي شك يخايل لعينيه أو فكره، وكأن هذه الآية جاءت ردًا لدراسته الأولى لشأن نفسه مع الوحي (فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ, مِّمَّا أَنزَلنَا إِلَيكَ فَاسأَلِ الَّذِينَ يَقرَؤُونَ الكِتَابَ مِن قَبلِكَ لَقَد جَاءَكَ الحَقٌّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ المُمتَرِينَ) [يونس: 94].
ولهذا روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال بعد نزول هذه الآية: «لا أشك ولا أسأل»(31).
خامسًا: أنواع الوحي:
تحدث العلماء عن أنواع الوحي فذكروا منها:
1- الرؤيا الصادقة: وكانت مبدأ وحيه - صلى الله عليه وسلم -، وكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، وقد جاء في الحديث «رؤيا الأنبياء وحي»، قال - تعالى -في حق إبراهيم - عليه السلام -: (يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي المَنَامِ أَنِّي أَذبَحُكَ).
2- الإلهام: وهو أن ينفث الملك في روعه أي قلبه من غير أن يراه- كما قال - عليه الصلاة والسلام -: «إن روح القدس نفث في روعي» (32) أي: إن جبريل - عليه السلام - نفخ في قلبي: «أنه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب» (33).
3- أن يأتيه مثل صلصلة الجرس، أي مثل صوته في القوة، وهو أشده، كما في حديث عائشة: أن الحارث t سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كيف يأتيك الوحي؟ فقال - صلى الله عليه وسلم -: «أحيانًا يأتيني مثل صلصلة الجرس وهو أشد علي، فيفصم عني وقد وعيت ما قال، وأحيانًا يتمثل لي الملك رجلاً فيكلمني فأعي ما يقول»(34).
4- ما أوحاه الله - تعالى -إليه، بلا وساطة ملك، كما كلم الله موسى بن عمران - عليه السلام -، وهذه المرتبة هي ثابتة لموسى قطعًا بنص القرآن وثبوتها لنبينا - صلى الله عليه وسلم - في حديث الإسراء(35).
5- أنه يرى الملك في صورته التي خلق عليها، فيوحي إليه ما شاء الله - تعالى -أن يوحيه.
6- أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يتمثل له الملك رجلاً، فيخاطبه حتى يعي عنه ما يقول له وفي هذه المرتبة كان يراه الصحابة أحيانًا(36). هذا ما قاله ابن القيم عن مراتب الوحي.
لقد كان نزول الوحي على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بداية عهد جديد في حياة الإنسانية بعد ما انقطع، وتاهت البشرية في دياجير الظلام.
وكان وقع نزول الوحي شديدًا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما هو واضح من النص، بالرغم من أنه كان أشجع الناس وأقواهم قلبًا، كما دلت على ذلك الأحداث خلال ثلاث وعشرين سنة، وذلك لأن الأمر ليس مخاطبة بشر لبشر، ولكنه كان مخاطبة عظيم الملائكة وهو يحمل كلام الله - تعالى -، ليستقبله من اصطفاه الله - جل وعلا - لحمل هذا الكلام وإبلاغه لعامة البشر.
ولقد كان موقفًا رهيبًا ومسئولية عظمى، لا يقوى عليها إلا من اختاره الله- تبارك وتعالى -لحمل هذه الرسالة وتبليغها(37).
ومما يصور رهبة هذا الموقف ما جاء في هذه الرواية من قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لقد خشيت على نفسي» وقول عائشة - رضي الله عنها - في هذا الحديث: (فرجع بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يرجف فؤاده فدخل على خديجة بنت خويلد - رضي الله عنها - قال: «زملوني زملوني» فزملوه حتى ذهب عنه الروع.
ومما يبين شدة نزول الوحي على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما أخرجه الإمام البخاري ومسلم - رحمهما الله - من حديث عائشة - رضي الله عنها -: قالت: (ولقد رأيته تعني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد فيفصم عنه، وإن جبينه ليتفصد عرقًا) (38) وحديث عبادة بن الصامت t قال: (كان نبي الله - صلى الله عليه وسلم - إذا نزل عليه الوحي كُرِبَ لذلك وترَبَّد وجهه)(39).
سادسًا: أثر المرأة الصالحة في خدمة الدعوة:
كان موقف خديجة - رضي الله عنها - يدل على قوة قلبها، حيث لم تفزع من سماع هذا الخبر، واستقبلت الأمر بهدوء وسكينة، ولا أدل على ذلك من ذهابها فور سماعها الخبر إلى ورقة بن نوفل، وعرضت الأمر عليه(40).
كان موقف خديجة - رضي الله عنها - من خبر الوحي يدل على سعة إدراكها، حيث قارنت بين ما سمعت، وواقع النبي - صلى الله عليه وسلم -، فأدركت أن من جُبـِـل على مكارم الأخلاق لا يخزيه الله أبدًا، فقد وصفته بأنه يصل الرحم، وكون الإنسان يصل أقاربه دليل على استعداده النفسي لبذل الخير والإحسان إلى الناس، فإن أقارب الإنسان هم المرآة الأولى لكشف أخلاقه، فإن نجح في احتواء أقاربه، وكسبهم بما له عليهم من معروف كان طبيعيا بأن ينجح في كسب غيرهم من الناس(41).
كانت أم المؤمنين السيدة خديجة - رضي الله عنها - قد سارعت إلى إيمانها الفطري، وإلى معرفتها بسنن الله - تعالى -في خلقه، وإلى يقينها بما يملك محمد - صلى الله عليه وسلم - من رصيد الأخلاق، وفضائل الشمائل، ليس لأحد من البشر رصيد مثله في حياته الطبيعية التي يعيش بها مع الناس، وإلى ما ألهمت بسوابق العناية الربانية التي شهدت آياتها من حفاوة الله - تعالى -بمحمد - صلى الله عليه وسلم - في مواقف، لم تكن من مواقف النبوة والرسالة، ولا من إرهاصاتها المعجزة، وأعاجيبها الخارقة، ولكنها كانت من مواقف الفضائل الإنسانية السارية في حياة ذوي المكارم، من أصحاب المروءات في خاصة البشر(42).
كانت موقنة بأن زوجها فيه من خصال الجبلة الكمالية ومحاسن الأخلاق الرصينة، وفضائل الشيم المرضية، وأشرف الشمائل العلية، وأكمل النحائز الإنسانية ما يضمن له الفوز، ويحقق له النجاح والفلاح، فقد استدلت بكلماتها العميقة على الكمال المحمدي(43)، فقد استنبطت خديجة - رضي الله عنها - من اتصاف محمد - صلى الله عليه وسلم - بتلك الصفات على أنه لن يتعرض في حياته للخزي قطº لأن الله - تعالى -فطره على مكارم الأخلاق، وضربت المثل بما ذكرته من أصولها الجامعة لكمالاتها.
ولم تعرف الحياة في سنن الكون الاجتماعية أن الله - تعالى -جمَّل أحدًا من عباده بفطرة الأخلاق الكريمة، ثم أذاقه الخزي في حياته، ومحمد - صلى الله عليه وسلم - بلغ من المكارم ذروتها، فطرة فطره الله عليها، لا تُطاول ولا تُسامى(44).
ولم تكتفِ خديجة - رضي الله عنها - بمكارم أخلاق النبي - صلى الله عليه وسلم - دليلاً على نبوته، بل ذهبت إلى ابن عمها العالم الجليل ورقة بن نوفل - رحمه الله - الذي كان ينتظر ظهور نبي آخر الزمان، لما عرفه من علماء أهل الكتاب، على دنو زمانه، واقتراب مبعثه، وكان لحديث ورقة أثر طيب في تثبيت النبي - صلى الله عليه وسلم - وتقوية قلبه، وقد أخبر - صلى الله عليه وسلم - بأن الذي خاطبه هو صاحب السر الأعظم الذي يكون سفيرا بين الله - تعالى -وأنبيائه عليهم الصلاة والسلام، ومن أشعار ورقة التي تدل على انتظاره لمبعث النبي - صلى الله عليه وسلم - قوله:
لَجـِجت وكنت في الذكرى لجوجًا *** لَهمٍّ, طالما بعث النَّشيجا
ووصفٍ, من خديجة بعد وصفٍ, *** فقد طال انتظاري يا خديجا
ببطن المكَّتين(45) على رجائي *** حديثك أن أرى منه خروجا
بما خَبرَّتنا من قول قَس *** من الرهبان أكره أن يعوجا
بأن محمدًا سيسود فينا *** ويَخصِم من يكون له حجيجا(46)
لقد صدَّق ورقة بن نوفل برسالة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وشهد له النبي - عليه الصلاة والسلام - بالجنة فقد جاء في رواية أخرجها الحاكم بإسناده عن عائشة - رضي الله عنها - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا تسبوا ورقة فإني رأيت له جنة أو جنتين»(47).
وعن عائشة - رضي الله عنها - أن خديجة - رضي الله عنها - سألت رسول الله عن ورقة فقال: «قد رأيته فرأيت عليه ثيابًا بيضًا، فأحسبه لو كان من أهل النار لم يكن عليه ثياب بيض» قال الهيثمي: وروى أبو يعلى بسند حسن عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سئل عن ورقة بن نوفل فقال: «أبصرته في بُطنان الجنة وعليه السندس»(48).
لقد قامت خديجة - رضي الله عنها - بدور مهم في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - لما لها من شخصية في مجتمع قومها، ولما جبلت عليه من الكفاءة في المجالات النفسية التي تقوم على الأخلاق العالية، من الرحمة والحلم والحكمة والحزم، وغير ذلك من مكارم الأخلاق، والرسول - صلى الله عليه وسلم - قد وفقه الله - تعالى -إلى هذه الزوجة المثاليةº لأنه قدوة للعالمين وخاصة للدعاة إلى الله، فقيام خديجة بذلك الدور الكبير إعلام من الله - تعالى -لجميع حملة الدعوة الإسلامية بما يشرع لهم أن يسلكوه في هذا المجال من التأسي برسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى يتحقق لهم بلوغ المقاصد العالية التي يسعون لتحقيقها(49).
إن السيدة خديجة - رضي الله عنها - مثال حسن، وقدوة رفيعة لزوجات الدعاة، فالداعية إلى الله ليس كباقي الرجال الذين هم بعيدون عن أعباء الدعوة، ومن الصعب أن يكون مثلهم في كل شيء، إنه صاحب همٍّ, ورسالة، همٍّ, على ضياع أمته، وانتشار الفساد، وزيادة شوكة أهله، وهمٍّ, لما يصيب المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها من مؤامرات، وظلم وجوع، وإذلال، وما يصيب الدعاة منهم من تشريد وتضييق وتنكيل، وبعد ذلك هو صاحب رسالة واجب عليه تبليغها للآخرين، وهذا الواجب يتطلب وقتًا طويلاً يأخذ عليه أوقات نومه وراحته، وأوقات زوجته وأبنائه، ويتطلب تضحية بالمال والوقت والدنيا بأسرها ما دام ذلك في سبيل الله ومرضاته، وإن أوتيت الزوجة من الأخلاق والتقوى والجمال والحسب ما أوتيت، إنه يحتاج إلى زوجة تدرك واجب الدعوة وأهميته، وتدرك تمامًا ما يقوم به الزوج وما يتحمله من أعباء، وما يعانيه من مشاقّ، فتقف إلى جانبه تيسر له مهمته وتعينه عليها، لا أن تقف عائقا وشوكة في طريقه(50).
إن المرأة الصالحة لها أثر في نجاح الدعوة، وقد اتضح ذلك في موقف خديجة - رضي الله عنها - وما قامت به من الوقوف بجانب النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يواجه الوحي لأول مرة، ولا شك أن الزوجة الصالحة المؤهلة لحمل مثل هذه الرسالة لها دور عظيم في نجاح زوجها في مهمته في هذه الحياة، وبخاصة الأمور التي يعامل بها الناس، وإن الدعوة إلى الله - تعالى -هي أعظم أمر يتحمله البشر، فإذا وفق الداعية لزوجة صالحة ذات كفاءة فإن ذلك من أهم نجاحه مع الآخرين(51) وصدق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذ يقول: «الدنيا متاع، وخير متاع الدنيا المرأة الصالحة»(52).
سابعًا: وفاء النبي - صلى الله عليه وسلم - للسيدة خديجة - رضي الله عنها -:
كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مثالاً عاليًا للوفاء ورد الجميل لأهله، فقد كان في غاية الوفاء مع زوجته المخلصة، في حياتها وبعد مماتها، وقد بشرها - صلى الله عليه وسلم - ببيت في الجنة في حياتها، وأبلغها سلام الله - جل وعلا -، وسلام جبريل - عليه السلام -، فعن أبي هريرة t قال: أتى جبريل النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: «يا رسول الله، هذه خديجة قد أتتك معها إناء فيه إدام أو طعام أو شراب فإذا هي أتتك فاقرأ - عليها السلام - من ربها، - عز وجل -، ومني، وبشرها ببيت في الجنة من قصب(53) لا صخب فيه ولا نصب»(54).
وتذكر عائشة - رضي الله عنها - وفاء النبي - صلى الله عليه وسلم - لخديجة بعد وفاتها بقولها: (ما غرت على أحد من نساء النبي - صلى الله عليه وسلم - ما غرت على خديجة، وما رأيتها، ولكن كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يكثر ذكرها، وربما ذبح الشاة ثم يقطّعها أعضاءً ثم يبعثها في صدائق خديجة، فربما قلت له: كأنه لم يكن في الدنيا امرأة إلا خديجة؟ فيقول: «إنها كانت وكانت وكان لي منها الولد»(55).
وأظهر - صلى الله عليه وسلم - البشاشة والسرور لأخت خديجة لما استأذنت عليه لتذكٌّره خديجة، فعن عائشة - رضي الله عنها - قالت: (استأذنت هالة بنت خويلد أخت خديجة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فعرف استئذان خديجة(56) فارتاح لذلك، فقال: «اللهم هالة بنت خويلد» فغرت فقلت: وما تذكر من عجوز من عجائز قريش حمراء الشدقين(57) هلكت في الدهر فأبدلك الله خيرًا منها (58)، وأظهر - صلى الله عليه وسلم - الحفاوة بامرأة كانت تأتيهم زمن خديجة وبين أن حفظ العهد من الإيمان(59).
ثامنًا: سنة تكذيب المرسلين:
(يا ليتني فيها جذعاً، ليتني أكون حيًّا إذ يخرجك قومك، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «أَوَ مُخرجيّ هم؟ » قال: نعم، لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي، وإن يدركني يومك أنصرك نصرًا مؤزرًا) (60) فقد بين الحديث سنة من سنن الأمم مع من يدعوهم إلى الله - عز وجل - وهي التكذيب والإخراج، كما قال - تعالى -عن قوم لوط: (فَمَا كَانَ جَوَابَ قَومِهِ إِلاَّ أَن قَالُوا أَخرِجُوا آلَ لُوطٍ, مِّن قَريَتِكُم إِنَّهُم أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ) [النمل: 56].
وكما قال قوم شعيب: (قَالَ المَلأُ الَّذِينَ استَكبَرُوا مِن قَومِهِ لَنُخرِجَنَّكَ يَا شُعَيبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِن قَريَتِنَا أَو لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَو كُنَّا كَارِهِينَ) [الأعراف: 88].
وقال - تعالى -: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِم لَنُخرِجَنَّكُم مِّن أَرضِنَا أَو لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوحَى إِلَيهِم رَبٌّهُم لَنُهلِكَنَّ الظَّالِمِينَ) [إبراهيم: 13].
تاسعًا: قوله «وفتر الوحي»:
تحدث علماء السيرة قديمًا وحديثًا عن فترة الوحي، فقال الحافظ ابن حجر: وفتور الوحي عبارة عن تأخيره مدة من الزمان، وكان ذلك ليذهب ما كان - صلى الله عليه وسلم - وجده من الروع، وليحصل له التشوق إلى العود(61).
فعن جابر بن عبد الله الأنصاري قال وهو يحدث- أي بحديث النبي - صلى الله عليه وسلم - عن فترة الوحي: «بينا أنا أمشي إذ سمعت صوتا من السماء فرفعت بصري، فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالس على كرسي بين السماء والأرض، فرعبت منه، فرجعت فقلت: زملوني فأنزل الله - تعالى -: (يَا أَيٌّهَا المُدَّثِّرُ ` قُم فَأَنذِر ` وَرَبَّكَ فَكَبِّر ` وَثِيَابَكَ فَطَهِّر ` وَالرٌّجزَ فَاهجُر) [المدثر: 1-5] فحمى الوحي وتتابع»(62).
وقال صفي الرحمن المباركفوري: أما مدة فترة الوحي فاختلفوا فيها على عدة أقوال، والصحيح أنها كانت أيامًا، وقد روى ابن سعد عن ابن عباس ما يفيد ذلك، وأما ما اشتهر من أنها دامت ثلاث سنين أو سنتين ونصف فليس بصحيح، وأما ما جاء بلاغًا أنه - صلى الله عليه وسلم - حزن حزنًا جعله يغدو ليتردى من شواهق الجبال، وأن جبريل - عليه السلام - كان يظهر له في كل مرة ويبشره بأنه رسول الله فمرسل ضعيف، كما أنه يتنافى مع عصمة النبي - صلى الله عليه وسلم -(63).
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد