آثار صلح الحديبية


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

لقد دلت الحوادث التى وقعت بعد صلح الحديبية على أن صلح الحديبية كان انتصاراً بالنسبة للإسلام والمسلمين وأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان ينظر بنور الله وهو يقبل كل شرط من هذه الشروط وقد استطاع أن يكتشف من خلال كل شرط المكاسب والمغانم التي ستعود على المسلمين، وأنه لم يكن من حق المسلمين أن يعترضوا أو يدخلهم ريب فيما قام به الرسول لهم ولكن الأمر كما قال أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - يوماً \" ما كان فتح في الإسلام أعظم من صلح الحديبية، ولكن الناس قصر رأيهم عما كان بين رسول الله وبين ربه، والعباد يعجلون والله - تعالى - لا يعجل لعجلة العباد حتى تبلغ الأمور ما أراد.

حقاً لقد تعجل الصحابة وقت الصلح ونظروا إلى الشروط نظرة قاصرة محدودة ولكن الأيام كشفت لهم خطأهم ووضحت لهم المكاسب والمغانم التي تحققت لهم بعد ذلك وها نحن نلقى بعض الأضواء على أهم المكاسب التي تحققت للمسلمين من خلال شروط هذا الصلح.

أولا: كان إبرام الصلح في حد ذاته مكسباً للمسلمين فهو اعتراف من قريش بمكانة المسلمين التي أصبحوا عليها وأنهم أهل لأن تبرم معهم معاهدات، وأن محمدا لم يعد في نظر قريش مجرد ثائر خارج عن التقاليد والأوضاع وفي هذا اعتراف بالدولة الإسلامية وزعامة الرسول السياسية.

ثانيا: بالنسبة للشرط الأول وهو وقف القتال عشر سنوات فإن هذا الشرط قد أتاح للمسلمين هدنة استراحوا فيها من الحروب التي شغلتهم واستهلكت قواهم وذلك أن الكفار في الجزيرة العربية كانوا يعتبرون قريشا هي رأس الكفر وحاملة لواء التمرد والتحدي للدين الجديد، وعندما شاع نبأ تعاهدها مع المسلمين انفرط عقد الكفار في الجزيرة ووهت الرابطة التي كانت تجمعهم وتؤلبهم على الإسلام ومن ثم خمدت فتن المنافقين الذين يعملون لحساب كفار قريش ويعتمدون على معونتهم ومساعدتهم .

كذلك استطاع الرسول أن يغتنم هذه الهدنة ليقوم بدعوة ملوك العالم كقيصر وكسرى والمقوقس والنجاشي وأمراء العرب إلى الإسلام وتبليغ دين الله إلى كل مكان تمشياً مع عالمية الدعوة ووجوب تبليغها إلى كل مكان من أرض الله.

كذلك أتاح هذا الصلح الفرصة للمسلمين والمشركين أن يختلطوا بعهم ببعض فيطلع المشركون عن قرب على حقيقة الإسلام ومحاسنه وكيف أنه جاء لإصلاح الفرد والمجتمع بعد أن كان المشركون يتخذون منه موقفا معاديا عصبية منهم وحمية دون أن يحموا العقل والضمير فجاءت هذه الهدنة لتتيح للكفار جوآ من التأمل الحصيف والتفكير الرشيد ومن ثم لم يمض على هذا الصلح عام كامل حتى دخل في الإسلام من العرب أكثر من الذين دخلوا فيه خلال خمس عشرة سنة قبله.

ولعل هذا أكبر رد على هؤلاء الذين يفترون على الإسلام ويدعون أنه انتشر بالسيف إن الحقيقة هي أن الإسلام انتصر على السيف كما نرى ولا عجب فالإسلام هو دين العقل ودين الإصلاح والخير للإنسانية في دنياها وأخراها.

ثالثا: وبالنسبة للشرط الخاص \" من أتى محمدا من قريش بغير إذن وليه رده ومن جاء قريشاً ممن مع محمد لم يردوه عليه\" فإن هذا الشرط أيضا كان في مصلحة المسلمين لأنة سد باب التجسس أما قريش التي كان من الممكن أن ترسل نفرآ يتظاهرون بالإسلام ويعيشون في المدينة ويكونوا بمثابة جواسيس لقريش يدلونها على أحوال المسلمين وينقلون أليها أسرارهم.

أما بالنسبة للمسلمين حقاً الذين يرغبون في الذهاب إلى المدينة فإن ردهم إلى مكة كما اقتضى شرط الصلح قد جعل منهم طائفة قوية في مكة إزداد عددها مع الأيام وقد رأينا كيف أن أحد هؤلاء الفارين إلى المدينة وهو أبو بصير (عبته بن أسيد) الذي رده حسب ما قضى به شرط الصلح قد أفلت في الطريق وهرب إلى ساحل البحر في طريق الشام وفى أيام انضم إليه عدد كبير من هؤلاء المسلمين المضطهدين على رأسهم أبو جندل كونوا فريقاً جعل مهمته التصدي لقريش في رجالها وتجارتها وقد بلغ من خطرهم على قريش أن أرسلت إلى الرسول تسأله أن يلحقهم به في المدينة وتناشده الله والرحم أن يتنازل عن هذا الشرط الذي وضعه قريش تعسفاً منها وصلفاً وتألم منه المسلمون وقتها إحساساً منهم بأنه دليل على الضعف والهوان والاستسلام {و يمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين}.

وأما بالنسبة للشرط الثانى من الشرط وهو \" من جاء قريشاً ممن مع محمد لم يردوه عليه \" فإن المصلحة واضحة في ذلك كل الوضوح فالذي يرتد لا حاجة للمسلمين به بل إن في وجودة أكبر الضرر.

على أنه لم يكن منتظرا بمنطق العقل أن يرتد أحد بعد أن ذاق حلاوة الإيمان فإن الواقع كان يؤكد للرسول أن الإيمان حين تخاط بشاشته شغاف القلب يجعل الإنسان يزداد مع كل يوم ثباتا ويقينا.

رابعا: وبالنسبة للشرط الخاص بأن \"من أحب أن يدخل في عقد محمد وعهده دخل فيه, ومن أحب أن يدخل في عقد قريش و عهدهم دخل فيه \" فإنه شرط خدم المسلمين أكثر من القرشيين فقد شج القبائل المترددة على الدخول في الإسلام كما أنه حدد موقف القبائل العربية من المسلمين تحديدا عرفوا منه العدو من الصديق.

خامسا: أما بالنسبة للشرط الخاص برجوع المسلمين في عامهم هذا ومجيئهم في العام الذي يليه فإن هذا الشرط قد أظهر قريشا بمظهر المعتدين الذين يصدون الناس عن سبيل الله وعن المسجد الحرام وفي هذا خروج على تقاليد العرب وأعرافهم كما أنه أبان عن وجه الإسلام المشرق في السماحة والصفح والسلم.

لكل هذه المكاسب التي تحققت للمسلمين من خلال \" صلح الحديبية، يقول الإمام ابن شهاب الزهري (ت124 هـ): فما فتح في الإسلام فتح قبله كان أعظم منه إنما كان القتال حيث التقى الناس فلما كانت الهدنة ووضعت الحرب أوزارها وأمن الناس بعضهم بعضا والتقوا فتفاوضوا في الحديث والمنازعة فلم يكلم أحد بالإسلام يعقل شيئا إلا دخل فيه ولقد دخل فى تلك السنتين مثل من كان فى الإسلام قبل ذلك أو أكثر .

قال ابن هشام: - \" والدليل على قول الزهري أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد خرج إلى الحديبية فى ألف وأربعمائة فى قول جابر بن عبد الله ثم خرج فى عام فتح مكة بعد ذلك بسنتين فى عشرة آلاف \" لكل هذا نزلت سورة الفتح فى طريق عودة المسلمين إلى المدينة وسمى الله هذا الصلح فتحا مبينا.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply