نظم النبي العلاقات بين سكان المدينة، وكتب في ذلك كتاباً أوردته المصادر التاريخية واستهدف هذا الكتاب أو الصحيفة توضيح التزامات جميع الأطراف داخل المدينة، وتحديد الحقوق والواجبات، وقد سميت في المصادر القديمة بالكتاب والصحيفة، وأطلقت الأبحاث الحديثة عليها لفظ (الدستور).
ولقد تعرض الدكتور أكرم ضياء العمري في كتابه السيرة النبوية الصحيحة لدراسة طرق ورود الوثيقة، وقال: «ترقى بمجموعها إلى مرتبة الأحاديث الصحيحة» وبين أن أسلوب الوثيقة ينم عن أصالتها «فنصوصها مكونة من كلمات وتعابير كانت مألوفة في عصر الرسول - صلى الله عليه وسلم -» ثم قل استعمالها فيما بعد حتى أصبحت معلقة على غير المتعمقين في دراسة تلك الفترة، وليس في هذه الوثيقة نصوص تمدح أو تقدح فرداً أو جماعة، أو تخص أحداً بالإطراء أو الذمº لذلك يمكن القول بأنها وثيقة أصلية وغير مزورة» ثم إن التشابه الكبير بين أسلوب الوثيقة وأساليب كتب النبي - صلى الله عليه وسلم - يعطيها توثيقاً آخر.
أولاً: كتابه - صلى الله عليه وسلم - بين المهاجرين والأنصار واليهود:
نص الوثيقة:
1- هذا كتاب من محمد النبي (رسول الله) بين المؤمنين والمسلمين من قريش (وأهل يثرب)، ومن تبعهم فَلَحق بهم وجاهد معهم.
2- إنهم أمة واحدة من دون الناس.
3- المهاجرون من قريش على ربعتهم يتعاقلون بينهم وهم يفدون عانيهم بالمعروف والقسط بين المؤمنين.
4- وبنو عوف على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين.
5- وبنو الحارث (بن الخزرج) على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين.
6- وبنو ساعدة على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف، والقسط بين المؤمنين.
7- وبنو جُشَم على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف، والقسط بين المؤمنين.
8- وبنو النجار على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف، والقسط بين المؤمنين.
9- وبنو عمرو بن عوف على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف، والقسط بين المؤمنين.
10- بنو النبيت على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف، والقسط بين المؤمنين.
11- وبنو الأوس على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف، والقسط بين المؤمنين.
12- وإن المؤمنين لا يتركون مُفرَحا بينهم أن يعطوه بالمعروف من فداء أو عقل، أن لا يحالف مؤمن مولى مؤمن دونه.
13- وإن المؤمنين المتقين (أيديهم) على (كل) من بغى منهم أو ابتغى دسيعة ظلم أو إثماً أو عدواناً أو فساداً بين المؤمنين، وإن أيديهم عليه جميعاً، ولو كان ولد أحدهم.
14- ولا يقتل مؤمن مؤمناً في كافر، ولا ينصر كافراً على مؤمن.
15- وإن ذمة الله واحدة، يجير عليهم أدناهم، وإن المؤمنين بعضهم موالي بعض دون الناس.
16- وإنه من تبعنا من يهود فإن له النصر والأسوة، غير مظلومين ولا متناصر عليهم.
17- وإن سلم المؤمنين واحدة لا يسالم مؤمن دون مؤمن في قتال في سبيل الله، إلا على سواء وعدل بينهم.
18- وإن كل غازية غزت يعقب على بعضها بعضا.
19- وإن المؤمنين يبيء بعضهم على بعض بما نال دماءهم في سبيل الله.
20- وإن المؤمنين المتقين على أحسن هدى وأقومه، وإنه لا يجير مشرك مالاً لقريش، ولا نفساً ولا يحول دون على مؤمن.
21- وإنه من اعتبط مؤمناً قتلاً عن بينة فإنه قود به إلا أن يرضى ولي المقتول (بالعقل)، وإن المؤمنين عليه كافة، ولا يحل لهم إلا قيام عليه.
22- وإنه لا يحل لمؤمن أقر بما في الصحيفة، وآمن بالله واليوم الآخر أن ينصر محدثاً أو يُؤويه، وإن من نصره أو آواه، فإن عليه لعنة الله وغضبه يوم القيامة، ولا يؤخذ منه صرف ولا عدل.
23- وإنه مهما اختلفتم فيه من شيء فإن مرده إلى الله وإلى محمد - صلى الله عليه وسلم -.
24- وإن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين.
25- وإن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين، لليهود دينهم، وللمسلمين دينهم، ومواليهم وأنفسهم إلا من ظلم نفسه وأَثِم فإنه لا يوتغ إلا نفسه وأهل بيته.
26- إن ليهود بني النجار مثل ما ليهود بني عوف.
27- وإن ليهود بني الحارث مثل ما ليهود بني عوف.
28- وإن ليهود بني ساعدة مثل ما ليهود بني عوف.
29- وإن ليهود بن جُشَم مثل ما ليهود بني عوف.
30- وإن ليهود بني الأوس مثل ما ليهود بني عوف.
31- وإن ليهود بني ثعلبة مثل ما ليهود بني عوف إلا من ظلم وأثم، فإنه لا يتوتغ إلا نفسه وأهل بيته.
32- وإن جفنة بطن من ثعلبة كأنفسهم.
33- وإن لبني الشٌّطَيبة مثل ما ليهود بني عوف وإن البر دون الإثم.
34- وإن موالي ثعلبة كأنفسهم.
35- وإن بطانة يهود كأنفسهم.
36- وإنه لا يخرج منهم أحد إلا بإذن محمد - صلى الله عليه وسلم -.
37- وإن على اليهود نفقتهم، وعلى المسلمين نفقتهم، وإن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة وإن بينهم النصح والنصيحة والبر دون الإثم.
38- وإنه لا يأثم امرؤ بحليفه وإن النصر للمظلوم.
39- وإن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين.
40- وإن يثرب حرام جوفها لأهل هذه الصحيفة.
41- وإن الجار كالنفس غير مضار ولا آثم.
42- وإنه لا تجار حرمة إلا بإذن أهلها.
43- وإنه ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حدث أو اشتجار يخاف فساده فإن مردَّه إلى الله، وإلى محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وإن الله على أتقى ما في هذه الصحيفة وأبره.
44- وإن بينهم النصر على من دهم يثرب. [وإنه لا تجار قريش ولا من نصرها].
45- أ- وإذا دعوا إلى الصلح يصالحونه ويلبسونه فإنهم يصالحونه أو يلبسونه، وإنهم إذا دعوا إلى مثل ذلك فإن لهم على المؤمنين إلا من حارب في الدين.
ب-على كل أناس حقهم من جانبهم الذى قبلهم.
46- وإن يهود الأوس، مواليهم وأنفسهم، على مثل ما لأهل هذه الصحيفة مع البر المحض من أهل هذه الصحيفة، وإن البر دون الإثم، لا يكسب كاسبَُ إلا على نفسه، وإن الله على ما أصدق ما في هذه الصحيفة وأبره.
47- وإنه لا يحول هذا الكتاب دون ظالم أو آثم، إنه من خرج آمن ومن قعد آمن بالمدينة، إلا من ظلم وأثم، وأن الله جار لمن بر واتقى، ومحمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
ثانياً: دروس وعبر وفوائد من الوثيقة:
1- تحديد مفهوم الأمة:
تضمنت الصحيفة مبادئ عامة، درجت دساتير الدول الحديثة على وضعها فيها، وفي طليعة هذه المبادئ تحديد مفهوم الأمة، فالأمة في الصحيفة تضم المسلمين جميعا مهاجريهم وأنصارهم ومن تبعهم، ممن لحق بهم وجاهد معهم أمة واحدة، من دون الناس وهذا شيء جديد كل الجدّه في تاريخ الحياة السياسية في جزيرة العرب، إذ نقل الرسول - صلى الله عليه وسلم - قومه من شعار القبلية، والتبعية لها إلى شعار الأمة، التي تضم كل من اعتنق الدين الجديد، فلقد قالت الصحيفة عنهم «أمة واحدة» (المادة21) وقد جاء به القرآن الكريم قال - تعالى -(إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُم أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبٌّكُم فَاعبُدُونِ) [الأنبياء: 92].
وبين - سبحانه وتعالى - وسطية هذه الأمة في قوله - تعالى -: (وَكَذَلِكَ جَعَلنَاكُم أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيكُم شَهِيدًا وَمَا جَعَلنَا القِبلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيهَا إِلاَّ لِنَعلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيهِ وَإِن كَانَت لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللهُ وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُم إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ) [البقرة: 143]. ووضح - سبحانه وتعالى - أنها بكونها أمة إيجابية فهي لا تقف موقف المتفرج من قضايا عصرها، بل تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، وتدعوا إلى الفضائل، وتحذر من الرذائل، قال - تعالى -: (كُنتُم خَيرَ أُمَّةٍ, أُخرِجَت لِلنَّاسِ تَأمُرُونَ بِالمَعرُوفِ وَتَنهَونَ عَنِ المُنكَرِ وَتُؤمِنُونَ بِاللهِ وَلَو آمَنَ أَهلُ الكِتَابِ لَكَانَ خَيرًا لَّهُم مِّنهُمُ المُؤمِنُونَ وَأَكثَرُهُمُ الفَاسِقُونَ)[آل عمران: 110].
وبهذا الاسم الذي أطلق على جماعة من المسلمين والمؤمنين ومن تبعهم من أهل يثرب، اندمج المسلمون على اختلاف قبائلهم في هذه الجماعة التي ترتبط بينها برابطة الإسلام، فهم يتكافلون فيما بينهم، وهم ينصرون المظلوم على الظالم، وهم يرعون حقوق القرابة، والمحبة، والجوار لقد انصهرت طائفتا الأوس والخزرج في جماعة الأنصار، ثم انصهر الأنصار والمهاجرون في جماعة المسلمين، وأصبحوا أمة واحدة تربط أفرادها رابطة العقيدة وليس الدم، فيتحد شعورهم وتتحد أفكارهم وتتحد قبلتهم ووجهتهم، وولاؤهم لله وليس للقبيلة، واحتكامهم للشرع وليس للعرف، وهم يتمايزون بذلك كله على بقية الناس «من دون الناس» فهذه الروابط تقتصر على المسلمين ولا تشمل غيرهم من اليهود والحلفاء.
ولا شك أن تمييز الجماعة الدينية كان أمراً مقصوداً يستهدف زيادة تماسكها، واعتزازها بذاتها يتضح ذلك في تمييزها بالقبلة واتجاهها إلى الكعبة بعد أن اتجهت ستة عشر أو سبعة عشر شهراً إلى بيت المقدس.
وقد مضى النبي - صلى الله عليه وسلم - يميز أتباعه عمن سواهم في أمور كثيرة، ويوضح لهم أنه يقصد بذلك مخالفة اليهود، من ذلك: أن اليهود لا يصلون بالخفاف فأذن النبي - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه أن يصلوا بالخف، واليهود لا تصبغ الشيب فصبغ المسلمون شيب رؤوسهم بالحناء والكتم، واليهود تصوم عاشوراء والنبي - صلى الله عليه وسلم - يصومه أيضاً ثم اعتزم أواخر حياته أن يصوم تاسوعاء معه مخالفة لهم. ثم إن النبي - صلى الله عليه وسلم - وضع للمسلمين مبدأ مخالفة غيرهم والتميز عليهم فقال: «من تشبه بقوم فهو منهم» وقال: «لا تشبهوا باليهود» والأحاديث في ذلك كثيرة وهي تفيد معنى تميز المسلمين واستعلائهم على غيرهم، ولا شك أن التشبه والمحاكاة للآخرين يتنافى مع الاعتزاز بالذات والاستعلاء على الكفار، ولكن هذا التميز والاستعلاء لا يشكل حاجزًا بين المسلمين وغيرهم، فكيان الجماعة الإسلامية مفتوح وقابل للتوسع ويستطيع الانضمام إليه من يؤمن بعقيدته.
واعتبرت الصحيفة اليهود جزءا من مواطني الدولة الإسلامية، وعنصراً من عناصرها ولذلك قيل في الصحيفة: «وأن من تبعنا من يهود، فإن له النصر والأسوة، غير مظلومين، ولا متناصر عليهم» (المادة 16) ثم زاد هذا الحكم إيضاحا في المادة (25) وما يليها، حيث نص فيها صراحة بقوله: (وإن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين...).
وبهذا نرى أن الإسلام قد اعتبر أهل الكتاب الذين يعيشون في أرجائه مواطنين، وأنهم أمة مع المؤمنين، ما داموا قائمين بالواجبات المترتبة عليهم، فاختلاف الدين ليس-بمقتضى أحكام الصحيفة- سبباً للحرمات من مبدأ (المواطنة).
2- المرجعية العليا لله ورسوله:
جعلت الصحيفة الفصل في كل الأمور بالمدينة يعود إلى الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم -، فقد نصت على مرجع فض الخلاف في المادة (23)، وقد جاء فيها: «وأنكم مهما اختلفتم فيه من شيء، فإن مرده إلى الله وإلى محمد - صلى الله عليه وسلم -» والمغزى من ذلك واضح وهو تأكيد سلطة عليا دينية تهيمن على المدينة وتفصل في الخلافات منعاً لقيام اضطرابات في الداخل من جراء تعدد السلطات، وفي نفس الوقت تأكيد ضمني برئاسة الرسول - صلى الله عليه وسلم - على الدولة فقد حددت الصحيفة مصدر السلطات الثلاثº التشريعية، والقضائية، والتنفيذية، فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حريصاً على تنفيذ أوامر الله من خلال دولته الجديدة، لأن تحقيق الحاكمية لله على الأمة هو محض العبودية لله تعالىº لأنه بذلك يتحقق التوحيد ويقوم الدين قال - تعالى -: (مَا تَعبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسمَاءً سَمَّيتُمُوهَا أَنتُم وَآبَاؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللهُ بِهَا مِن سُلطَانٍ, إِنِ الحُكمُ إِلاَّ للهِ أَمَرَ أَلاّ
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد
التعليقات ( 1 )
..
15:20:12 2020-03-04