فتح مكة


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 في  أواخر السنة الثامنة من الهجرة كان قد أتى على صلح الحديبية سنتان، وكان من بين شروطه كما ذكرنا أن من أحب أن يدخل  في  عهد محمد  - صلى الله عليه وسلم - دخل فيه ومن أحب ان يدخل في عهد قريش دخل فيه وبمقتضى هذا الشرط دخلت قبلية خزاعة  في  حلف مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ودخلت قبيلة بنى بكر  في  حلف مع قريش، وكانت القبيلتان تسكنان أحياء من مكة وضواحيها وبينهما تارات قديمة وعداء متوارث يرجع تاريخه إلى ما قبل البعثة

 

وذات يوم تحركت هذه الأحقاد فاغتنم بنو بكر حلفاء قريش هدنة الحديبية وفاجأوا خزاعة حلفاء النبى - صلى الله عليه وسلم - وأمدتهم قريش بالخيل والسلاح حتى لقد ذكر الواقد أن ممن إشترك  في  القتال سرآ صفوان بن أمية وعكرمة بن أبى جهل وسهيل بن عمرو مع غيرهم وعبيدهم وقد بلغ بهم الحمق والطغيان أن يطاردوا خزاعة حتى الحرم ويقاتلونهم فيه حيث لا يجوز فيه القتال

فلما انتهوا إليه قال نفر من بني بكر لرئيسهم نوفل بن معاوية إنا قد دخلنا الحرم إلهك إلهك فقال كلمة عظيمة لا إله اليوم يا بني بكر أصيبوا ثأركم فلعمري إنكم لتسرقون  في  الحرم أفلا تصيبون ثأركم فيه

 

ولعل السر  في  تورط قريش ومساعدتها لبني بكر هو أنها فسرت تفسيرا خاطئا ما جرى لجيش المسلمين في سرية مؤته إذ إعتقدت أن ما جرى كان هزيمة كبيرة لحقت بالمسلمين وهذا خطأ فادح وقعت فيه وترتب عليه ارتكابها لهذا الخطأ الأحمق وانتهاكها لشروط صلح الحديبية وما ترتب على ذلك من فتح مكة كما سنرى

 

خزاعة تستنجد بالرسول - صلى الله عليه وسلم -

فلما تظاهرت بنو بكر وقريش على خزاعة وأصابوا منهم ما أصابوا ونقضوا ما كان بينهم وبين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من العهد والميثاق بما استحلوا من خزاعة خرج عمرو بن سالم الخزاعي وقدم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في  المدينة وأنشدة أبياتا ينشده فيها الحلف الذي كان بينه وبين خزاعة ويسأله المعونة والنجدة ويخبره بأن قريشا اخلفوه الموعد ونقضوا الميثاق المؤكد فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: نصرت يا عمرو ابن سالم

 

وأراد الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن يستوثق منهم الخبر ويعذر إلى قريش فبعث إليهم رجلاً يخيرهم بين ثلاث أن يدفعوا دية قتلى خزاعة أو يبرأوا من حلف بني نفاثة (بطن من بنى بكر) الذين قادوا الحملة على خزاعة أو ينبذ إليهم على سواء فأجابه بعض زعمائهم لكن ننبذ إليهم على سواء وبذلك برئت ذمة قريش وقامت عليهم الحجة

 

ولكن قريشا فكرت في الأمر مليا اقتنعت أن المسلمين الآن قد أصبحوا قوة لا يمكن مواجهتها وأن فيهم الآن من أبطالهم السابقين خالد بن الوليد وعمرو ابن العاص وقبائل كثيرة قد اعتنقت الإسلام، ولذلك ندمت على ما أجاب به بعض سفهائها من إجابة متهورة، و انتهى رأيهم أن يبعثون أبا سفيان إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليجدد العهد ويزيد من المدة ويدارك الأزمة قبل استفحال خطرها

 

وقدم أبو سفيان على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة ودخل على ابنته \" أم حبيبة \" زوج النبى - صلى الله عليه وسلم - ليزورها فلما ذهب ليجلس على فراش رسول الله - صلى الله عليه وسلم - طوته عنه

فقال يا بنية: ما أدري أرغبت بي عن هذا الفراش أم رغبت به عني ؟

قالت: بل هو فراش رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنت رجل مشرك نجس ولم أحب أن تجلس على فراش رسول الله - صلى الله عليه وسلم -

فقال: والله لقد أصابك يا بنية بعدي شر

وخرج من عندها غضبان أسفا حتى أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فكلمه أبو سفيان فلم يرد النبي شيئا فذهب ابو سفيان إلى أبي بكر فأعرض عنه كما أعرض عمر و علي فعاد أبو سفيان دون أن يحصل من النبي - صلى الله عليه وسلم - على وعد باستمرار المسالمة و لكنه ظهر بعهد الجوار حتى وصل إلى مكة

 

فلما قدم على قريش قالوا لأبي سفيان : ما وراءك ؟

قال جئت محمدا فكلمته فوالله ما رد علي شيئاً ثم جئت ابن أبي قحافة فلم أجد فيه خيراً ثم جئت ابن الخطاب فوجدته أدنى العدو ثم جئت علياً فوجدته ألين القوم وقد أشار علي بشيء صنعته فوالله ما أدري هل يغني ذلك شيئا أم لا؟

قالوا: وبم أمرك؟

قال: أمرني أن أجير بين الناس ففعلت

قالوا: فهل أجاز ذلك محمد؟

قال: لا

قالوا: ويلك والله ما زاد الرجل على أن لعب بك فما يغني عنك ما قلت

قال: لا والله ما وجدت غير ذلك

 

التأهب لفتح مكة

واضطربت الاحوال  في  مكة عقب عودة أبى سفيان وإبلاغهم بما حدث لكن النبي – صلى الله عليه وسلم -  لم يتركها طويلا  في  اضطرابها فقد عقد العزم على فتح مكة، وتجهز النبي – صلى الله عليه وسلم - والمسلمون للخروج واستعان على أمره بالكتمان ثم أعلم الناس أنه سائر إلى مكة وأمرهم بالجد والاستعداد وقال: اللهم خذ العيون والأخبار عن قريش حتى نبغتها  في  بلادها

وكان الرسول - صلى الله عليه وسلم - لا يريد الدماء ويرد دخول مكة  في  سلام حتى لا تمس حرمتها وأن يدخل أهلها في الإسلام لينعم أهلها بنعمة الإيمان

وبينما الرسول – صلى الله عليه وسلم - والمسلمون على أمرهم من الاستعداد والكتمان حدثت محاولة من أحد الصحابة كادت أن تكشف نية المسلمين لمشركي مكة، فقد كتب حاطب بن أبى بلتعة كتابا إلى قريش يخبرهم بالذي أجمع عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الغزو، ثم أعطى حاطب الكتاب لامرأة وجعل لها جعلا على أن تبلغه قريشا فجعلته  في  قرون رأسها ثم خرجت به، وأتى رسول الله الخبر من السماء بما صنع حاطب فبعث رسول الله على بن أبى طالب والزبير بن العوام فقال أدركا امرأة قد كتب معها حاطب بن أبى بلتعة بكتاب إلى قريش يحذرهم ما قد أجمعنا له  في  أمرهم فخرجا حتى أدركاها بالحليفة فاستنزلاها  في  رحلها فلم يجدا شيئاً فقال لها على رضى الله عنه انى أحلف ما كذب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا كذبنا ولتخرجن الكتاب أو لنكشفنك، فلما رأت الجد منه قالت: أعرض فأعرض عنها فحلت قرون رأسها فاستخرجت الكتاب منها فدفعته اليه، فدعا رسول الله حاطبا

فقال :يا حاطب ما حملك على هذا؟

فقال : يا رسول الله – صلى الله عليه وسلم - أما والله إني لمؤمن بالله ورسوله ما غيرت ولا بدلت ولكني كنت امرأ ليس لي في القوم أصل ولا عشيرة وكان لي بين أظهرهم ولد وأهل فصانعتهم عليهم

فقال عمر بن الخطاب دعني يا رسول الله أضرب عنقه فإنه قد نافق

فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إنه قد شهد بدرا وما يدريك يا عمر لعل الله اطلع على أهل بدر فقال أعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم

 

وهكذا شفع لحاطب ماضيه الطيب مع الإسلام والمسلمين ونيته التي جعلته يتخذ هذا الموقف لا عن كفر أو بغض للإسلام وإنما مصانعة لقريش من أجل أهله وأولاده وقد سامحه الله على هذا الضعف الإنساني الذي تعرض له  في  هذا الموقف، و في  حاطب نزل قول الله - تعالى -: {يَا أَيٌّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُم أَولِيَاء تُلقُونَ إِلَيهِم بِالمَوَدَّةِ وَقَد كَفَرُوا بِمَا جَاءكُم مِّنَ الحَقِّ يُخرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُم أَن تُؤمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُم إِن كُنتُم خَرَجتُم جِهَاداً فِي سَبِيلِي وَابتِغَاء مَرضَاتِي تُسِرٌّونَ إِلَيهِم بِالمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعلَمُ بِمَا أَخفَيتُم وَمَا أَعلَنتُم وَمَن يَفعَلهُ مِنكُم فَقَد ضَلَّ سَوَاء السَّبِيلِ} سورة الممتحنة الآية 1

 

وتحرك الجيش مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى مكة  في  رمضان من السنة الثامنة للهجرة وكلما تقدموا انضم إليهم من سائر القبائل من يزيد  في  عدد المسلمين ومنعتهم حتى بلغوا مالا يقل عن عشرة آلاف مسلم، وصام الرسول – صلى الله عليه وسلم - وصام الناس معه حتى إذا كان بالكديد (قرية قرب مكة) أفطر ومضى حتى نزل \" مر الظهران \" على بعد ثلاثين كيلو مترا شرقي مكة فضربوا خيامهم فيه وعمى الله الاخبار عن قريش فلم يأتهم خبر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا يدرون ما هو فاعل وأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الجيش فأوقدوا النيران فأوقدت عشرة آلاف نار حتى أضاء منها الوادي

 

أبو سفيان يستطلع الأخبار

وحينما رأى القرشيون فجأة هذه المشاعل الكثيرة دهشوا ولم يعلموا حقيقة ما يرون فخرج منهم أبو سفيان بن حرب ومعه حكيم بن حزام وبديل بن ورقاء يتحسسون الأخبار

 

وكان العباس بن عبد المطلب قد خرج من مكة قبل ذلك بأهله وعياله مسلما مهاجرا إلى المدينة فقابلوا الرسول – صلى الله عليه وسلم -  في  الطريق مقبلا بجيشه على مكة، فأمره الرسول – صلى الله عليه وسلم - أن يعود معه إلى مكة ويرسل أهله إلى المدينة وقال له الرسول– صلى الله عليه وسلم -: هجرتك ياعم آخر هجرة كما أن نبوتي آخر نبوة

 

ورأى العباس بن عبد المطلب قوة جيش المسلمين ففكر  في  أمر قريش وماذا ستصنع أمام الرسول – صلى الله عليه وسلم -وجيشه وكان  في  قلق شديد على مكة أن تفتح عنوة فقال: \"واصباح قريش والله لئن دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مكة عنوة قبل أن يأتوه فيستأمنوه إنه لهلاك قريش إلى آخر الدهر\" وهداه تفكيره أن يخرج عسى أن يقابل أحدا يرسله إلى مكة ليخبر قريشا بما عزم عليه رسول الله ليخرجوا إليه فيستأمنوه قبل أن يدخلها عليهم عنوة، وبذلك يدخل الرسول مكة من غير أن تسفك دماء

 

وبينما هو كذلك سمع كلام أبى سفيان وبديل بن ورقاء (الذين بعثت بهم قريش ليتعرفوا لها خبر الجيش  في  مر الظهران كما ذكرنا) وهما يتراجعان، وأبو سفيان يقول: ما رأيت كالليلة نيرانا قط ولا عسكرا

فرد عليه بديل بن ورقاء: هذه والله خزاعة حمشتها (أحرقتها) الحرب

فرد عليه أبو سفيان: خزاعة أذل وأقل من أن تكون هذه نيران عسكرها، فعرف العباس صوت أبي سفيان فنادى يا أبا حنظلة

فعرف صوته فقال: أبو الفضل

فقال العباس نعم

فقال أبو سفيان: مالك؟ فداك أبي و أمي

فقال العباس: ويحك يا أبا سفيان هذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -  في  الناس واصباح قريش والله

قال فما الحيلة، فداك أبي و أمي

فقال له العباس والله لئن ظفر بك ليضربن عنقك فاركب عجز هذه البغلة حتى آتي بك رسول الله – صلى الله عليه وسلم -فأستأمن لك

وأركبه العباس و خشي عليه أن يدركه أحد المسلمين فيقتلة، وأتى بأبي سفيان إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلما رآه قال: ويحك يا أبا سفيان ألم يأن لك أن تعلم أنه لا إله إلا الله

قال أبو سفيان: بأبي أنت و أمي ما أحلمك وأكرمك وأوصلك والله لقد ظننت أن لو كان مع الله إله غيره لقد أغنى عني شيئا بعد

قال الرسول: ويحك يا أبا سفيان ألم يأن لك أن تعلم أني رسول الله؟

قال: بأبي أنت و أمي ما أحلمك وأكرمك وأوصلك أما هذه والله فإن في النفس منها حتى الآن شيئا

فقال العباس: ويحك أسلم وأشهد أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله قبل أن تضرب عنقك فأسلم وشهد شهادة الحق ثم أسلم حكيم بن حزام وبديل أبن ورقاء

 

وقال العباس للرسول – صلى الله عليه وسلم - إن أبا سفيان رجل يحب الفخر فاجعل له شيئا قال نعم من دخل دار أبي سفيان فهو آمن ومن أغلق بابه فهو آمن ومن دخل المسجد فهو آمن، وقد أرضاه الرسول - صلى الله عليه وسلم - كما يقول الشيخ الغزالي بما لا يضر أحد ولا يكلف جهدا فلما ذهب لينصرف قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم - يا عباس احبسه بمضيق الوادي عند خطم الجبل حتى تمر به جنود الله فيراها فلا تبقي في نفسه أثارة لمقاومة فخرج حتى حبسه بمضيق الوادي حيث أمره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يحبسه

 

و تحركت كتائب الفتح وكانت القبائل تمر على راياتها كلما مرت قبيلة سأل العباس عنها فيقول مالي ولبني فلان؟ حتى مر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -  في  كتيبة فيها المهاجرون والأنصار لا يرى منهم إلا الحدق من الحديد

فقال سبحان الله يا عباس من هؤلاء؟

قال: هذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -  في  المهاجرين والأنصار

فقال أبو سفيان: ما لأحد بهؤلاء قبل ولا طاقة والله يا أبا الفضل لقد أصبح ملك بان أخيك الغداة عظيما

فقال: العباس يا أبا سفيان إنها النبوة

قال: فنعم إذن

 

وقام أبو سفيان فصرخ بأعلى صوته يا معشر قريش هذا محمد قد جاءكم بما لا قبل لكم به فمن دخل دار أبي سفيان فهو آمن

فقامت إليه هند بنت عتبة فأخذت بشاربة فقالت اقتلوا الحميت (الضخم) الدسم الاحمس (الذي لا خير عنده) قبح من طليعة قوم

فقال أبو سفيان ويلكم لا تغرنكم هذه من أنفسكم فإنه قد جاءكم ما لا قبل لكم به، فمن دخل دار أبي سفيان فهو آمن

قالوا: قاتلك الله وما تغني عنا دارك

فقال ومن أغلق عليه بابه فهو آمن ومن دخل المسجد فهو آمن فتفرق الناس إلى الكعبة وإلى دورهم وأغلقوا أبوابهم ينتظرون ما يراد بهم

 

مناوشات قليلة

وقسم الرسول - صلى الله عليه وسلم - المسلمين إلى عدة فرق تدخل كل فرقة ناحية من نواحي مكة حتى يضع يده على المدينة كلها  في  وقت واحد، وأصدر أوامره المشددة إلى جميع الفرق ألا تقاتل أو تسفك دما إلا إذا أكرهت على ذلك إكراها، وأن يعف الجيش عن أموال أهل مكة وممتلكاتهم وأن يكفوا أيديهم عنها وكان تقسيم الجيش على الوجه التالي

خالد بن الوليد على الجناح الأيمن وعليه أن يدخل مكة من أسفلها.

الزبير بن العوام على الجناح الأيسر وعليه أن يدخل مكة من أعلاها عن طريق جبل كدى.

أبو عبيدة بن الجراح جعله على المهاجرين وعليهم أن يدخلوا مكة من أعلاها  في  حذاء جبل هند.

سعد بن عباده ويدخل مكة من جانبها الغربي ناحية جبل كداء ومعه الراية حتى نزعت منه كما سنذكر ودخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أذاخر حتى نزل بأعلى مكة وضربت له هنالك قبته.

 

وروى أن سعد بن عبادة قال  في  ذلك (اليوم يوم الملحمة اليوم تستحل الحرمة اليوم أذل الله قريشا) فشكا أبو سفيان إلى رسول الله ما سمعه من سعد بن عبادة فاستنكر رسول الله ذلك وقال: بل اليوم يوم المرحمة اليوم يعز الله قريشا ويعظم الله الكعبة

 

ودخلت الجيوش كلها مكة فلم تلق منها مقاومة إلا مناوشات قليلة بقيادة صفوان بن أمية وعكرمة بن أبى جهل وسهيل بن عمر من قريش وبين أصحاب خالد بن الوليد  في  الخندمه وهو مكان أسفل مكة، وأصيب من المشركين كما يقول ابن اسحاق ثلاثة عشر رجلا ثم انهزموا، وتم الاستيلاء على جميع أطراف مكة وضواحيها ودخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مكة وهو خافض رأسه تواضعا لله - عز وجل - حين رأى ما أكرمه الله به من الفتح حتى أن ذقنه ليكاد يمس واسطة الرحل ودخل وهو يقرأ سورة الفتح، وكان ذلك صبح يوم الجمعة لعشرين ليلة خلت من رمضان سنة ثمان من الهجرة

 

وانطلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى وصل البيت فطاف بالبيت سبعا، وكان  في  يده قوس وحول الكعبة ثلاثمائة وستون صنما فجعل كلما مر بصنم طعنها بالقوس ويقول: \"جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا\" والأصنام تتساقط على وجوهها

 

ورأى  في  الكعبة الصور والتماثيل فأمر بالصور فطمست وبالتماثيل فكسرت، وكان مما رآه صور الملائكة وغيرها فرأى إبراهيم - عليه السلام - مصورا  في  يده الأزلام ويستقسم بها فقال قاتلهم الله جعلوا شيخنا يستقسم بالأزلام ما شأن إبراهيم والأزلام {مَا كَانَ إِبرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلاَ نَصرَانِيّاً وَلَكِن كَانَ حَنِيفاً مٌّسلِماً وَمَا كَانَ مِنَ المُشرِكِينَ} - سورة آل عمران آية 67

ولما قضى - عليه الصلاة والسلام - طوافة دعا عثمان بن طلحة فأخذ منه مفتاح الكعبة ففتحت له ودخل ثم أعادها - عليه السلام - لعثمان قائلاً: خذوها يا بنى طلحة خالدة لا ينزعها منكم إلا ظالم

وتكاثر الناس حول الرسول  في  المسجد حتى امتلأ وهم ينظرون ماذا سيصنع الرسول – صلى الله عليه وسلم -بهم وقد مكنه الله منهم فنظر إليهم الرسول ثم قال: لا اله إلا الله وحده لا شريك له صدق وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده يا معشر قريش إن الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية وتعظمها بالآباء الناس من آدم وآدم من تراب ثم تلا هذه الآية: {يَا أَيٌّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقنَاكُم مِّن ذَكَرٍ, وَأُنثَى وَجَعَلنَاكُم شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكرَمَكُم عِندَ اللَّهِ أَتقَاكُم إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} سورة الحجرات آية 13

 

ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يا معشر قريش ما ترون أني فاعل بكم؟

قالوا خيراً أخ كريم وابن أخ كريم

قال فإني أقول لكم كما قال يوسف لأخوته \"لا تثريب عليكم اليوم\" أذهبوا فانتم الطلقاء

وأمر بلالا أن يصعد فيؤذن على الكعبة ورؤساء قريش وأشرافهم يسمعون كلمة الله تعلو وصداها يتردد  في  أرجاء مكة، ودخل الرسول دار أم هانىء بنت أبى طالب فاغتسل وصلى ثماني ركعات صلاة الفتح شكر الله - تعالى -على ما انعم به عليه

 

وبهذه الكلمات والتصرفات عفا الرسول عن كل شئ وتناسى كل إساءة وتجاوز عن جرائم قريش الماضية كلها حتى لقد امتد عفوه فشمل من كان قد أهدر دماءهم عند دخول مكة وإن تعلقوا بأستار الكعبة وقبل شفاعة من لم ينفذ فيه القتل منهم ورأت قريش تلك السماحة وذلك الكرم ففتحت للرسول قلوبها فكان هذا الفتح بلا شك أجل وأعظم من أن تصل إليه سيوف المسلمين فقد لانت أفئدة ما كانت لتلين ورقت القلوب القاسية والتفت حول الرسول  في  إعجاب بالغ على الصفا حين جلس للبيعة

 

بين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهند بنت عتبة

جلس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الصفا واجتمع الناس حوله لبيعه على الإسلام فأخذ عليهم العهد بالسمع والطاعة لله ولرسوله فيما استطاعوا، ولما فرغ من بيعة الرجال بايع النساء وفيهن هند بنت عتبة زوج أبى سفيان متنقبة متنكرة لما كان من صنيعها بحمزة عم النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال رسول الله صلى - صلى الله عليه وسلم - لهن: بايعنني على ألا تشركن بالله شيئا

فقالت هند: والله إنك لتأخذ علينا أمرا لا تأخذه على الرجال وسنؤتيكه

فقال النبي: ولا تسرقن

فقالت: والله إني كنت أصبت من مال أبى سفيان الهنة وما كنت أدري أكان حلا لي أم لا؟

فقال أبو سفيان وكان شاهدا لما تقول: أما ما أصبت فيما مضى فأنت منه في حل

فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: وإنك لهند بنت عتبة؟

قالت: نعم فاعف عما سلف عفا الله عنك

ثم قال: ولا تزنين

فقالت: يا رسول الله وهل تزني الحرة

ولما قال: ولا تقتلن أولادكن

قالت: ربيناهم صغارا وقتلتهم يوم بدر كبارا فأنت وهم أعلم

فضحك عمر بن الخطاب من قولها حتى استغرب أي بالغ  في  الضحك

فقال الرسول - صلى الله عليه وسلم -: ولا تأتين بهتان تفترينه بين أيديكن وأرجلكن

قالت: والله إن إتيان البهتان لقبيح ولبعض التجاوز أمثل

ثم قال: ولا تعصينني في معروف

قالت: ما جلسنا هذا المجلس ونحن نريد نعصيك  في  معروف

فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا يصافح النساء ولا يمس امرأة ولا تسمه إلا امرأة أحلها الله له أو ذات محرم منه

 

تخوف الأنصار من بقاء الرسول بمكة

ولما فتح الله مكة على رسوله وهى بلده و وطنه وأحب بلاد الله الى قلبه-تحدث الأنصار فيما بينهم فقالوا: أترون رسول الله إذ فتح الله عليه أرضه وبلده يقيم بها؟

وسأل رسول الله الأنصار عن حديثهم ولا يعرفه غيرهم فاستحيوا فقال لهم الرسول - صلى الله عليه وسلم -: معاذا الله المحيا محياكم والممات مماتكم فاطمأنت قلوبهم وضرب الرسول بذلك أروع المثل  في  البر والوفاء

 

إسلام فضالة

وعندما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالمسجد يطوف بالبيت اقترب منه فضالة بن عمير وهم بقتله فلما دنا منه قال له: أي فضالة

قال: نعم يا رسول الله

فقال له الرسول– صلى الله عليه وسلم -: ماذا كنت تحدث به نفسك؟

قال: لا شيء كنت أذكر الله

فضحك النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم قال: استغفر الله ثم وضع يده على صدره فسكن قلبه

وكان فضالة يقول والله ما رفع يده عن صدري حتى ما خلق الله شيئا أحب إلي منه ورجع فضالة إلى أهله فمر بأمراة كان يتحدث إليها فقالت هلم إلى الحديث فقال لا وانبعث فضالة يقول :

قالت هلم إلى الحديث فقلت *** لا يأبى عليك الله والإسلام

لو ما رأيت محمدا وقبيله *** بالفتح يوم تكسر الأصنام

لرأيت دين الله أضحى بيننا *** والشرك يغشى وجهة الإظلام

 

تطهير ضواحي مكة من الأصنام

وأقام الرسول – صلى الله عليه وسلم - بمكة بضعة عشرة يوما ينظم شئونها ويفقه أهلها في الدين وفي هذه الأثناء بعث السرايا للدعوة على الإسلام لا للقتال ولتحطيم الأصنام من غير سفك الدماء فوجه خالد بن الوليد لهدم صنم \"العزى\" أكبر أصنام قريش وأرسل عمرو بن العاص لهدم\"سواع\" وهو أكبر أصنام هذيل وبعث سعد بن زيد الاشهلي لهدم \"مناة\" وقد عادت كل هذه السرايا مكللة بالنجاح وذهبت هيبة الأوثان من النفوس وزال سلطانها

 

سرية خالد بن الوليد إلى بنى خزيمة

 في  شوال سنة ثمان قبل الخروج إلى حنين عند جميع أهل المغازي وقد بعثه - عليه الصلاة والسلام - لما رجع من هدم العزى والرسول مقيم بمكة وبعث معه ثلاثمائة وخمسين رجلا داعيا الى الإسلام

 

حرمة مكة

وقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم -  في  مكة خطيبا فأعلن حرمة مكة إلى يوم القيامة \"لا يحل لامرء يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك فيها دما أو يعضد (يقطع) بها شجرة\" وقال: \"لم تحلل لأحد كان قبلي ولا تحل لأحد يكون بعدي\" ثم إنصرف راجعا إلى المدينة

 

أثر فتح مكة

وكان لفتح مكة أثر عميق  في  نفوس العرب فشرح الله صدر كثير منهم للإسلام، وأقبلوا على الإسلام إقبالا لم يعرف قبل ذلك وصاروا يدخلون  في  دين الله أفواجا

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply