أقول - مستعينا بالله - : كل رسالة واجهت مجتمعا مستمسكا بمجموعة من القيم والأعراف والتقاليد الخاطئة التي تصفها الرسالة بأنها كفر بالله، جملةُ هذه التقاليد تقوم على نوعين من الخطأ:
أولهما: التقرب والتوجه إلى غير الله بالنسك.
ثانيهما: الطاعة والتشريع والإتباع من دون الله.
ويتحرك هذا المجتمع بإرادة واعية أو غير واعية للمحافظة على وجوده ضد دعوات الرسل، وفي التنزيل \" قالوا أجئتنا لتلفتنا عن ما وجدنا عليه آباءنا وتكون لكما الكبرياء في الأرض وما نحن لكما بمؤمنين \" [يونس: 78]، وفي التنزيل \" قالوا أجئتنا لنعبد الله وحده ونذر ما كان يعبد آباؤنا \" [الأعراف: 70]، وفي التنزيل \". وقال فرعون ذروني أقتل موسى وليدع ربه إني أخاف أن يبدل دينكم أو أن يظهر في الأرض الفساد \" [غافر: 26].
ومن يتدبر يجد أن شرك الطاعة هو أساس شرك النسك، فلولا طاعة عمرو بن لحي - مثلا - لما عُبدت الأصنام في جزيرة العرب.
ولولا طاعة كل قوم لكبرائهم لما ضل مًن ضل: \" وقالوا ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا \" [الأحزاب: 67].
ونجد في القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة حصر لمفهوم العبادة في الطاعة.
قال - تعالى -: \" ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين \" [يس: 60]
وعبادة الشيطان هي طاعته
وقال - تعالى - :\" اتخذوا أحبارهم ورهبابهم أربابا من دون الله والمسيح بن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحنه وتعالى عما يشركون [التوبة: 31] \"
سمع عدي بن حاتم الطائي - رضي الله عنه - هذه الآية من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاعترض قائلا: (إِنَّهُم لَم يَعبُدُوهُم) فَقَالَ - صلى الله عليه وسلم -: (بَلَى إِنَّهُم حَرَّمُوا عَلَيهِم الحَلَال وَأَحَلٌّوا لَهُم الحَرَام فَاتَّبَعُوهُم فَذَلِكَ عِبَادَتهم إِيَّاهُم).
يقول بن كثير: قَالَ حُذَيفَة بن اليَمَان وَعَبد اللَّه بن عَبَّاس وَغَيرهمَا فِي تَفسِير \" اِتَّخَذُوا أَحبَارهم وَرُهبَانهم أَربَابًا مِن دُون اللَّه \" إنَّهُم اِتَّبَعُوهُم فِيمَا حَلَّلُوا وَحَرَّمُوا وَقَالَ السٌّدِّيّ اِستَنصَحُوا الرِّجَال وَنَبَذُوا كِتَاب اللَّه وَرَاء ظُهُورهم وَلِهَذَا قَالَ - تعالى - :\" وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا \" أَي الَّذِي إِذَا حَرَّمَ الشَّيء فَهُوَ الحَرَام وَمَا حَلَّلَهُ فَهُوَ الحَلَال وَمَا شَرَعَهُ اُتٌّبِعَ.
فسم الله ورسوله الإتباع في التحليل والتحريم عبادة، كما سمى المحللون والمحرمون - المشرعون آلهة -
ومثل هذا قول الله - تعالى -: \" قُل يَا أَهلَ الكِتَابِ تَعَالَوا إِلَى كَلِمَةٍ, سَوَاءٍ, بَينَنَا وَبَينَكُم أَلَّا نَعبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشرِكَ بِهِ شَيئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعضُنَا بَعضًا أَربَابًا مِن دُونِ اللَّهِ فَإِن تَوَلَّوا فَقُولُوا اشهَدُوا بِأَنَّا مُسلِمُونَ [آل عمران: 64]
وهذا المعنى هو الذي فهمه الصحابة - رضوان الله عليهم- ، فهذا ربعي بن عامر - رضي الله عنه - يخاطب رستم \" الله ابتعثنا، والله جاء بنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام \" ثم لم تكن الدعوة قرشية أو عربية، ولم تكن الحركات التي ظهرت في التاريخ الإسلامي وخاصة الفرق التي ظهرت في القرون الأولى حركات شعوبية- باستثناء حركة الزنوج - ضد العرب بل كانت حركات عقدية منحرفة، وكان رؤوسها عرب وسبب نشأتها خلافات دينية.
وهذا الطرح لا بد أن يعمل على ربط العقيدة الصحيحة... وأهداف الدعوة الكلية التي هي تعبيد الناس لله، بأحداث السيرة.
والخلل الملحوظ الذي كتبتُ من أجله هذه الفقرة هو أن كثيرا من الكتاب والخطباء الذين يكتبون السيرة النبوية أو يلقون فيها دروسا، يحصرون قضية الخلاف بين الجاهلية والدعوة في عبادة الأصنام وبعض القضايا الأخلاقية مثل تحريم الزنا وشرب الخمر ووأد البنات، وأن الغزوات كانت لمعالجة مشاكل الجوار ولأمور اقتصادية ونحو ذلك وهو من البتر الذي لا يُقبل بحال.
والمراد: أنه حين دراسة السيرة النبوية أو عرضها على الناس لا يفهم أبدا أن الخلاف بين الدعوة والجاهلية القائمة كان في بعض العادات الجاهلية السيئة مثل وأد البنات والزنا وشرب الخمر ورفع الظلم عن الضعفاء، وبعض مظاهر شرك النسك من عبادة الأصنام والاستقسام بالأزلام... الخ.
وإنما كانت ولا زالت القضية الكبرى التي انبثقت منها باقي القضايا هي قضية الطاعة لمن، أو السلطان يكون لمن؟ أو بتعبير آخر من تعبد؟ الله في صورة شرعة؟ أم الشيطان في صورة المناهج الأرضية التي زينها لأوليائه؟
فمن عبد الأصنام إنما عبدها طاعة للأولياء الشيطان، ومن اعتقد التثليث وكفر بمحمد - صلى الله عليه وسلم - إنما فعل ذلك طاعة لأولياء الشيطان، قصد أم لم يقصد.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد