إن الإسلام لم يأت لينكر طبائع الناس وفطرتهم التي فطرهم الله عليها، وإنما أتى ليجعل هذه الفطرة متساوقة مع المنهج الإلهي، الأمر الذي ينظم حياة الإنسان في شتى مجالاتها بحيث لا يطغى جانب على جانب. والرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم - ينبه إلى هذا حينما يقرر هذه الحقائق:
قال - صلى الله عليه وسلم -: [لو كان لابن آدم واديان من ذهبٍ, لابتغى وادياً ثالثاً، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب، ويتوب الله على من تاب] (رواه مسلم/1048).
وقال - صلى الله عليه وسلم -: [يهرم ابن آدم وتشب منه اثنتان: الحرص على المال، والحرص على العمر] (رواه مسلم/1047).
إنه التقرير للحقائق، وعدم الاعتراف بذلك جهل، ومحاولة إلغائها جهل أكبر، ولكن الإسلام جاء ليضبط مسارها ويوجهها لتؤدي دورها وفق منهج الله - تعالى -.
ونحن في هذه الدراسة لسنا بصدد وضع النظريات..وإنما نحاول تسجيل الواقع من خلال الزمن الذي بيناه سابقاً..وبما أن التربية النبوية قد غطت جميع مسارب النفس، فلا بد من الحديث عن التربية الاقتصادية، وما نبحثه هنا إن كان خطا عاماً.. ولكن نستطيع القول: إن تربية النفوس عليه كانت في هذه المرحلة. وأستطيع أن ألخص المعالجة النبوية الكريمة بالنقاط التالية.
1- غنى النفس:
لا شك بأن كل إنسان حريص على كثرة أمواله وهو ما يعبر عنه بالغنى، وهذا الحرص كما مر في الحديث السابق غريزة قائمة في النفس الإنسانية، ويحرص الإسلام على تعديل هذا المعنى.
فقد جاء في حديث أبي ذر - رضي الله عنه - قال: قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - [يا أبا ذر، أترى كثرة المال هو الغنى؟ قلت: نعم، قال: وترى قلة المال هو الفقر؟ قلت نعم يا رسول الله. قال: إنما الغنى غنى القلب، والفقر فقر القلب] (رواه ابن حبان /فتح الباري11/272).
وهكذا يطرح الرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم - معنى آخر للغنى غير ما تعارف عليه الناس، وهو لا يعني خطأ ما تعارف عليه الناس، وإنما ارتقى - صلى الله عليه وسلم - بمعنى الغنى إلى مقام أرفع.
وغنى القلب يعني عدم تقبل المال من كل سبيل، بل مما أحله الله - تعالى -، وعدم التطلع إلى ما في أيدي الناس، لأنه استغنى بما عنده وبما كتب له عند الله - تعالى -.
وقد سلك - صلى الله عليه وسلم - في تقرير هذا المعنى في نفوس أصحابه كل الطرق المجدية..
فعن عمرو بن تغلب - رضي الله عنه - قال: أعطى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قوماً ومنع آخرين، فكأنهم عتبوا عليه، فقال: [إني أعطي قوماً أخاف ظَلَعَهم ـ اعوجاجهم ـ وجزعهم، وأكل أقواماً إلى ما جعل الله في قلوبهم من الخير والغنى، منهم عمرو بن تغلب] فقال عمرو بن تغلب: والله ما أحبٌّ أن لي بكلمة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حمر النعم] (رواه البخاري/3145).
ومن هذا المنطلق يصبح عدم العطاء هو المرغوب وهو الذي يسعى إليه. أرأيت كيف تُعدّل المعاني في الاتجاه الصحيح؟.
وفي سبيل استشعار الغنى يضع الرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم - الوسائل النفسية بين الأيديº حتى تكون في متناول الجميع في سبيل الوصول إلى المعنى المطلوب وهو (غنى النفس) فيقول: [إذا نظر أحدكم إلى من فضّل عليه في المال والخـَلق فلينظر إلى من هو أسفل منه ممن فضّل عليه] (رواه البخاري6490، ومسلم2963).
وفي رواية: [انظروا إلى من أسفل منكم ولا تنظروا إلى من هو فوقكم، فهو أجدر أن لا تزدروا نعمة الله] (من رواية مسلم2963).
وبهذا يشعر الإنسان بنعم الله عليه، وتعرض نفسه عن التطلع إلى ما في أيدي الناس، فيرتاح هو نفسياً في الدرجة الأولى، فلا يجد الحسد في نفسه مقراً له، وبالتالي يكون الناس سعداء به طالما أنه لا يتطلع إلى ما في أيديهم..
وعندما تستكمل هذه المعاني في النفس تصل إلى درجة الغنى التي عناها النبي الكريم بقوله: [ليس الغني عن كثرة العرض، ولكن الغنى غنى النفس] (رواه البخاري/6446، ومسلم 1015).
2- العمـل:
لا يتوفر للإنسان غنى النفس إلا إذا استطاع الاستغناء عن حاجته إلى الآخرين، وهذا إنما يتوفر بإحدى وسيلتين أو بهما معاً، وسيلة نفسية وأخرى مادية:
أما النفسية فإن حديث أبي سعيد الخدري يرشدنا إليها.
قال - رضي الله عنه -: إن ناساً من الأنصار سألوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأعطاهم، ثم سألوه فأعطاهم، حتى نفد ما عنده، فقال: [ما يكون عندي من خير فلن أدخره عنكم. من يستعفف يعفّه الله، ومن يستغنِ يغنه الله، ومن يتصبَّر يصبِّره الله، وما أعطيَ أحد عطاء خيراً وأوسع من الصبر] (رواه البخاري/1469).
هذه هي الوسائل النفسية: التعفف، الاستغناء، الصبر.
وأما الوسيلة المادية فهي الاستغناء عن الحاجة إلى الناس بالعمل. أياً كان هذا العمل طالما أنه فيما أحلَّ الله - تعالى -. وفي هذا قضاء على المفهوم السائد لدى العرب قديماً، وهو امتهان أصحاب الصنعات من حدادة ونجارة وحتى الزارعة. ولننظر إلى الحديث التالي وهو يحض على العمل،
قال - صلى الله عليه وسلم -: [لأن يأخذ أحدكم حبله فيأتي بحزمة الحطب على ظهره، فيبيعها فيكف الله بها وجهه، خير له من أن يسأل الناس أعطوه أو منعوه] (رواه البخاري/1471).
هذه المهنة البسيطة خير من المسألة.. وهو أمر لا يشك فيه عاقل، إن الحاجة إلى الناس أمر مذل، وإذا كان الاحتطاب يغني عن ذلك فهو الخير كل الخير.
وتطبيقاً لهذه المعاني عمل أهل مكة بالزراعة كما رأينا من الزبير - رضي الله عنه -. وحملت أسماء بنت أبي بكر النوى على رأسها يومياً مسافة كبيرة.
3- الاكتفاء الذاتي:
اتجهت التربية الاقتصادية بالفرد في هذه المرحلة نحو الاكتفاء الذاتي، الذي نعني به: اعتماد الفرد على دخله الخاص، بحيث تكون مصروفاته في حدود دخله أو أقل من ذلكº الأمر الذي لا يحوجه إلى الاستدانة من الآخرين.
وهذا الخطة تعني أن يضغط المرء مصروفاته إذا كان دخله قليلاً، وأن يعوَّد نفسه الصبر عن كثير من حاجياته.
وبهذا يسهم كل فرد بشكل مباشرٍ, في دعم اقتصاد الأمة، فحيثما يتكفل الفرد بنفسه اقتصادياً يكون قد خطى خطوة عظيمة في أنه قلل عدد المحتاجين للمساعدة وبهذا تخف الأعباء على الدولة.. وإذا خطى الفرد الخطوة الثانية، وهي المساهمة في تحمل أعباء غيره، فهذا يكون إحسانه مضاعفاً.
نلمح هذا الاتجاه من دعوة الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى تقليل المصروفات بحيث لا يكون عند الإنسان شيء لا يحتاجه عملياً، وهذا ما أرشد إليه الحديث التالي:
عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال له: [فراش للرجل، وفراش لامرأته، والثالث للضيف، والرابع للشيطان] (رواه مسلم 2084).
إذا قسنا على الفراش كل الحاجات الأخرى التي قد يحتويها بيت الإنسان أمكننا أن نتفهم كيف أنه يمكن تقليل هذه المصروفات إلى حد كبير.
ونلمح الاتجاه الثاني لتحقيق الاكتفاء الذاتي، وهو البعد عن الاستدانة من الآخرين من النص التالي، عن سلمة بن الأكوع قال: [كنا جلوساً عند النبي - صلى الله عليه وسلم - إذ أُتيَ بجنازة فقالوا: صلِّ عليها، فقال: هل عليه دين؟ قالوا: لا، قال: فهل ترك شيئاً؟ قالوا: لا، فصلى عليه.
ثم أتى بجنازة أخرى، فقالوا: يا رسول الله صلِّ عليها، قال: هل عليه دين؟ قيل: نعم، قال فهل ترك شيئاً؟ قالو ا: ثلاثة دنانير، فصلى عليها.
ثم أتى بالثالثة فقالوا: صلِّ عليها، قال: هل ترك شيئاً؟ قالوا: لا، قال: فهل عليه دين؟ قالوا: ثلاثة نانير، قال: صلوا على صاحبكم]. قال أبو قتادة: صلَّ عليه يا رسول الله، وعليَّ دينه، فصلى عليه] (رواه البخاري/2289).
وعن أبي هريرة: \" أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يؤتى بالرجل الميت، عليه الدين، فيسأل: هل ترك لدينه من قضاء؟ فإن حُدِّث أنه ترك وفاء صلى عليه، وإلا قال: [صلوا على صاحبكم] \" (رواه البخاري/2298، ومسلم/1619).
ومن الحديثين يتبين أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يصلي على الميت الذي عليه دين ولم يترك وفاء له، (يلاحظ أن ذلك كان خاصاً بهذه المرحلة، فلما فتح الله عليه بعد ذلك قال: [أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم].
وإذا علمنا كم هو حرص كل صحابي إذا مات أن يصلي عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، بل حرص المسلمين كلهم، تبين لنا أن هناك إرشاداً نبوياً كريماً غير مباشر بالابتعاد عن الدَّين، وهذه قضية كما وضحنا تحتاج إلى اتخاذ العدة لها من صبر أحياناً، وتنازل عن بعض الحاجيات أو الضروريات أحياناً أخرى بل إنه - صلى الله عليه وسلم - أراد من بعض أصحابه أن ترتقي هممهم إلى مستوى عالٍ, يصل بهم إلى عدم سؤال الناس، ويدخل ضمن ذلك الدَّين. لكنَّ هذا كان لفئة خاصة، لأن هذه القضية إنما تستطيعها القلة من الناس ولنستمع إلى الحديث الشريف في ذلك.
عن عوف بن مالك الأشجعي قال: (كنا عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، تسعة أو ثمانية أو سبعة فقال: [ألا تبايعون رسول الله؟ قلنا: فعلام نبايعك؟ قال: على أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً، والصلوات الخمس، وتطيعوا، وأسرَّ كلمة خفية، ولا تسألوا الناس شيئاً] فلقد رأيت بعض أولئك النفر يسقط سوط أحدهم فما يسأل أحداً يناوله إياه] (رواه مسلم /1043).
4- تربية على العطاء:
جاء في الحديث الشريف عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال ـ وهو على المنبر ـ وهو يذكر الصدقة والتعفف عن المسألة: [اليد العليا خير من اليد السفلى، واليد العليا المنفقة، والسفلى السائلة] (رواه مسلم/1033).
وقد سعى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جهده في سبيل أن تكون كل يد مؤمنة هي العليا، وذلك بالتنفير من المسألة، والحث على الصدقة، مهما كانت هذه الصدقة قليلة، ففي حديث عدي بن حاتم، قال: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: [من استطاع منكم أن يستتر من النار ولو بشق تمرة فليفعل] (رواه مسلم /1016).
وأن يكون المسلم من المساهمين في دفع الصدقة فذلك يعني أنه في الجانب الإيجابي من المجتمع مهما قل عطاؤه، وذلك ما يسعى إليه المنهج الإسلامي.
ويرتفع المستوى الاقتصادي للمجتمع بمقدار ما يكثر فيه المعطون وبمقدار ما يقل فيه الآخذون..
ولقد آتت هذه التربية ثمارها حتى بلغت حداً غير متصور إلا في المجتمع الإسلامي.
عندما تطلب منك الصدقة وليس عندك شيء فكيف تشارك؟ إن فاقد الشيء لا يعطيه كما هو معلوم.
ولكن الصحابة وجدوا لذلك مخرجاً، ولندع أبا مسعود الأنصاري يحدثنا عن ذلك:
قال أبو مسعود: [كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أمر بالصدقة انطلق أحدنا إلى السوق فيحامل فيصيب المد.. وإن لبعضهم لمائة ألف. قال: ما نراه إلا نفسه] (رواه البخاري/2273، 1417ومسلم في الزكاة /72).
يقول أبو مسعود الأنصاري - رضي الله عنه -، إنه كثيراً ما يأمر - صلى الله عليه وسلم - بالصدقة، فلا يكون في ملك بعضهم ما يتصدق به، فيذهب إلى السوق فيحمل للناس أمتعتهم مقابل أجر.. قد يكون هذا الأجر مداً من تمر أو شعير.. فيأتي فيتصدق به.
وبهذا المسلك تحول الإنسان الذي لا يملك شيئاً إلى عضو فعال إيجابي في هذا المجتمع.
وبهذه التربية فتح الباب أمام كل إنسان أن يكون معطاء، يمثل اليد العليا التي تكلم عنها الرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم -.
وفي رواية النسائي: [ينطلق إلى السوق فيحمل على ظهره] (فتح الباري 4/450).
يحصل هذا في الوقت الذي كان العربي فيه يأنف أن يكون صاحب صنعة فضلاً عن أن يقوم بعملية الحمل التي هي مهنة الأرقاء والعبيد يومئذ، أليس هذا تغيراً جذرياً في بنية المجتمع؟! إنه الإسلام.
وأما تتمة الحديث [وإن لبعضهم لمائة ألف] وفي رواية النسائي: [وما كان له يومئذ درهم.. ] لتبين كيف أن هذا الجيل وحده استطاع بفضل الإسلام أن ينتقل تلك النقلة البعيدة في كل الميادين، والميدان الاقتصادي هو أحدها، فالذي كان يحمل على ظهره ليتصدق بأجرته يمتلك يوم حدث هذه الحديث مائة ألف.
تلك هي معالم التربية الاقتصادية التي نشَّأ عليها الرسول - صلى الله عليه وسلم - أصحابه في هذه المرحلة العصيبة من عمر الدعوة.. وهي المعالم التي لا بد من سلوكها إذا أريد للمسلمين أن يأخذوا دورهم مرة أخرى.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد