إجلاء يهود بني النضير


 

بسم الله الرحمن الرحيم

أصاب يهود المدينة، الخوف والرعب، طيلة الفترة التي تفصل بين مقتل كعب بن الأشرف، وبين معركة أحد التي جرت في شوال عام 3هـ، ولكن الهزيمة التي حلت بالمسلمين في تلك المعركة، أحيت في نفوس المشركين والمنافقين الأمل من جديد، بتحقيق مطامعهم وأغراضهم، وأزالت من قلوب اليهود الهلع على المصير، ومما ساهم في تبديد هذا الهلع عندهم مقتل أصحاب الرجيع، وبئر معونة، وبذلك لم يدم خوف اليهود طويلا وعادوا إلى أساليب الدس والمكر والخداع، وشرعوا في حشد حصونهم بالسلاح والعتاد للانقضاض على المسلمين ودولتهم، ثم صمموا على قتل النبي - صلى الله عليه وسلم - والغدر به (1).

 

أولاً:تاريخ الغزوة وأسبابها:

أ- تاريخ الغزوة:

يرى المحققون من المؤرخين أن غزوة بني النضير كانت بعد أحد في ربيع الأول من السنة الرابعة من الهجرة، وقد رد ابن القيم على من زعم أن غزوة بني النضير بعد بدر بستة أشهر بقوله: وزعم محمد بن شهاب الزهري أن غزوة بني النضير كانت بعد بدر بستة أشهر، وهذا وَهم منه، أو غلط عليه، بل الذي لا شك فيه: أنها بعد أُحُدٍ, والذي كانت بعد بدر بستة أشهر، هي غزوة بني قينقاع، وقريظة بعد الخندق، وخيبر بعد الحديبية(2).

وقال ابن العربي: والصحيح أنها بعد أُحُد(3). وإلى هذا الرأي ذهب ابن كثير(4).

 

ب- أسباب الغزوة:

هناك مجموعة من الأسباب حملت النبي - صلى الله عليه وسلم - على غزوة بني النضير وإجلائهم من أهمها:

1- نَقض بني النضير عهودهم التي تحتم عليهم ألا يؤووا عدوًا للمسلمين، ولم يكتفوا بهذا النقض، بل أرشدوا الأعداء إلى مواطن الضعف في المدينة.

وقد حصل ذلك في غزوة السويق(5) حيث نذر أبو سفيان بن حرب حين رجع إلى مكة بعد غزوة بدر، نذر ألا يمس رأسه ماء من جنابة حتى يغزو المدينة، فلما خرج في مائتي راكب قاصدًا المدينة قام سيد بني النضير سلام بن مشكم بالوقوف معه وضيافته وأبطن له خبر الناس، ولم تكن مخابرات المدينة غافلة عن ذلك(6).

 

قال موسى بن عقبة صاحب المغازي: (كانت بنو النضير قد دسوا إلى قريش وحصونهم على قتال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ودلوهم على العورة)(7).

 

2- محاولة اغتيال النبي - صلى الله عليه وسلم -: خرج النبي - صلى الله عليه وسلم - في نفر من أصحابه عن طريق قباء إلى ديار بني النضير يستعينهم في دية القتيلين العامرين اللذين ذهبا ضحية جهل عمرو بن أمية الضمري بجوار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لهماº وذلك تنفيذا للعهد الذي كان بين النبي - صلى الله عليه وسلم - وبين بني النضير حول أداء الديات، وإقرارًا لما كان يقوم بين بني النضير وبين بني عامر من عقود وأحلاف.

 

استقبل بنو النضير النبي - صلى الله عليه وسلم - بكثير من البشاشة والكياسة، ثم خلا بعضهم إلى بعض يتشاورون في قتله والغدر به، ويبدو أنهم اتفقوا على إلقاء صخرة عليه - صلى الله عليه وسلم -، من فوق جدار كان يجلس بالقرب منه، ولكن الرسول - صلى الله عليه وسلم - الذي كان برعاية الله وحفظه أدرك مقاصد بني النضير، إذ جاءه الخبر من السماء بما عزموا عليه من شر، فنهض وانطلق بسرعة إلى المدينة، ثم تبعه أصحابه بعد قليل(8).

 

لم تكن مؤامرة بني النضير، التي أفشلها الله - سبحانه وتعالى - تستهدف شخص النبي - صلى الله عليه وسلم - فحسب، بل كانت تستهدف كذلك دولة المدينة والدعوة الإسلامية برمتهاº لذا صمم محمد - صلى الله عليه وسلم - على محاربة بني النضير، الذين نقضوا العهد والمواثيق معه وأمر أصحابه بالتهيؤ لقتالهم والسير إليهم(9).

 

هذه الأسباب وغيرها أدت إلى غزوة بني النضير، وقد ذكَّر القرآن الكريم المؤمنين بهذه النعمة الجليلة وكيف نجى الله نبيه - صلى الله عليه وسلم - من مكر يهود بني النضير، قال - تعالى -: (يَا أَيٌّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذكُرُوا نِعمَتَ اللهِ عَلَيكُم إِذ هَمَّ قَومٌ أَن يَبسُطُوا إِلَيكُم أَيدِيَهُم فَكَفَّ أَيدِيَهُم عَنكُم وَاتَّقُوا اللهَ وَعَلَى اللهِ فَليَتَوَكَّلِ المُؤمِنُونَ) [المائدة: 11].

 

وقد أورد المفسرون في سبب نزول هذه الآية الكريمة روايات منها:

أخرج الطبري عن أبي زياد قال: جاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بني النضير ليستعينهم في عقل أصحابه ومعه أبو بكر وعمر وعلي فقال: «أعينوني في عقل أصابني» فقالوا: نعم يا أبا القاسم قد آن لك أن تأتينا وتسألنا حاجة، اجلس حتى نطعمك ونعطيك الذي تسألنا، فجلس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه ينتظرون وجاء رأس القوم، وهو الذي قال لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما قال، فقال لأصحابه: لا ترون أقرب منه الآن، اطرحوا عليه حجارة فاقتلوه، ولا ترون شرًّا أبدًا. فجاءوا إلى رحى لهم عظيمة ليطرحوها عليه، فأمسك الله عنها أيديهم حتى جاء جبريل - عليه السلام - فأقامه من ثم، فأنزل الله - عز وجل -: (يَا أَيٌّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذكُرُوا نِعمَتَ اللهِ عَلَيكُم إِذ هَمَّ قَومٌ أَن يَبسُطُوا إِلَيكُم أَيدِيَهُم فَكَفَّ أَيدِيَهُم عَنكُم وَاتَّقُوا اللهَ وَعَلَى اللهِ فَليَتَوَكَّلِ المُؤمِنُونَ) فأخبر الله نبيه - صلى الله عليه وسلم - ما أرادوا به(10).

 

وذكر محمد بن إسحاق ومجاهد وعكرمة وغير واحد(11) أنها نزلت في شأن بني النضير حين أرادوا أن يلقوا على رأس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الرحى لما جاءهم يستعينهم في دية العامريين، ووكلوا عمرو بن جحاش بذلك أن جلس النبي - صلى الله عليه وسلم - تحت الجدار، واجتمعوا عنده أن يلقي الرحى من فوقه، فأطلع الله النبي - صلى الله عليه وسلم - على ما تماروا عليه، فرجع إلى المدينة وتبعه أصحابه فأنزل الله في ذلك هذه الآية(12).

 

وقد رجَّح ابن جرير أن تكون الآية قد نزلت بسبب ما أضمره بنو النضير من كيد وسوء للنبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه فقال: (وأولى الأقوال بالصحة في تأويل ذلك قول من قال: عنى الله بالنعمة التي ذكر في هذه الآية نعمته على المؤمنين به ورسوله التي أنعم بها عليهم في استنقاذه نبيهم - صلى الله عليه وسلم - مما كانت يهود النضير همت به من قتله وقتل من معه، يوم سار إليهم في الدية التي تحملها عن قتيلي عمرو بن أمية، وإنما قلنا بالصحة في تأويل ذلكº لأن الله عقب ذلك برمي اليهود بسوء صنائعها وقبيح فعالها، وخيانتها ربها وأنبياءها)(13).

وقد وافق الدكتور محمد آل عابد ترجيح الطبري، وقال: لا مانع أن تكون الآية الكريمة نزلت بعد تلك الحوادث مجتمعة، فقد تعددت الحوادث والمنزل واحد، كما قال العلماء(14).

 

ومعنى الآية الكريمة: أي اذكروا نعمة الله عليكم، التي من أكبر مظاهرها كفه عنكم أيدي اليهود الذين هموا أن يمدوا أيديهم بالسوء إلى نبيكم، وشارفوا أن ينفذوا مؤامرتهم الخبيثة، ولكن الله أحبط مكرهم ونجى نبيكم - صلى الله عليه وسلم - من شرورهم. ثم أمر - سبحانه - بتقواه والتوكل عليه، فقال - تعالى -: (وَاتَّقُوا اللهَ وَعَلَى اللهِ فَليَتَوَكَّلِ المُؤمِنُونَ).

 

أي اتقوا الله -أيها المؤمنون- في رعاية حقوق نعمته، ولا تخلوا بشكرها، فقد أراكم قدرته، وتوكلوا عليه وحده، فقد أراكم عنايته بكم، وعلى الله وحده فليتوكل المؤمنون(15).

 

ثانيًا: إنذار بني النضير بالجلاء وحصارهم:

أ- إنذار بني النضير: سجلت معظم كتب السيرة النبوية خبر إنذار النبي - صلى الله عليه وسلم - لبني النضير بالجلاء خلال عشرة أيام، وقد أرسل - صلى الله عليه وسلم - محمد بن مسلمة إليهم، وقال له: «اذهب إلى يهود بني النضير، وقل لهم: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أرسلني إليكم أن اخرجوا من بلاديº لقد نقضتم العهد الذي جعلت لكم مما هممتم به من الغدر، وقد أجلتكم عشرًا، فمن رُئي بعد منكم ضربت عنقه»(16)، ولم يجدوا جوابًا يردون به سوى أن قالوا لمحمد بن مسلمة: يا محمد، ما كنا نظن أن يجيئنا بهذا رجل من الأوس، فقال محمد: تغيرت القلوب، ومحا الإسلام العهود، فقالوا: نتحمل، فمكثوا أياما يعدون العدة للرحيل(17). وفي تلك المدة أرسل إليهم عبد الله بن أبي ابن سلول من يقول لهم: اثبتوا وتمنعوا فإنا لن نسلمكم، وإن قوتلتم قاتلنا معكم، وإن أخرجتم خرجنا معكم(18)، ولا تخرجوا فإن معي من العرب وممن انضوى إلى قومي ألفين، فأقيموا، فهم يدخلون معكم حصونكم، ويموتون عن آخرهم قبل أن يصلوا إليكم(19). فعادت لليهود بعض ثقتهم وتشجع كبيرهم (حيي بن أخطب) وأرسل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - جدي بن أخطب يقول له: إنا لن نريم -أي لن نبرح- دارنا فاصنع ما بدا لك، فكبَّر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكبَّر المسلمون معه، وقال: «حاربت يهود» (20).

 

ب- ضرب الحصار وإجلاؤهم: وانقضت الأيام العشرة ولم يخرجوا من ديارهم، فتحركت جيوش المسلمين صوبهم، وضربت عليهم الحصار لمدة خمس عشرة ليلة. وأمر - صلى الله عليه وسلم - بحرق نخيلهم، وقضى بذلك على أسباب تعلقهم بأموالهم وزروعهم، وضعفت حماستهم للقتال، وجزعوا وتصايحوا: يا محمد قد كنت تنهى عن الفساد وتعيبه على من يفعله، فما بال قطع النخيل وتخريبها؟ وألقى الله في قلوبهم الرعب، وأدرك بنو النضير أن لا مفر من جلائهم، ودب اليأس في قلوبهم وخاصة بعد أن أخلف ابن أبي وعده بنصرهم، وعجز إخوانهم أن يسوقوا إليهم خيرًا أو يدفعوا عنهم شرًا، فأرسلوا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - يلتمسون منه أن يؤمنهم حتى يخرجوا من ديارهم. فوافقهم النبي - صلى الله عليه وسلم - على ذلك وقال لهم: «اخرجوا منها، ولكم دماؤكم وما حملت الإبل إلا الحلقة - وهي الدروع والسلاح- فرضوا بذلك»(21). ونقض اليهود سقف بيوتهم وعمدها وجدرانها لكي لا ينتفع منها المسلمون. وحملوا معهم كميات كبيرة من الذهب والفضة حتى أن سلام بن أبي الحقيق وحده حمل جلد ثور مملوءًا ذهبًا وفضة، وكان يقول: هذا الذي أعددناه لرفع الأرض وخفضها، وإن كنا تركنا نخلاً ففي خيبر النخل(22). وحملوا أمتعتهم على ستمائة بعير، وخرجوا ومعهم الدفوف والمزامير والقيان يعزفن من خلفهم، حتى لا يشمت بهم المسلمون، فقصد بعضهم خيبر وسار آخرون إلى أذرعات الشام(23).

 

وقد تولى عملية إخراجهم من المدينة محمد بن مسلمة، بأمر من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -(24). وكان من أشرافهم الذين ساروا إلى خيبر: سلام بن أبي الحقيق، وحيي بن أخطب، وكنانة بن الربيع بن أبي الحقيق، فلما نزلوها دان لهم أهلها(25).

 

ثالثا: الدروس والعبر في هذه الغزوة:

تحدث القرآن الكريم عن غزوة بني النضير في سورة كاملة وهي سورة الحشر، وقد سمى حبر الأمة عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما- سورة الحشر بسورة

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply