هناك عدة أسباب تساعد الباحث للإجابة عن لماذا اختار النبي - صلى الله عليه وسلم - الحبشة؟ منها:
أ- النجاشي العادل:
أشار النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى عدل النجاشي بقوله لأصحابه: «لو خرجتم إلى أرض الحبشة، فإن بها ملكًا لا يظلم عنده أحد»([10]).
ب- النجاشي الصالح:
فقد ورد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ثناؤه على ملك الحبشة بقوله: «وكان بالحبشة ملك صالح يقال له النجاشي، لا يظلم أحد بأرضه»، وكان يُنثَي (يشاع) عليه مع ذلك صلاحه([11]) ويظهر هذا الصلاح في حمايته للمسلمين، وتأثره بالقرآن الكريم عندما سمعه من جعفر t، وكان معتقده في عيسى - عليه السلام - صحيحًا.
ج- الحبشة متجر قريش:
إن التجارة كانت عماد الاقتصاد القرشي، والحبشة تعتبر من مراكز التجارة في الجزيرة، فربما عرفها بعض المسلمين عندما ذهبوا إليها في التجارة، أو ذكرها لهم من ذهب إليهم قبلهم، وقد ذكر الطبري في معرض ذكره لأسباب الهجرة للحبشة: «وكانت أرض الحبشة متجرًا لقريش، يتجرون فيها، يجدون فيها رفاها من الرزق وأمنًا،
ومتجرًا حسنًا»([12]).
د- الحبشة البلد الآمن:
فلم يكن في حينها في خارج الجزيرة بلد أكثر أمنًا من بلاد الحبشة، ومن المعلوم بُعد الحبشة عن سطوة قريش من جانب وهي لا تدين لقريش بالاتباع كغيرها من القبائل([13])، وفي حديث ابن إسحاق عن أسباب اتخاذ الحبشة مكانًا للهجرة أنها: أرض صدق، وأن بها ملكًا لا يظلم عنده أحد([14]) فهي أرض صدق، وملكها عادل، وتلك من أهم سمات البلد الآمن([15]).
هـ- محبة الرسول - صلى الله عليه وسلم - للحبشة ومعرفته بها:
ففي حديث الزهري أن الحبشة كانت أحب الأرض إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يهاجر إليها([16]) ولعل تلك المحبة لها أسباب منها:
* حكم النجاشي العاجل.
* التزام الأحباش بالنصرانية، وهي أقرب إلى الإسلام من الوثنية.
* معرفة الرسول - صلى الله عليه وسلم - بأخبار الحبشة من خلال حاضنته أم أيمن - رضي الله عنها -، وأم أيمن هذه ثبت في صحيح مسلم وغيره أنها كانت حبشية([17])، كما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان خبيرًا بطبائع وأحوال الدول التي في زمانه.
3- وقت خروج المهاجرين، وسرية الخروج والوصول إلى الحبشة:
غادر أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مكة في رجب من السنة الخامسة للبعثة، وكانوا عشرة رجال، وأربع نسوة، وقيل: خمس نسوة، وحاولت قريش أن تدركهم لتردهم إلى مكة، وخرجوا في أثرهم حتى وصلوا البحر، ولكن المسلمين كانوا قد أبحروا متوجهين إلى الحبشة([18]).
وعند التأمل في فقه المرويات يتبين لنا سرية المهاجرين، ففي رواية الواقدي: «فخرجوا متسللين سرًا» ([19]) وعنه الطبري([20]) وممن ذكر السرية في الهجرة، ابن سيد الناس([21])، وابن القيم([22]) والزرقاني([23])، ولما وصل المسلمون إلى أرض الحبشة أكرم النجاشي مثواهم، وأحسن لقاءهم ووجدوا عنده من الطمأنينة بالأمن ما لم يجدوه في وطنهم وأهليهم.
إن المتأمل في أسماء الصحابة الذين هاجروا ([24])لا يجد فيهم أحدًا من الموالي الذين نالهم من أذى قريش وتعذيبها أشد من غيرهم، كبلال، وخباب، وعمار - رضي الله عنهم -، بل نجد غالبيتهم من ذوي النسب والمكانة في قريش، ويمثلون عددًا من القبائل، صحيح أن الأذى شمل ذوي النسب والمكانة كما طال غيرهم، ولكنه كان على الموالي أشد في بيئة تقيم وزنًا للقبيلة وترعى النسب، وبالتالي فلو كان الفرار من الأذى وحده، هو السبب في الهجرة، لكان هؤلاء الموالي المعذبون أحق بالهجرة من غيرهم، ويؤيد هذا أن ابن إسحاق وغيره ذكر عدوان المشركين على المستضعفين ولم يذكر هجرتهم للحبشة([25]).
ويصل الباحث إلى حقيقة مهمة ألا وهي أن ثمة أسبابًا أخرى، تدفع للهجرة غير الأذى اختار لها النبي - صلى الله عليه وسلم - نوعية من أصحابه، تمثل عددًا من القبائل، وقد يكون لذلك أثر في حمايتهم، لو وصلت قريش إلى إقناع أهل الحبشة بإرجاعهم من جانب، وتهز هجرتهم قبائل قريش كلها أو معظمهم من جانب آخر، فمكة ضاقت بأبنائها، ولم يجدوا بدًّا من الخروج عنها بحثًا عن الأمن في بلد آخر، ومن جانب ثالث، يرحل هؤلاء المهاجرون بدين الله لينشروه إلى الآفاق، وقد تكون محلاً أصوب وأبرك للدعوة إلى الله فتتفتح عقول وقلوب حين يستغلق سواها([26]).
عاش المسلمون ثلاثة أشهر من بدء الهجرة، وحدث تغير كبير على حياة المسلمين في مكة، وهناك ظروف نشأت لم تكن موجودة من قبل، بعثت في المسلمين الأمل في إمكان نشر الدعوة في مكة، حيث أسلم في تلك الفترة حمزة بن عبد المطلب، عم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عصبية لابن أخيه، ثم شرح الله صدره للإسلام، فثبت عليه، وكان حمزة أعز فتيان قريش وأشدهم شكيمة، فلما دخل في الإسلام عرفت قريش أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد عز وامتنع وأن عمه سيمنعه ويحميه، فكفوا عن بعض ما كانوا ينالون منه([27]).
وبعد إسلام حمزة أسلم عمر بن الخطاب ، وكان عمر ذا شكيمة لا يرام، فلما أسلم امتنع به أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبحمزة حتى عازَّوا قريشًا([28]).
كان إسلام الرجلين العظيمين بعد خروج المسلمين إلى الحبشة، فكان إسلامُهما عزةً للمسلمين وقهرًا للمشركين وتشجيعًا لأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على المجاهرة بعقيدتهم.
قال ابن مسعود: إن إسلام عمر كان فتحًا، وإن هجرته كانت نصرًا، وإن إمارته كانت رحمة، ولقد كنا ما نصلي عند الكعبة حتى أسلم عمر، فلما أسلم قاتل قريشًا حتى صلى عند الكعبة وصلينا معه([29]).
وعن ابن عمر قال: «لما أسلم عمر قال: أيٌّ قريش أنقل للحديث؟ قيل له: جميل بن معمر الجُمحي، قال: فغدا عليه، قال عبد الله: وغدوت معه أتبع أثره، وأنظر ماذا يفعل حتى جاءه فقال له: أعلمت يا جميل أني أسلمت ودخلت في دين محمد؟ قال: فوالله ما راجعه حتى قام يجر رداءه وتبعه عمر، واتبعت أبي حتى إذا قام على باب المسجد صرخ بأعلى صوته: يا معشر قريش وهم في أنديتهم حول الكعبة ألا إن ابن الخطاب قد صبأ([30]) قال: يقول عمر من خلفه: كذب، ولكني أسلمت، وشهدت أن لا إله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله، وثاروا إليه فما برح يقاتلهم ويقاتلونه حتى قامت الشمس على رؤوسهم وَطَلِح فقعد، وقاموا على رأسه وهو يقول: افعلوا ما بدا لكم فأحلف بالله أن لو كنا ثلاثمائة لقد تركناها أو تركتموها لنا([31]) «لقد أصبح المسلمون إذًا في وضع غير الذي كانوا فيه قبل الهجرة إلى الحبشة، فقد امتنعوا بحمزة وعمر - رضي الله عنهما -، واستطاعوا أن يصلوا عند الكعبة بعد أن كانوا لا يقدرون على ذلك، وخرجوا من بيت الأرقم بن أبي الأرقم مجاهرين حتى دخلوا المسجد، وكفت قريش عن إيذائهم بالصورة الوحشية التي كانت تعذبهم بها قبل ذلك، فالوضع قد تغير بالنسبة للمسلمين، والظروف التي كانوا يعيشون فيها قبل الهجرة قد تحولت إلى أحسن، فهل ترى هذا يخفى على أحد؟ وهل تظن أن هذه التغييرات التي جرت على حياة المسلمين في مكة لم تصل إلى أرض الحبشة، ولو عن طريق البحارة الذين كانوا يمرون بجدة؟
لا بد أن كل ذلك قد وصلهم، ولا شك أن هؤلاء الغرباء قد فرحوا بذلك كثيرًا، ولا يستغرب أحد بعد ذلك أن يكون الحنين إلى الوطن، وهو فطرة فطر الله عليها جميع المخلوقات، قد عاودهم ورغبت نفوسهم في العودة إلى حيث الوطن العزيز مكة أم القرى، وإلى حيث يوجد الأهل والعشيرة فعادوا إلى مكة في ظل الظروف الجديدة والمشجعة، وتحت إلحاح النفس وحنينها إلى حرم الله وبيته العتيق»([32]).
لقد رجع المهاجرون إلى مكة بسبب ما علموا من إسلام حمزة وعمر، واعتقادهم أن إسلام هذين الصحابيين الجليلين سيعتز به المسلمون وتقوى شوكتهم.
ولكن قريشًا واجهت إسلام حمزة وعمر - رضي الله عنهما - بتدبيرات جديدة يتجلى فيها المكر والدهاء من ناحية، والقسوة والعنف من ناحية أخرى، فزادت في أسلحة الإرهاب التي تستعملها ضد النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه - رضي الله عنهم - سلاحًا قاطعًا وهو سلاح المقاطعة الاقتصادية، وقد تحدثت عنه، وكان من جراء ذلك الموقف العنيف أن رجع المسلمون إلى الحبشة مرة ثانية، وانضم إليهم عدد كبير ممن لم يهاجروا قبل ذلك([33]).
ثانيًا: هجرة المسلمين الثانية إلى الحبشة:
قال ابن سعد: قالوا: لما قدم أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - مكة من الهجرة الأولى، اشتد عليهم قومهم، وسطت بهم عشائرهم ولقوا منهم أذى شديدًا، فأذن لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الخروج إلى أرض الحبشة مرة ثانية، فكانت خرجتهم الثانية أعظمها مشقة، ولقوا من قريش تعنيفًا شديدًا ونالوهم بالأذى، واشتد عليهم ما بلغهم عن النجاشي من حسن جواره لهم، فقال عثمان بن عفان: يا رسول الله فهجرتنا الأولى وهذه الآخرة ولست معنا؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أنتم مهاجرون إلى الله - تعالى -وإليَّ، لكم هاتان الهجرتان جميعًا» قال عثمان: فحسبنا يا رسول الله([34]).
وهاجر معهم كثيرون غيرهم أكثر منهم وعدتهم -كما قال ابن إسحاق وغيره ثلاثة وثمانون رجلاً إن كان عمار بن ياسر فيهم واثنان وثمانون رجلاً إن لم يكن فيهم، قال السهيلي وهو الأصح عند أهل السير كالواقدي، وابن عقبة وغيرهما([35]) وثماني عشرة امرأة: إحدى عشرة قرشيات، وسبع غير قرشيات، وذلك عدا أبنائهم الذين خرجوا معهم صغارًا، ثم الذين ولدوا لهم فيها([36]).
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد