بعث الله نبيه رحمة للعالمين


 

بسم الله الرحمن الرحيم

بعث الله - تعالى - نبيه - صلى الله عليه وسلم - رحمة للعالمين، وقدوة للأمة في فعل الخير، والإحسان إلى الخلق، ومحبته لهمº وذلك شامل لجميع جوانب حياته كلها، سواء في علاقته بربه أو في علاقته بالناس كلهم بمختلف أجناسهم وأعمارهم وألوانهم، مسلمين وغير مسلمين، قال جابر بن عبد الله كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجلاً سهلاً(1)، وقال النووي: \"أي سهل الخلق كريم الشمائل لطيفاً ميسراً في الخلق\"(2).

وفي الصحيح عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: \"ما خير رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين أمرين إلا أخذ أيسرهما ما لم يكن إثماً فإن كان إثماً كان أبعد الناس منه، وما انتقم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لنفسه إلا أن تنتهك حرمة الله فينتقم لله بها\"(3)، بمثل هذه القيم كانت دعوة النبي - صلى الله عليه وسلم -، يسر في كل شيء، وذود عن حرمات الله لا عن عرض الدنيا أو أهواء النفوس، وتعامل مع الآخرين بحكمة وأسلوب حسن ومراعاة لأحوالهم وتقدير لظروفهم.

وتعدد صور السماحة في هدي النبي - صلى الله عليه وسلم - مع غير المسلمين وشواهد ذلك من سيرته لا تحصر، أذكر منها ما يلي:

1- رحمته - صلى الله عليه وسلم - بالخلق عامة وهو الذي قال الله - عز وجل - عنه: وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين (107) الأنبياء: 107}، فكان - صلى الله عليه وسلم - الرحمة المهداة إلى الخلق كلهم، وحث على العطف على الناس ورحمتهم فقد قال - صلى الله عليه وسلم -: \"لا يرحم الله من لا يرحم الناس\"(4)، وكلمة الناس هنا تشمل كل أحد من الناس، دون اعتبار لجنسهم أو دينهم، وجاءت النصوص في باب الرحمة مطلقة، وقد ساق البخاري في باب رحمة الناس والبهائم حديث النبي - صلى الله عليه وسلم -: \"ما من مسلم غرس غرساً فأكل منه إنسان أو دابة إلا كان له صدقة\"(5)، فدين الإسلام دين السماحة والرحمة يسع الناس كلهم ويغمرهم بالرحمة والإحسان.

2- تجاوزه عن مخالفيه ممن نصبوا له العداء، فقد كانت سماحته يوم الفتح غاية ما يمكن أن يصل إليه صفح البشر وعفوهم، فكان موقفه ممن كانوا حرباً على الدعوة ولم يضعوا سيوفهم بعد عن حربها أن قال لهم: \"ما تظنون أني فاعل بكم؟ فقالوا: أخ كريم وابن أخ كريم، فقال: اذهبوا فأنتم الطلقاء\"(6).

3- دعاؤه - صلى الله عليه وسلم - لمخالفيه من غير المسلمين، فقد قدم الطفيل بن عمرو الدوسي وأصحابه فقالوا: يا رسول الله إن دوساً قد كفرت وأبت فادع الله عليها، فقيل: هلكت دوس - ظناً بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما رفع يديه للدعاء عليها - فقال - صلى الله عليه وسلم -: \"اللهم اهد دوساً وأئت بهم\"(7)، ودعا - صلى الله عليه وسلم - لأم أبي هريرة قبل إسلامها، فقد روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة} قال: كنت أدعو أمي إلى الإسلام وهي مشركة فدعوتها يوماً فأسمعتني في رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما أكره، فأتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا أبكي قلت: يا رسول الله إني كنت أدعو أمي إلى الإسلام فتأبى علي، فدعوتها اليوم فأسمعتني فيك ما أكره، فادع الله أن يهدي أم أبي هريرة، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: \"اللهم اهد أم أبي هريرة\"، فخرجت مستبشراً بدعوة نبي الله - صلى الله عليه وسلم -، فلما جئت فصرت إلى الباب فإذا هو مجاف، فسمعت أمي خشف قدمي، فقالت: مكانك يا أبا هريرة وسمعت خضخضة الماء، قال فاغتسلت ولبست درعها وعجلت عن خمارها ففتحت الباب، ثم قالت: يا أبا هريرة أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، قال فرجعت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأتيته وأنا أبكي من الفرح..الحديث(8).

وجاء الأنصار إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: يا رسول الله ادع الله على ثقيف.فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: \"اللهم اهد ثقيفاً\"، قالوا: يا رسول الله ادع عليهم. فقال: \"اللهم اهد ثقيفاً\"، فعادوا فعاد، فأسلموا فوجدوا من صالحي الناس إسلاماً، ووجد منهم أئمة وقادة(9).

ومن صور الدعاء ما كان من اليهود حيث كانوا يتعاطسون عند النبي - صلى الله عليه وسلم - رجاء أن يقول لهم يرحمكم الله، فلم يحرمهم من الدعوة بالهداية والصلاح، فكان يقول: \"يهديكم الله ويصلح بالكم\"(10).

4- وكان - صلى الله عليه وسلم - يقبل هدايا مخالفيه من غير المسلمين، فقبل هدية زينب بنت الحارث اليهودية امرأة سلام بن مشكم في خيبر، حيث أهدت له شاة مشوية قد وضعت فيها السم(11).

وقد قرر الفقهاء قبول الهدايا من الكفار بجميع أصنافهم حتى أهل الحرب قال في المغني: \"ويجوز قبول هدية الكفار من أهل الحرب لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل هدية المقوقس صاحب مصر\"(12).

5- وكان من سماحة النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يخاطب مخالفيه باللين من القول تأليفاً لهم، كما تظهر سماحة النبي - صلى الله عليه وسلم - مع غير المسلمين في كتبه إليهم حيث تضمنت هذه الكتب دعوتهم إلى الإسلام بألطف أسلوب وألين عبارة.

6- وكان - صلى الله عليه وسلم - يغشى مخالفيه في دورهم ويأتيهم في مجالسهم تواضعاً منه ودعوة لهم إلى دين الإسلام، فعن أبي هريرة رضي الله عه قال: بينا نحن في المسجد إذ خرج إلينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: انطلقوا إلى يهود فخرجنا معه حتى جئناهم فقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فناداهم فقال: \"يا معشر يهود أسلموا تسلموا\" فقالوا: قد بلغت يا أبا القاسم.. الحديث(13)، وعاد - صلى الله عليه وسلم - يهودياً، كما في البخاري عن أنس} أن غلاماً ليهود كان يخدم النبي - صلى الله عليه وسلم - فمرض فأتاه النبي - صلى الله عليه وسلم - يعوده فقال: \"أسلم\" فأسلم(14).

7- وكان - صلى الله عليه وسلم - يعامل مخالفيه من غير المسلمين في البيع والشراء والأخذ والعطاء فلا يخونهم ولا يخدعهم ولا يغشهم، فعن عائشة - رضي الله عنها - قالت: \"توفي النبي - صلى الله عليه وسلم - ودرعه مرهونة عند يهودي بثلاثين\" يعني: صاعاً من شعير(15).

8- وكان - صلى الله عليه وسلم - يأمر بصلة القريب وإن كان غير مسلم فقال لأسماء بنت أبي بكر - رضي الله عنهما -: \"صلي أمك\"(16).

وفي المدينة حيث تأسس المجتمع الإسلامي الأول وعاش في كنفه اليهود بعهد مع المسلمين كان - صلى الله عليه وسلم - غاية في الحلم معهم، والسماحة في معاملتهم حتى نقضوا العهد وخانوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أما من يعيشون بين المسلمين يحترمون قيمهم ومجتمعهم فلهم الضمان النبوي، فقد ضمن - صلى الله عليه وسلم - لمن عاش بين ظهراني المسلمين بعهد، وبقي على عهده أن يحظى بمحاجة النبي - صلى الله عليه وسلم - لمن ظلمه فقال - صلى الله عليه وسلم -: \"ألا من ظلم معاهداً أو انتقصه أو كلفه فوق طاقته أو أخذ منه شيئاً بغير طيب نفس فأنا حجيجه يوم القيامة\"(17)، وشدد الوعيد على من هتك حرمة دمائهم فقال - صلى الله عليه وسلم -: \"من قتل معاهداً لم يرح رائحة الجنة وإن ريحها يوجد من مسيرة أربعين عاماً\"(18)، تلك صور من سماحة النبي - صلى الله عليه وسلم - مع غير المسلمين وهو ما سار عليه الصحابة - رضي الله عنهم - والتابعون من بعدهم ومن جاء بعدهم عبر تاريخ الإسلام.

 

ـــــــــــــــــ

الهوامش:

1- صحيح مسلم، كتاب الحج، باب بيان وجوه الإحرام وأنه يجوز إفراد الحج والتمتع والقران، رقم الحديث: (1213).

2- شرح صحيح مسلم، النووي، ج4، ص: (410).

3- رواه البخاري، كتاب المناقب، باب صفة النبي - صلى الله عليه وسلم -، رقم الحديث: (3560).

4- رواه البخاري، كتاب التوحيد، باب قول الله - تعالى -: قل \\دعوا الله أو \\دعوا الرحمن أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى\"110 - صلى الله عليه وسلم - الإسراء: 110}، رقم الحديث: (7376).

5- رواه البخاري، كتاب الأدب، باب رحمة الناس والبهائم، رقم الحديث: (6012).

6- السيرة النبوية ج4، ص: (61).

7- رواه مسلم، كتاب فضائل الصحابة - رضي الله عنهم -، باب من فضائل غفار وأسلم وجهينة وأشجع ومزينة وتميم ودوس وطئ، رقم الحديث: (2524).

8- رواه مسلم، كتاب فضائل الصحابة - رضي الله عنهم -، باب من فضائل أبي هريرة} رقم الحديث: (2491).

9- انظر: تاريخ المدينة، ابن شبة، دار العليان، بريدة، ط1، ج2، ص: (98).

10- رواه البخاري في الأدب المفرد، باب إذا عطس اليهودي، وصححه الألباني، انظر: صحيح الأدب المفرد، الألباني، ص: (348)، رقم الحديث: (719).

11- رواه البخاري، كتاب الهبة، باب قبول الهدية من المشركين، رقم الحديث: (2617).

12- المغني، ابن قدامة، ج13، ص: (200).

13- رواه مسلم، كتاب الجهاد والسير، باب إجلاء اليهود من الحجاز، رقم الحديث: (1765).

14- رواه البخاري، كتاب المرضى، باب عيادة المشرك، رقم الحديث: (5657).

15- رواه البخاري، كتاب المغازي، رقم الحديث: (4467).

16- رواه البخاري، كتاب الهبة، باب الهدية للمشركين، رقم الحديث: (2620).

17- رواه أبو داود، كتاب الخراج والإمارة والفيء، باب في تعشير أهل الذمة، رقم الحديث: (3052) وصححه الألباني، صحيح سنن أبي داود، الألباني، ج2، ص: (59).

18- رواه البخاري، كتاب الجزية والموادعة، باب إثم من قتل معاهداً، رقم الحديث:(3166).

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply