بسم الله الرحمن الرحيم
أولاً: أسباب الغزوة:
كانت أسباب غزوة أحد متعددة منها: الديني، والاجتماعي، والاقتصادي، والسياسي.
1- السبب الديني: فقد أخبر المولى - عز وجل - أن المشركين ينفقون أموالهم في الصد عن سبيل الله، وإقامة العقبات أمام الدعوة الإسلامية، ومنع الناس في الدخول في الإسلام، والسعي للقضاء على الإسلام والمسلمين ودولتهم الناشئة، قال - تعالى -: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنفِقُونَ أَموَالَهُم لِيَصُدٌّوا عَن سَبِيلِ اللهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيهِم حَسرَةً ثُمَّ يُغلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إلى جَهَنَّمَ يُحشَرُونَ) [الأنفال: 36].
قال الطبري: يصرفون أموالهم وينفقونها، ليمنعوا الناس عن الدخول في الإسلام.
وقال ابن كثير: أخبر - تعالى -أن الكفار ينفقون أموالهم ليصدوا عن اتباع الحق.
وقال الشوكاني: والمعنى أن غرض هؤلاء الكفار في إنفاق أموالهم هو الصد عن سبيل الحق بمحاربة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجمع الجيوش لذلك.
من هذا يظهر أن أهم أسباب غزوة أحد هو السبب الديني الذي كان من أهداف قريش للصد عن سبيل الله، واتباع طريق الحق، ومنع الناس من الدخول في الإسلام، ومحاربة الرسول - صلى الله عليه وسلم - والقضاء على الدعوة الإسلامية.
2- السبب الاجتماعي: كان للهزيمة الكبيرة في بدر، وقتل السادة والأشراف من قريش وقع كبير من الخزي والعار الذي يحل بهم، وجعلهم يشعرون بالمذلة والهزيمة، ولذلك بذلوا قصارى جهدهم في غسل هذه الذلة والمهانة التي لصقت بهم، ولذلك شرعوا في جمع المال لحرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فور عودتهم من بدر، قال ابن إسحاق: (لما أصيب يوم بدر من كفار قريش أصحاب القليب، ورجع فُلهم إلى مكة، ورجع أبو سفيان بعيرهم فأوقفها بدار الندوة، وكذلك كانوا يصنعون، فلم يحركها ولا فرقها، فطابت أنفس أشرافهم أن يجهزوا منها جيشا لقتال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فمشى عبد الله بن ربيعة، وعكرمة بن أبي جهل، والحارث بن هشام، وحويطب بن عبد العزى، وصفوان بن أمية في رجال ممن أصيب آباؤهم وأبناؤهم وإخوانهم يوم بدر، فكلموا أبا سفيان ومن كانت له في تلك العير تجارة من قريش، فقالوا: إن محمدًا قد وتركم، وقتل خياركم، فأعينونا بهذا المال على حربه، لعلنا ندرك منه ثأرنا بمن أصاب منها، فقال أبو سفيان: أنا أول من أجاب إلى ذلك.
ودعا جبير بن مطعم غلامًا له حبشيًا يقال له: وحشي يقذف بحربة له قذف الحبشة قلما يخطئ لها فقال: اخرج مع الناس فإن أنت قتلت حمزة عم محمد بعمي طعيمة بن عدي، فأنت عتيق.
3- السبب الاقتصادي: كانت حركة السرايا التي تقوم بها الدولة الإسلامية قد أثرت على اقتصاد قريش وفرضت عليهم حصارًا اقتصاديًا قويًا، وكان الاقتصاد المكي قائمًا على رحلتي الشتاء والصيف، رحلة الشتاء إلى اليمن وتحمل إليها بضائع الشام ومحاصيلها، ورحلة الصيف إلى الشام تحمل إليها محاصيل اليمن وبضائعها، وقطع أحد جناحي هاتين الرحلتين ضرب للجناح الآخر، لأن تجارتهم إلى الشام قائمة على سلع اليمن، وتجارتهم إلى اليمن قائمة على سلع الشام(7)، قال - تعالى -: (لإِيلاَفِ قُرَيشٍ, ` إِيلاَفِهِم رِحلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيفِ ` فَليَعبُدُوا رَبَّ هَذَا البَيتِ الَّذِي أَطعَمَهُم مِّن جُوعٍ, وَآمَنَهُم مِّن خَوفٍ,) [قريش].
ويشير إلى هذا قول صفوان بن أمية: (إن محمدًا وأصحابه قد عوزوا علينا متاجرنا، فما ندري كيف نصنع بأصحابه، وهم لا يبرحون الساحل، قد وادعهم، ودخل عامتهم معه، فما ندري أين نسلك، وإن أقمنا نأكل رؤوس أموالنا ونحن في ديارنا هذه، ما لنا بها بقاء، وإنما نزلناها على التجارة إلى الشام في الصيف وفي الشتاء إلى الحبشة).
4- السبب السياسي: فقد أخذت سيادة قريش في الانهيار بعد غزوة بدر، وتزعزع مركزها بين القبائل بوصفها زعيمة لها، فلا بد من رد الاعتبار والحفاظ على زعامتها مهما كلفها الأمر من جهود ومال وتضحيات.
هذه أهم الأسباب التي جعلت قريش تبادر إلى المواجهة العسكرية ضد الدولة الإسلامية بالمدينة.
ثانيًا: خروج قريش من مكة إلى المدينة:
استكملت قريش قواها في يوم السبت لسبع خلون من شوال من السنة الثالثة من الهجرة، وعبأت جيشها المكون من ثلاثة آلاف مقاتل مصحبين معهم النساء والعبيد، ومن تبعها من القبائل العربية المجاورة، فخرجت قريش بحدها وحديدها وأحابيشها ومن تبعها من كنانة وأهل تهامة. وخرجوا بالظعن، التماس الحفيظة لئلا يفروا.
فخرج أبو سفيان، وهو قائد الناس بهند بنت عتبة بن ربيعة، وخرج صفوان بن أمية بن خلف ببرزة بنت مسعود الثقفية، وخرج عكرمة بن أبي جهل بأم حكيم بنت الحارث بن هشام بن المغيرة، وخرج الحارث بن هشام بن المغيرة بفاطمة بنت الوليد بن المغيرة..فأقبلوا حتى نزلوا ببطن السبخة من قناة، على شفير الوادي مما يلي المدينة.
كانت التعبئة القرشية قد سبقتها حملة إعلامية ضخمة تولى كبرها أبو عزة عمرو بن عبد الله الجمحي، وعمرو بن العاص، وهبيرة المخزومي، وابن الزَّبَعرَى وقد حققت نتائج كبيرة، وبلغت النفقات الحربية لجيش قريش خمسين ألف دينار ذهبًا.
ثالثًا: الاستخبارات النبوية تتابع حركة العدو:
كان العباس بن عبد المطلب يرقب حركات قريش واستعداداتها العسكرية، فلما تحرك هذا الجيش بعث العباس رسالة مستعجلة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، ضمنها جميع تفاصيل الجيش، وأسرع رسول العباس بإبلاغ الرسالة وجد في السير، حتى إنه قطع الطريق بين مكة والمدينة، التي تبلغ مساحتها خمسمائة كيلومتر، في ثلاثة أيام وسلم الرسالة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو في مسجد قباء.
كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يتابع أخبار قريش بدقة بواسطة عمه العباس، قال ابن عبد البر: (وكان - رضي الله عنه- يكتب بأخبار المشركين إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكان المسلمون يتقوون به بمكة، وكان يحب أن يقدم على رسول الله فكتب إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أن مقامك في مكة خير).
كانت المعلومات التي قدمها العباس لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - دقيقة فقد جاء في رسالته: (أن قريشًا قد أجمعت المسير إليك، فما كنت صانعًا إذا حلوا بك فاصنعه، وقد توجهوا إليك وهم ثلاثة آلاف وقادوا مائتي فرس وفيهم سبعمائة دارع وثلاثة آلاف بعير، وأوعبوا من السلاح).
فقد احتوت هذه الرسالة على أمور مهمة منها:
1- معلومات مؤكدة عن تحرك قوات المشركين نحو المدينة.
2- حجم الجيش وقدراته القتالية، وهذا يعين على وضع خطة تواجه هذه القوات الزاحفة.
لم يكتف النبي - صلى الله عليه وسلم - بمعلومات المخابرات المكية، بل حرص على أن تكون معلوماته عن هذا العدو متجددة مع تلاحق الزمن، وفي هذا إرشاد لقادة المسلمين بأهمية متابعة الأخبار التي يتولد عنها وضع خطط وإستراتيجيات نافعة، ولذلك أرسل - صلى الله عليه وسلم - الحباب بن المنذر بن الجموح إلى قريش يستطلع الخبر، فدخل بين جيش مكة وحزر عَدَده وعُدَده ورجع، فسأله رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ما رأيت؟ » قال: رأيت أي رسول الله عددًا، حزرتهم ثلاثة آلاف يزيدون قليلا أو ينقصون قليلا، والخيل مائتي فرس، ورأيت دروعًا ظاهرة حزرتها سبعمائة درع، قال: «هل رأيت ظعنًا؟ » قال: رأيت النساء معهن الدفاف والأكبار... فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أردن أن يحرضن القوم ويذكرونهم قتلى بدر، هكذا جاءني خبرهم لا تذكر من شأنهم حرفًا، حسبنا الله ونعم الوكيل، اللهم بك أجول وبك أصول».
كما أرسل - صلى الله عليه وسلم - أنسًا ومؤنسًا ابني فضالة يتنصتان أخبار قريش، فألفياها قد قاربت المدينة، وأرسلت خيلها وإبلها ترعى زروع يثرب المحيطة بها، وعادا فأخبراه بخبر القوم.
وبعد أن تأكد من المعلومات حرص - صلى الله عليه وسلم - على حصر تلك المعلومات على المستوى القيادي، خوفًا من أن يؤثر هذا الخبر على معنويات المسلمين قبل إعداد العدة، ولذلك حين قرأ أبي بن كعب رسالة العباس أمره - صلى الله عليه وسلم - بكتمان الأمر، وعاد مسرعًا إلى المدينة، وتبادل الرأي مع قادة المهاجرين والأنصار في كيفية مواجهة الموقف، وكان - صلى الله عليه وسلم - قد أطلع سيد الأنصار سعد بن الربيع على خبر رسالة العباس فقال: والله إني لأرجو أن يكون خيرًا، فاستكتمه إياه، فلما خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من عند سعد، قالت له امرأته: ما قال لك رسول الله؟ فقال لها: لا أم لك، أنت وذاك، فقالت: قد سمعت ما قال لك، فأخبرته بما أسر به الرسول - صلى الله عليه وسلم - فاسترجع سعد، وقال: يا رسول الله، إني خفت أن يفشو الخبر فترى أني أنا المفشي له وقد استكتمتني إياه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «خلِّ عنها».
وفي هذه الحادثة درس بالغ للعسكريين وتحذيرهم من إطلاع زوجاتهم على أسرارهم العسكرية، وخططهم وأوامرهم، وينبغي الحذر من إفشاء مثل هذه الأسرار لأن إفشاءها يهدد الأمة ومستقبلها بكارثة كبرى.
إن تاريخ الأمم والشعوب في القديم والحديث يحدثنا أن كثيرًا من الهزائم والمآسي والآلام قد حلت بكثير من الأمم نتيجة لتسرب أسرار الجيوش إلى أعدائها عن طريق زوجة خائنة، أو خائن في ثوب صديق، أو قريب في الظاهر عدو في الحقيقة والواقع.
رابعًا: مشاورته - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه:
بعد أن جمع - صلى الله عليه وسلم - المعلومات الكاملة عن جيش كفار قريش جمع أصحابه - رضي الله عنهم - وشاورهم في البقاء في المدينة والتحصن فيها أو الخروج لملاقاة المشركين، وكان رأي النبي - صلى الله عليه وسلم - البقاء في المدينة، وقال: «إنا في جنة حصينة»(28) فإن رأيتم أن تقيموا وتدعوهم حيث نزلوا، فإن أقاموا أقاموا بشر مقام، وإن دخلوا علينا قاتلناهم فيها، وكان رأي عبد الله بن أبي ابن سلول(29) مع رأي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا أن رجالاً من المسلمين ممن كان فاته بدر قالوا: يا رسول الله، اخرج بنا إلى أعدائنا.
قال ابن كثير: (وأبى كثير من الناس إلا الخروج إلى العدو ولم يتناهوا إلى قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورأيه، ولو رضوا بالذي أمرهم كان ذلك، ولكن غلب القضاء والقدر، وعامة من أشار عليه بالخروج رجال لم يشهدوا بدرًا، قد علموا الذي سبق لأهل بدر من الفضيلة).
وقال ابن إسحاق: فلم يزل الناس برسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي كان من أمرهم حب لقاء القوم، حتى دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيته، فلبس لأمته، فتلاوم القوم فقالوا: عرض نبي الله - صلى الله عليه وسلم - بأمر وعرضتم بغيره، فاذهب يا حمزة فقل لنبي الله - صلى الله عليه وسلم -: (أمرنا لأمرك تبع) فأتى حمزة فقال له: (يا نبي الله إن القوم تلاوموا، فقالوا: أمرنا لأمرك تبع، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إنه ليس لنبي إذا لبس لأمته أن يضعها حتى يقاتل».
كان رأي من يرى الخروج إلى خارج المدينة مبنيًا على أمور منها:
1- أن الأنصار قد تعاهدوا في بيعة العقبة الثانية على نصرة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فكان أغلبهم يرى أن المكوث داخل المدينة تقاعس عن الوفاء بهذا العهد.
2- أن الأقلية من المهاجرين كانت ترى أنها أحق من الأنصار في الدفاع عن المدينة ومهاجمة قريش وصدها عن زروع الأنصار.
3- أن الذين فاتتهم غزوة بدر كانوا يتحرقون شوقًا من أجل ملاقاة الأعداء طمعًا في حصول الشهادة في سبيل الله.
4- أن الأكثرين كانوا يرون أن في محاصرة قريش للمدينة ظفرًا يجب ألا تحلم به، كما توقعوا أن وقت الحصار سيطول أمده، فيصبح المسلمون مهددين بقطع المؤن عنهم .
أما من وجهة نظر من يرى البقاء في المدينة فهو مبني على التخطيط الحربي الآتي:
1- أن جيش مكة لم يكن موحد العناصر، وبذلك يستحيل على هذا الجيش البقاء زمنًا طويلاً إذ لا بد من ظهور الخلاف بينهم إن عاجلاً أو آجلاً.
2- أن مهاجمة المدن المصممة على الدفاع عن حياضها وقلاعها وبيضتها أمر بعيد المنال، وخصوصا إذا تشابه السلاح عند كلا الجيشين، وقد كان يوم أحد متشابهًا.
3- أن المدافعين إذا كانوا بين أهليهم فإنهم يستبسلون في الدفاع عن أبنائهم وحماية نسائهم وبناتهم وأعراضهم.
4- مشاركة النساء والأبناء في القتال وبذلك يتضاعف عدد المقاتلين.
5- استخدام المدافعين أسلحة لها أثر في صفوف الأعداء مثل الأحجار، وغيرها، وتكون إصابة المهاجمين في متناولهم.
من الواضح أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - عوَّد أصحابه على التصريح بآرائهم عند مشاورته لهم حتى ولو خالفت رأيه، فهو إنما يشاورهم فيما لا نص فيه تعويدًا لهم على التفكير في الأمور العامة ومعالجة مشاكل الأمة، فلا فائدة من المشورة إذا لم تقترن بحرية إبداء الرأي، ولم يحدث أن لام الرسول - صلى الله عليه وسلم - أحدًاº لأنه أخطأ في اجتهاده ولم يوفق في رأيه، وكذلك فإن الأخذ بالشورى ملزم للإمام، فلابد أن يطبق الرسول - صلى الله عليه وسلم - التوجيه القرآني: (فَبِمَا رَحمَةٍ, مِّنَ اللهِ لِنتَ لَهُم وَلَو كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ القَلبِ لاَنفَضٌّوا مِن حَولِكَ فَاعفُ عَنهُم وَاستَغفِر لَهُم وَشَاوِرهُم فِي الأمرِ فَإِذَا عَزَمتَ فَتَوَكَّل عَلَى اللهِ إِنَّ اللهَ يُحِبٌّ المُتَوَكِّلِينَ) [آل عمران: 159]، لتعتاد على ممارسة الشورى وهنا يظهر الوعي السياسي عند الصحابة رضوان الله عليهم، فرغم أن لهم إبداء الرأي، فإنه ليس لهم فرضه على القائد، فحسبهم أن يبينوا رأيهم ويتركوا للقائد حرية اختيار ما يترجح لديه من الآراء، فلما رأوا أنهم ألحوا في الخروج وأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - عزم على الخروج بسبب إلحاحهم، عادوا فاعتذروا إليه، لكن الرسول الكريم علمهم درسًا آخر هو من صفات القيادة الناجحة وهو عدم التردد بعد العزيمة والشروع في التنفيذ، فإن ذلك يزعزع الثقة بها ويغرس الفوضى بين الأتباع.
كان النبي - صلى الله عليه وسلم - قد عزم على الخروج وقد أعلن حالة الطوارئ العامة وتجهز الجميع للقتال، وأمضوا ليلتهم في حذر، كلُّ يصحب سلاحه ولا يفارقه، حتى عند نومه، وأمر - صلى الله عليه وسلم - بحراسة المدينة، واختار خمسين من أشداء المسلمين ومحاربيهم بقيادة محمد بن مسلمة - رضي الله عنه- . واهتم الصحابة بحراسة رسول الله، فبات سعد بن معاذ وأسيد بن الحضير وسعد بن عبادة في عدة من الصحابة - رضي الله عنهم - أجمعين ليلة الجمعة مدججين بالسلاح في باب المسجد يحرسون رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
خامسًا: خروج جيش المسلمين إلى أحد:
أ- من الأسباب المهمة التي اتخذها - صلى الله عليه وسلم - لملاقاة أعدائه اختياره لوقت التحرك والطريق التي تناسب خطته، فقد تحرك بعد منتصف الليل، حيث يكون الجو هادئًا، والحركة قليلة، وفي هذا الوقت بالذات يكون الأعداء، غالبا، في نوم عميق لأن الإعياء ومشقة السفر قد أخذا منهم مجهودًا كبيرًا.
ومن المعروف أن من نام بعد تعب يكون ثقيل النوم، فلا يشعر بالأصوات العالية والحركة الثقيلة، قال الواقدي - رحمه الله -: ونام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى أدلج، فلما كان في السحر قال: «أين الأدلاء؟ » ثم إنه - صلى الله عليه وسلم - اختار الطريق المناسب الذي يسلكه حتى يصل إلى أرض المعركة، وذكر صفة ينبغي أن تتوافر في هذا الطريق وهي السرية، حتى لا يرى الأعداء جيش المسلمين، فقال - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه: «من رجل يخرج بنا على القوم من طريق لا يمر بنا عليهم؟ » فأبدى أبو خيثمة - رضي الله عنه- استعداده قائلا: أنا يا رسول الله، فنفذ به في حرة بني حارثة وبين أموالهم، حتى سلك به في مال لربعي بن قيظي، وفي رواية ابن هشام: لمربع بن قيظي وكان رجلاً منافقًا ضرير البصر، فلما أحس برسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومن معه من المسلمين، قام يحثو في وجوههم التراب، وهو يقول: إن كنت رسول الله فلا أحل لك أن تدخل حائطي، وقد ذكر أنه أخذ حفنة من تراب بيده، ثم قال: والله لو أعلم أني لا أصيب بها غيرك يا محمد، لضربت بها وجهك، فابتدره القوم ليقتلوه، فقال لهم: لا تقتلوه، فهذا الأعمى أعمى القلب أعمى البصر، وقد بدر إليه سعد بن زيد أخو بني الأشهل قبل نهي رسول الله عنه، فضربه بالقوس في رأسه فشجه.
ولا شك في أن مروره - صلى الله عليه وسلم - بين الأشجار والبساتين يدلنا على حرصه - صلى الله عليه وسلم - على الأخذ بالاحتياطات الأمنية المناسبة في أثناء السيرº لأن الطرق العامة تكشف للأعداء على مقدار قوات المسلمين، وهذا أمر محذور، فالرسول - صلى الله عليه وسلم - علم الأمة الأخذ بالسرية من حيث المكان، ومن حيث الزمان، لئلا يستطيع الأعداء معرفة قواتهم فيضعوا الخطط المناسبة لمجابهتها، وبذلك يذهب تنظيم القادة وإعدادهم لجيوشهم في مهب الرياح.
وفي هذا الخبر تطبيق عملي لتقديم المصلحة العامة على المصلحة الخاصة إذا تعارضت المصلحتان فالرسول - صلى الله عليه وسلم - حينما مر بالجيش في أرض المنافق مربع بن قيظي، وترتب على ذلك إفساد المزرعة، لكن فيه مصلحة للجيش باختصار الطريق لهم إلى أحد، فبين - صلى الله عليه وسلم - أن ما يكون به مصلحة للدين مقدم على ما سواه من المصالح الأخرى، فهنا تعارضت مصلحتان مصلحة عامة ومصلحة خاصة، ومصلحة الدين في هذا الموقف مصلحة عامة وهي مقدمة على المصلحة الخاصة، وهي مصلحة المال. وقد رتب الشارع الحكيم مقاصد الشرع في تحقيق المنافع لعباده من حفظ دينهم ونفوسهم وعقولهم ونسلهم وأموالهم طبق ترتيب معين فيما بينها، فإذا نظرنا إلى كليات الدين الخمس وأهميتها وجدنا أن هذه الكليات متدرجة حسب الأهمية: الدين، والنفس، والعقل، والنسل، والمال، فما يكون به حفظ الدين مقدم على ما يكون به حفظ النفس عند تعارضهما، وما يكون به حفظ النفس مقدم على ما به يكون حفظ العقل، وما به يكون حفظ النسل مقدم على ما به حفظ المال، والترتيب بهذا الشكل من هذه الكليات يحظى باتفاق العلماء.
ب- انسحاب المنافق ابن سلول بثلث الجيش: عندما وصل جيش المسلمين الشواط انسحب المنافق ابن سلول بثلاثمائة من المنافقين بحجة أنه لن يقع قتال مع المشركين، ومعترضًا على قرار القتال خارج المدينة قائلا: (أطاع الولدان ومن لا رأي له، أطاعهم وعصاني، علام نقتل أنفسنا). وكان هدفه الرئيس من هذا التمرد أن يحدث بلبلة واضطرابًا في الجيش الإسلامي لتنهار معنوياته، ويتشجع العدو، وتعلو همته، وعمله هذا ينطوي على خيانة عظيمة، وبغض الإسلام والمسلمين، وقد اقتضت حكمة الله أن يمحص الله الجيش ليظهر الخبيث من الطيب، حتى لا يختلط المخلص بالمغرض، والمؤمن بالمنافق قال - تعالى -: (مَا كَانَ اللهُ لِيَذَرَ المُؤمِنِينَ عَلَى مَا أَنتُم عَلَيهِ حَتَّى يَمِيزَ الخَبِيثَ مِنَ الطّيِّبِ وَمَا كَانَ اللهُ لِيُطلِعَكُم عَلَى الغَيبِ) [آل عمران: 179]. فالجبن والنكوص هما اللذان كشفا عن طوية المنافقين، فافتضحوا أمام أنفسهم وأمام الناس قبل أن يفضحهم القرآن.
ج- موقف عبد الله بن عمرو بن حرام من انخذال المنافقين: حاول عبد الله بن حرام - رضي الله عنه- إقناع المنافقين بالعودة فأبوا، فقال: يا قوم أذكركم الله ألا تخذلوا قومكم ونبيكم عندما حضر من عدوهم، فقالوا: لو نعلم أنكم تقاتلون لما أسلمناكم، ولكنا لا نرى أن يكون قتال، فلما استعصوا عليه وأبوا إلا الانصراف عنهم قال: أبعدكم الله، أعداء الله، فسيغني الله عنكم نبيه. وفي هؤلاء المنخذلين نزل قول الله - تعالى -: (وَمَا أَصَابَكُم يَومَ التَقَى الجَمعَانِ فَبِإِذنِ اللهِ وَلِيَعلَمَ المُؤمِنِينَ ` وَلِيَعلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُم تَعَالَوا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَوِ ادفَعُوا قَالُوا لَو نَعلَمُ قِتَالاً لاَّتَّبَعنَاكُم هُم لِلكُفرِ يَومَئِذٍ, أَقرَبُ مِنهُم لِلإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفوَاهِهِم مَّا لَيسَ فِي قُلُوبِهِم وَاللهُ أَعلَمُ بِمَا يَكتُمُونَ) [آل عمران: 166، 167].
د- بنو سلمة، وبنو حارثة: ولما رجع ابن أبي ابن سلول وأصحابه همت بنو سلمة وبنو حارثة أن ترجعا، ولكن الله ثبتهما وعصمهما، قال جابر بن عبد الله: نزلت هذه الآية فينا: (إِذ هَمَّت طَّائِفَتَانِ مِنكُم أَن تَفشَلاَ وَاللهُ وَلِيٌّهُمَا وَعَلَى اللهِ فَليَتَوَكَّلِ المُؤمِنُونَ) [آل عمران: 122] بني سلمة، وبني حارثة، وما أحب أنها لم تنزل والله يقول: (وَاللهُ وَلِيٌّهُمَا).
لقد أثر موقف المنافقين في نفوس طائفتين من المسلمين ففكروا بالعودة إلى المدينة، ولكنهم غالبوا الضعف الذي ألم بهم، وانتصروا على أنفسهم بعد أن تولاهم الله - تعالى -فدفع عنهم الوهن فثبتوا مع المؤمنين.
وقد ظهر رأيان في أوساط الصحابة تجاه موقف ابن سلول، فالأول: يرى قتل المنافقين الذين خذلوا المسلمين بعودتهم وانشقاقهم عن الجيش، والثاني: لا يرى قتلهم، وقد بين القرآن الكريم موقف الفريقين في الآية: (فَمَا لَكُم فِي المُنَافِقِينَ فِئَتَينِ وَاللهُ أَركَسَهُم بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَن تَهدُوا مَن أَضَلَّ اللهُ وَمَن يٌّضلِلِ اللهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً) [النساء: 88].
هـ الاستعانة بغير المسلمين: عندما وصل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى مكان يدعي الشيخين رأى كتيبة لها صوت وجلبة فقال: ما هذه؟ فقالوا: هؤلاء حلفاء عبد الله بن أبي ابن سلول من يهود فقال - صلى الله عليه وسلم -: «لا نستنصر بأهل الشرك على أهل الشرك»، وهذا أصل وضعه النبي - صلى الله عليه وسلم - في عدم الركون إلى أعداء الإسلام في الاستنصار بهم(51).
و- رد النبي - صلى الله عليه وسلم - بعض الصحابة لصغر سنهم: رد النبي - صلى الله عليه وسلم - في معسكره بالشيخين جماعة من الفتيان لصغر أعمارهم، إذ كانوا في سن الرابعة عشرة أو دون ذلك، منهم عبد الله بن عمر، وزيد بن ثابت، وأسامة بن زيد، وزيد بن أرقم، والبراء بن عازب، وأبو سعيد الخدري، بلغ عددهم أربعة عشر صبيًا، وقد ثبت أن ابن عمر كان منهم، وأجاز منهم رافع بن خديج لما قيل له: إنه رامٍ,، فبلغ ذلك سمرة بن جندب فذهب إلى زوج أمه مري بن سنان بن ثعلبة عم أبي سعيد الخدري وهو الذي ربى سمرة في حجره يبكي، وقال له: يا أبت أجاز رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رافعًا وردني، وأنا أصرع رافعًا، فرجع زوج أمه هذا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فالتفت النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى رافع وسمرة فقال لهما: «تصارعا» فصرع سمرة رافعًا فأجازه كما أجاز رافعًا، وجعلهما من جنده وعسكر كتائبه، ولكل منهما مجاله واختصاصه.
ونلحظ أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أجاز رافعًا وسمرة لامتياز عسكري امتازا به على أقرانهما، ورد صغار السن خشية ألا يكون لهم صبر على ضرب السيوف، ورمي السهام، وطعن الرماح، فيفروا من المعركة إذا حمي الوطيس، فيحدث فرارهم خلخلة في صفوف المسلمين.
ونلحظ أن المجتمع الإسلامي يضج بالحركة، ويسعى للشهادة شيبًا، وشبابًا، وحتى الصبيان يقبلون على الموت ببسالة، ورغبة في الشهادة، تبعث على الدهشة، دون أن يجبرهم قانون التجنيد، أو تدفع بهم قيادة إلى ميدان القتال، وهذا يدل على أثر المنهج النبوي الكريم في تربية شرائح الأمة المتعددة على حب الآخرة والترفع عن أمور الدنيا.
سادسًا: خطة الرسول - صلى الله عليه وسلم - لمواجهة كفار مكة:
أ- وضع الرسول - صلى الله عليه وسلم - خطة محكمة لمواجهة المشركين من قريش، حيث اختار الموقع المناسب، وانتخب من يصلح للقتال، ورد من لم يكن صالحًا، واختار خمسين منهم للرماية، وشدد الوصية عليهم، وقام بتقسيم الجيش إلى ثلاث كتائب، وأعطى اللواء لأحد أفراد الكتيبة، وهذه الكتائب هي:
1- كتيبة المهاجرين، وأعطى لواءها مصعب بن عمير - رضي الله عنه- .
2- كتيبة الأوس من الأنصار، وأعطى لواءها أسيد بن حضير - رضي الله عنه- .
3- كتيبة الخزرج من الأنصار، وأعطى لواءها الحباب بن المنذر - رضي الله عنه-.
ب- وكان - صلى الله عليه وسلم - من هديه يحرض أصحابه على قتال الأعداء، ويحثهم على التحلي بالصبر في ميادين القتال، لكي تتقوى روحهم المعنوية ويصمدوا عند ملاقاة أعدائهم، ومن ذلك ما فعله يوم أحد، وفي ذلك يقول الواقدي، ثم قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فخطب الناس: «يا أيها الناس، أوصيكم بما أوصاني الله في كتابه من العمل بطاعته، والتناهي عن محارمه، ثم إنكم اليوم بمنزل أجر وذخر لمن ذكر الذي عليه ثم وطن نفسه له على الصبر واليقين والجد والنشاط، فإن جهاد العدو شديد كريه، قليل من يصبر عليه إلا من عزم الله رشده، فإن الله مع من أطاعه وإن الشيطان مع من عصاه، فافتتحوا أعمالكم بالصبر على الجهاد، والتمسوا بذلك ما وعدكم الله، وعليكم بالذي آمركم فإني حريص على رشدكم، فإن الاختلاف والتنازع والتثبيط من أمر العجز والضعف مما لا يحب الله ولا يعطي عليه النصر
ولا الظفر».
ويتضح من هذه الخطبة عدة أهداف منها:
1- الحث على الجد والنشاط في ميدان الجهاد.
2- الحث على الصبر عند قتال الأعداء.
3- بيان مساوئ الاختلاف والتنازع .
إن هذا الهدي المبارك الذي سنه - صلى الله عليه وسلم - يعلمنا حقائق ثابتة وهي أن الجيوش مهما عظم تسليحها وتنظيمها فإن ذلك لا يغني شيئًا إلا إذا حملته نفوس قوية تحرص على الموت أشد من حرصها على الحياة، وهذا يكون بتعبئة الجنود بالموعظة والتوجيه وغرس حب الجهاد والشهادة في نفوسهم.
ج- أدرك الرسول - صلى الله عليه وسلم - أهمية جبل أُحُد لحماية جيش المسلمين، فعندما وصل جيش المسلمين إلى جبل أحد جعل الرسول - صلى الله عليه وسلم - ظهورهم إلى الجبل ووجوههم إلى المدينة، وانتقى خمسين من الرماة تحت إمرة عبد الله بن جبير. ووضعهم فوق جبل عينين المقابل لجبل أحد، وذلك يمنع التفاف جيش المشركين حول جيش المسلمين، وأصدر أوامره إليهم قائلا: «إن رأيتمونا تخطفنا الطير فلا تبرحوا مكانكم هذا، حتى أرسل إليكم، وإن رأيتمونا هزمنا القوم وأوطأناهم فلا تبرحوا حتى أرسل إليكم» .
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للجيش: لا تبرحوا حتى أؤذنكم، وقال: لا يقاتلن أحد حتى آمره بالقتال. وقال لأمير الرماة: «انضح الخيل عنا بالنبل لا يأتونا من خلفنا، واثبت مكانك إن كانت لنا أو علينا»، وقال للرماة: «الزموا مكانكم لا تبرحوا منه، فإذا رأيتمونا نهزمهم حتى ندخل عسكرهم فلا تفارقوا مكانكم، وإن رأيتمونا نُقتل فلا تغيثونا ولا تدفعوا عنا، وارشقوهم بالنبل فإن الخيل لا تقدم على النبل، إنا لن نزال غالبين ما مكثتم مكانكم، اللهم إني أشهدك عليهم».
سيطر المسلمون على المرتفعات وتركوا الوادي لجيش مكة ليواجه أُحدًا وظهره إلى المدينة، وأصبحت مهمة الرماة في النقاط التالية: احتلال الموقع، حماية المسلمين من الخلف، صد الخيل عن المسلمين .
د- تسوية الصفوف وتنظيم الجيش: تقدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه وصفهم على هيئة صفوف الصلاة، وجعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يمشي على رجليه يسوي تلك الصفوف، ويبوئ أصحابه للقتال يقول: تقدم يا فلان، وتأخر يا فلان، فهو يقومهم...، حتى استوت الصفوف. فوضع - صلى الله عليه وسلم - في مقدمة الصفوف الأشداء، لكي يفتحوا الطريق لمن خلفهم، وقد أخذ الرسول - صلى الله عليه وسلم - بهذا الأسلوبº لأنه أبلغ في قتال الأعداء.
هـ- عدم القتال إلا بأمر من القائد: قال الطبري: فجعل ظهره وعسكره إلى أحد، وقال: «لا يقاتلن أحد حتى نأمره بالقتال». وفي هذا التوجيه فائدة مهمة وهي توحيد القيادة والمسئوليةº لأنه - صلى الله عليه وسلم - أدرى بالمصلحة.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد