الرسائل النبوية الشريفة : شرف يتيه على الزمان


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

لا شك أن العهد النبوي، كان ذا نتائج مهمة في تاريخ العالم السياسي والديني والاقتصادي··· نعم، كان قبل الهجرة عهد تمهيد وتجربة، ولا يصح أن يُقال: إن الجماعة الإسلامية في مكة كانت حينذاك دولة من الدول، فإنه لم يكن لها كيان سياسي ولا نظام سياسي، ولا نظام إداري، ولم يتصادف ما يطلق عليه اسم السياسة الخارجية ـ سوى بيعتي العقبة ـ إلا أنهما لم تكتبا في أوراق.

ولما هاجر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة المنورة، وجد هناك قبائل يهودية عدة، فعاهدهم فدخلوا في دولة وفاقية تحت سياسته، وكان أول عمل سياسي حققه بعد الهجرة أن عاهد القبائل التي سكنت بين المدينة وساحل البحر وكانت ديارهم في طريق قريش في رحلتهم الصيفية إلى الشام ومصر قصدها النبي بمعاونة حلفائه من هذه القبائل، كما عاهد قبائل خزاعة وغيرهم ممن سكنوا حول مكة.

ولما حج النبي - صلى الله عليه وسلم - حجة الوداع في آخر العام العاشر للهجرة، خطب خطبته الشهيرة في -

عرفة على جبل الرحمة وبيَّن فيها حقوق المسلمين وفرائضهم الأساسية، فلم يدع شيئاً له أهمية إلا بلَّغه، فبشر الله المسلمين في سورة المائدة في الآية (3) بقوله: (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً.

فكانت هذه الخطبة الرائعة آخر الوثائق المتعلقة بالعهد النبوي.

 

ضياع أكثر الرسائل:

كانت الأمية هي الطابع الغالب على العرب، وفيهم قلة تعرف القراءة والكتابة، ثم إن انقطاع العربي في الصحراء، وسرعة الترحل وتبديل المحلات أبعدته عن الاتصال بالحضارات المجاورة ـ إلا من سكن العراق والشام، لذلك كانت الصلات مع الملوك والحكام المجاورين قليلة، وتتمثل هذه الصلات في الرسائل، رسالة عمرو بن هند إلى عامله بالبحرين، وقد ذكرها تاريخ الأدب العربي لعلاقتها بالشاعر طرفة بن العبد وخاله (المتلمس)، وفي النهاية المؤلمة للشاعر الذي قُتل.

ومن الرسائل القليلة التي وردت في العصر الجاهلي، رسالة النعمان بن المنذر إلى كسرى، ورسالة عبد المطلب بن المطلب بن هاشم إلى أخواله في يثرب، والتحالف بين عبد المطلب وبين خزاعة··· ورسالة عدي بن زيد العبادي إلى أخيه الجارود··· وبذلك لن نجد أثراً (كبيراً) للرسائل في حياة العرب، ولعلها ضاعت عبر السنين وبسبب عوامل الطبيعة··· فقد قيل إن عمر بن الخطاب كانت عنده نسخ من العهود والمواثيق ملء صندوق، وبالرغم من حرصه عليها، فقد احترقت، ولو بقيت لأتى عليها المغول والتتار ومصائب الأيام وعوامل الطبيعة الكبيرة والكثيرة.

ولبعد المسافات وضرورة إيصال الدعوة للبعيد من العرب، بدأت كتابة العهود والرسائل، وتم وضع الأسس المتينة والقواعد الجديدة والمصطلحات الإسلامية، لإرساء العقيدة الجديدة، وهي بداية النثر الفني في الأدب العربي·

وكانت هذه الرسائل مختلفة عن الخطابة والأمثال والحكم لسلاسة عبارتها وجزالة أسلوبها وتركيز معانيها ووضوح أهدافها الإسلامية، وبُعدها عن الصناعة اللفظية.

 

رسائل الرسول - صلى الله عليه وسلم - داخل الجزيرة:

بعد انتشار الإسلام في المدينة، راح محمد يعلِّم الأنصار الدين الإسلامي ولما آمنوا احتاجوا إلى أسس محددة لفهم قواعد النظام الأساسي الجديد، وهنا أرسل إليهم أنظمة عدة، منها أنه حدد الفداء وضرورة مساعدة المحتاج من المسلمين، وافتداء أسراهم، وألا تكون منزلة المسلم مساوية لمنزلة الكافر.

كانت رسائل النبي إلى الأنصار نقلة من الدعوة الشفوية إلى الكتابة لبُعد المسافة، وبقي يعتمد في مكة على الإقناع المباشر الذي يخاف منه الكفار لمعرفتهم بقابلية الرسول الفذة في الإقناع، حتى أنهم كانوا يسدون آذانهم خوفاً من سماعه حتى لا يتأثروا بحديث ويبعدون الناس عن الاقتراب منه والحديث معه.

وبعد هدنة الحديبية وقبل الفتح، قال الرسول: (إن الله بعثني رحمة وكافة)، ومعناه أن تنشر الدعوة إلى العالم كله، وبالفعل أرسل برسالتين إلى صاحب دمشق، وإلى ملك البحرين، كما أرسل النبي - صلى الله عليه وسلم - رسائل عدة التي ردد صداها العالم على سعة فكره ونظرته السليمة في بث الدعوة، وأخذت بعض القبائل تصدق بما تناقلته قريش عن ظهور النبي، وهي بعيدة عنه، كانت رسائله مختصر، مركَّزة عميقة الأثر في النفوس.

 

رسائل أعزها الله:

كتابه إلى هرقل:

أرسله الرسول - صلى الله عليه وسلم - مع دحية الكلبي، وهذا نصه:

(بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد عبد الله ورسوله إلى هرقل عظيم الروم، سلام على من اتبع الهدى· أما بعد: فإني أدعوك بدعاية الإسلام، أسلم تسلم، يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت فإن عليك إثم اليريسيين، (يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون).

 

كتابه إلى كسرى أبرويز:

(بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله إلى كسرى عظيم فارس، سلام على من اتبع الهدى وآمن بالله ورسوله، وشهد أن لا إله إلا الله، وأتى رسول الله إلى الناس كافة لينذر من كان حياً، اسلم تسلم فإن أبيت فعليك إثم المجوس).

 

كتابه إلى النجاشي ملك الحبشة:

(بسم الله الرحمن الرحيم· من محمد رسول الله إلى النجاشي عظيم الحبشة، سلام على من اتبع الهدى، أما بعد، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن، وأشهد أن عيسى ابن مريم روح الله وكلمته ألقاها إلى مريم البتول الطيبة الحصينة فحملت بعيسى من روحه ونفخه كما خلق آدم بيده، وإني أدعوك إلى الله وحده لا شريك له والموالاة على طاعته وأن تتبعني وتؤمن بالذي جاءني، فإني رسول الله، وإني أدعوك وجنودك إلى الله - عز وجل -، وقد بلغت ونصحت فاقبل نصيحتي· والسلام على من اتبع الهدى).

 

رد النجاشي على رسالة النبي - صلى الله عليه وسلم -:

(بسم الله الرحمن الرحيم، إلى محمد رسول الله من النجاشي الأصحم بن أبجر··· سلام عليك يا نبي الله ورحمة الله وبركاته، من الله الذي لا إله إلا هو الذي هداني إلى الإسلام··· أما بعد، فقد بلغني كتابك يا رسول الله فيما ذكرت من أمر عيسى، فورب السماء والأرض أن عيسى ما يزيد على ما ذكرت فروقاً، إنه كما قلت، وقد عرفنا ما بعثت به وقد قرينا ابن عمك وأصحابه فأشهد أنك رسول الله صادقاً مصدقاً، وقد بايعتك وبايعت إليك بابني أرها بن الأصحم بن أبجر، فإني لا أملك إلا نفسي وإن شئت أن آتيك فعلت يا رسول الله، فإني أشهد أن ما تقول حق والسلام عليك يا رسول الله) آل عمران: 46.

 

كتاب النبي إلى المقوقس عظيم القبط:

بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد بن عبد الله ورسوله إلى المقوقس عظيم القبط، سلام على من اتبع الهدى، أما بعد فإني أدعوك بدعاية الإسلام أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت فإن عليك إثم أهل القبط، (يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً، ولا يتخذ بعضنا أرباباً من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون.

 

نص الرد على رسالة النبي:

(باسمك اللهم، من المقوقس إلى محمد، أما بعد، فقد بلغني كتابك وقرأته وفهمت ما فيه، أنت تقول إن الله - تعالى -أرسلك رسولاً (وفضلك تفضيلاً) وأنزل عليك قرآناً مبيناً، فكشفنا يا محمد في علمنا عن خبرك فوجدناك أقرب داع إلى الله وأصدق من تكلم بالصدق ولولا أني ملكت ملكاً (عظيماً) لكنت أول من سار إليك لعلمي أنك خاتم الأنبياء وسيد المرسلين وإمام المتقين، والسلام عليك ورحمة الله وبركاته إلى يوم الدين).

 

كتاب النبي إلى بن ساوي أمير البحرين:

كتب النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى المنذر بن ساوي يدعوه فيها إلى الإسلام، وهذا نص الرسالة.

(أما بعد فإني أذكرك الله - عز وجل - فإنه من ينصح فإنما ينصح لنفسه، وأنه من يطع رسلي ويتبع أمرهم فقد أطاعني، ومن نصح لهم فقد نصح لي، وأن رسلي قد أثنوا عليك خيراً)، وأني قد شفعتك في قومك فاترك للمسلمين ما أسلموه عليه، وعفوت عن أهل الذنوب فاقبل منهم، وإنك مهما تصلح فلن نعزلك عن عملك، ومن أقام على يهوديته أو مجوسيته فعليه الجزية).

 

ورد المنذر بن ساوي على النبي بمكتوب هذا نصه:

(أما بعد يا رسول الله، فإني قرأت كتابك على أهل البحرين فمنهم من أحب الإسلام وأعجبه ودخل فيه، ومنهم من كرهه وبأرضي مجوس ويهود فاحدث أمرك).

كذلك توجد رسائل أخرى من أبي سفيان إلى النبي قبل غزوة الخندق ورد الرسول عليها، ورسائل يمنية في شبه الجزيرة العربية كالحجاز ونجد وأخرى داخل اليمن، فهناك كتاب النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - بين المهاجرين والأنصار، واليهود وهو دستور الدولة بالمدينة المنورة.

وهناك رسائل بين الرسول وفروة بن عمرو الجزامي بالأردن، وبينه وبين صيفي بن عامر، ورفاعة بن زيد الجذامي، وزياد بن جهود اللخمي، وتميم الداري وإخوته حيروم والمرطوم وبيت عينون وبيت إبراهيم، وأهل دومة الجندل وقبيلة كلب، والحارث بن أبي شمر الغساني، وزمل بن عمرو من عذرة، وعامر بن الأسود بن عامر الطائي، وحبيب بن عمرو من بني أجا، وشرحبيل بن عبد كلال، ونعيم عبد كلال، وهناك رسائل لأهل جرش وقبيلة خثعم وبني الحارث أهل نجران وخالد بن الوليد، ونصارى نجران، وعمير ذي مران من حمدان، وجيفر وعبد ابني الجلندي (شيخا عمان)، وخطبة حجة الوداع.

 

خصائص الرسائل النبوية:

كانت رسائل النبي - صلى الله عليه وسلم - اللبنة القوية التي قام عليها الصرح الإسلامي الشامخ، فقد بدأت بمعاهدة المشركين ثم قبول دعوته، وفي رسائله كان يأخذ الأمور بالتدرج بيسر وسهولة، ويدعو إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة والرقة واللين.

بدأ بالتوحيد والدعوة إلى الواحد القهار، ومحاربة الأوثان لأن الوثنية أسوأ أنواع الذل والطغيان، وأراد أن يدفع من سوية البشر ويسير بهم من عبادة الشرك المادية، سواء كانت وثناً أو أميراً أو ملكاً إلى عبادة الديان، ثم أتبعها بالصلاة فالزكاة بعدها الحج، ومن الملاحظ أن هذه الرسائل تمتاز بأمور، منها:

1 ـ لطف العبارة ورقتها وسهولة ألفاظها وسلاسة عبارتها.

2 ـ البعد عن التصنع اللفظي لتكون مفهومة لكل طبقات المجتمع الإسلامي.

3 ـ دخول المصطلحات الإسلامية الجديدة فيها، كالصلاة والزكاة والحج والجهاد والصدقة والمشرك والكافر، والفريضة، والسنَّة، والنافلة، والحسنة، والسيئة، والنفاق، وغيرها من الألفاظ الإسلامية والمصطلحات التي لا يعرفها العرب يمثل ما اصطلح عليه الإسلام ـ وإن كانت عربية.

وقد اتخذ الخلفاء من بعد هذه الرسائل، وبخاصة تلك التي فرض فيها التعاليم الإسلامية أنموذجاً يسيرون في هديه، ويقبسون من فكره الواسع وعقليته الكبيرة.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply