مشاهد من عظمة الرسول - صلى الله عليه وسلم -


  

بسم الله الرحمن الرحيم

من العزائم التي لا مندوحة للمسلم من تحقيقها اتخاذه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قدوته المفضلة في الخلق والأدب والسلوك العملي، لأنه يقرأ في قوله - تعالى -في خطاب المؤمنين: (لَقَد كَانَ لَكُم فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرجُو اللَّهَ وَاليَومَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً) (الأحزاب: 21).

ولا سبيل له إلى هذا إلا أن يقبل على سيرته صلوات الله عليه، يتتبع خطواتها، ويستقرئ مناقبها، فيتخذ منها المثل الأعلى الذي ينفق حياته في محاولة التقرب منه واستحياء معانيه، والاستضاءة بأشعته.

 

والمسلم ما دام آخذاً نفسه بهذا المسلك آمن في سربه، مطمئن إلى مصيره، لأنه واثق من كونه في الطريق الأقوم..والويل للمسلمين يوم يجهلون سيرة نبيهم، ويقطعون وجودهم عن سبيله، فتظرب بهم الدروب، وتجتالهم الشياطين ثم يفقدون امتيازهم السماوي، الذي به كانوا خير أمة أخرجت للناس.

 

إن المسلم الحق، الذي يتقرى سيرة سيد الخلق، لا يستطيع أن يمر بمعالمها دون تفاعل مع موحياتها.. اقرأ معي في تدبر قول الله العظيم لرسوله: (يَا أَيٌّهَا الرَّسُولُ بَلِّغ مَا أُنزِلَ إِلَيكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّم تَفعَل فَمَا بَلَّغتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) (المائدة: 67).

فأنت هنا تلقاء أوامر حاسمة تفرض عليه بأبي هو وأمي وعيني أن ينهض لأداء أمانة الله إلى عباده.. بعزيمة لا يعتريها التردد فيشوقك أن ترى محصول هذه الأوامر في حياته.. لتعلم ماذا صنع، وكيف سلم بهذه المهمة؟.. فإذا أقبلت على سيرته تستنطقها رأيته على أعلى الصفا وحيداً أعزل من كل سلاح وعون ألا ثقته بوعد ربه، ينادي قرشياً ليبلغها دعوة الله، غير هياب ولا مقيم وزناً لكل ما ستواجهه به من بلاء وعناء!...

وتتطور الأحداث حتى تضيق به ويدعونه صدور الصادين، فإذا هم مجتمعون على عمه يرفعون إليه إنذارهم النهائي فأما أن يقنعه بالكف عن تحديه لتقاليدهم، فيتلقى منهم كفاء ذلك ما لا يحلم به قرشي من الثراء والجاه، والسلطان وأما أن يظل على تصميمه فيخلى بينهم وبينه وبذلك يضمنون إسكاته - بزعمهم - إلى الأبد. ويستمع عليه صلوات الله إلى عرض القوم وإنذارهم، ويلمس تخوف عمه من تألب قريش عليه، فلا يزيد على أن يقول: \" والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري، على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك فيه ما تركته \".

ويجمع القوم على حربه ومن ناصره في معركة التجويع والتشريد، فيدخل معهم الشعب، في عزلة تزيد على العامين أكلوا خلالها الوبر والرماد والأشياء المجهولة... ومع ذلك ما كان لينقطع عن ملازمة الحرم المكرم، يعبد الله ويدعو الناس إلى عبادته متحديا قوة قريش كلها بقوة إيمانه التي لا تأبه بكل قوى الأرض.

وتدور الأيام، ويجيء نصر الله الموعود، يفتح الله على نبيه معقل الكفر، الذي طالما أذاه، وعاداه.. وينتظر كل مؤله من هؤلاء الذين جوعوه وعزلوه وعذبوا أصحابه، سيف العدالة ينتزع هامته.. ولكن يأبى لهم إلا ما انطوى عليه من حب لهم ورحمة، فإذا هو يهتف بهم اذهبوا فأنتم الطلقاء.

ونتتبع مسلك هذه النفس المصفاة، بعد نزول أوامر السماء بإعداد القوة الرادعة لدفع البغي وأهله، فنرى أعجب ما يتصوره العقل البشري من خصائص الشجاعة، التي تتجاوز مقدار كل شجاعة..

إننا لنقرأ هنا قول الله لنبيه - صلى الله عليه وسلم - (فَقَاتِل فِي سَبِيلِ اللَّهِ لاَ تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفسَكَ وَحَرِّضِ المُؤمِنِينَ) (النساء: 84) ونتلفت لنبصر آثار هذا الأمر في تصرفاته الحربية فإذا نحن أمام تصميم لا عهد بمثله، لا يعتمد فقط على الإقدام الحارق، بل يدعم ذلك تنظيم كامل الجوانب، لا تفوته صغيرة ولا كبيرة من التخطيط الحقيقي بروائح النصر. حتى إذا اقتضت الحكمة خوض القتال تقدم الصفوف حتى يكون أقرب أصحابه إلى العدو.

ففي أحد تأخذ دهشة النبأ العظيم بوعي المؤمنين فينفضون من حوله، متفرقين في الوهاد والشعاب، لا يعرفون لهم طريقا، ولا يهتدون سبيلا.. ويبقى هو وحوله قلة من خواص صحابته الذين علموا كذب النبأ يقاتل بيده ويحرض على القتال، ولا يفوته أن يبتسم لنسيبه المازنية وهو يراها تتوائب للذود عنه، كاللبؤة التي هوجم أشبالها.. وفي حنين.. تتدفق كمائن العدو على رسول الله وجيشه كجلمود صخر حطه السيل من عل.. فتعمل البغتة عملها في النفوس، فإذا جنوده تتبادر نحو أفواه الوادي، وقد غلبها حب الحياة.. ويظل هو في زمرة صغيرة. من خواصه، يقتحم نحور العدو المنتصر وهو يهتف: أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب وما أن عاود الوعي قلوب أولئك الذاهلين الشاردين، فعادوا للالتفاف حوله حتى فوجئوا بما لم يحتسبوا، إذ وجدوا المعركة في نهايتها، والمهاجمين من أبطال العدو المباغت مقرنين في الأصفاد!...

ولو نحن مضينا نتتبع هذه الخوارق من حياته صلوات الله عليه.. لضاق بنا الزمن ولحفى القلم، وإنما - نجتزىء بنماذج تذكر الغافل، وتسدد العاقل، وتعلم الجاهل.. فيلتقي الجميع على الحقيقة الكبيرة، وهي أن في سيرته صلوات الله وسلامه عليه المنهج الذي لا سداد إلا في ضوئه، ولا عزة إلا في ظله.. ولا عجب إنه الإمام الذي اصطفاه الله فجعله الأسوة الحسنة لكل من ابتغى رضاء، واستمسك بهداه، حتى يرث الله الأرض ومن عليها!

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply