احتفاف العظيم بمظاهر العظمة في أعين ناظريه وتُبَّاعه وسيلة من وسائل نفوذ تعاليمه في نفوسهم، وتلقيهم إرشادَه بالقبول والتسليم، واندفاعِهم بالعمل بما يمليه عليهم.
وإن للعظمة نواحيَ جمةً، ومظاهرَ متفاوتةَ الاتصال بالحق: فمنها العظمة الحقة الثابتة، ومنها المقبولة النافعة، ومنها الزائفة التي إن نفعت حيناً أضرت أزماناً، وإن راجت عند طوائف عُدَّت عند الأكثرين بطلاناً، وفي هاته الأصناف معتاد وغير معتاد، وبينها مراتب كثيرة الأعداد، لا يعزب عن الفطن استخراجُها من خلال أصنافها، والحكمُ الفصلُ في آدابها وأُلاَّفها.
وبمقياس اتسام العظيم بسمات العظمة الحقة، يكون مقياس غُنيته عن مخايل التعاظم الزائفة، كما أنه بمقدار خلوه من تلك السمات الحقة يقترب من الاحتياج إلى شيء من تلك المخايل، كالمصاب بفقر الدم لا يستغني عن زيادة التدثر بدثر الدفاء.
ولَكَثرُ ما تحمَّل العظماءُ مشاقَّ التكلف، لما يثقل عليهم التظاهر بهº مجاراةً لأوهام التٌّبَّاع أولي المدارك البسيطةº حذراً من أن ينظروا إليهم بعين الغضاضة، أو يلاقوهم بمعاملة الفضاضة.
فهم يقتحمون ذلك الثقل، ولسان حالهم يقول: \"مكره أخوك لا بطل\" فلا غرو أن كان المتوسمون منذ القدم تقوم لهم من صفات مجالسِ السَّراة والجماعات دلائلُ منبئةٌ بأحوال أصحاب تلك المجالس كما قال:
ولما أن رأيت بني جُوَين *** جلوساً ليس بينهم جليس
يئست من التي قد جئت أبغي *** إليهم إنني رجل يؤوس
وإننا إذا تتبعنا ما يعد من هيئات المجالس أحوال كمالٍ, حقَّاً أو وهماً نجد منها المتضاد الذي إن اشتمل المجلس على شيء منه لم يشتمل على ضده، مثل الحجاب والإذن، والوقار والهزل، ونجد بعضها غير متضاد بحيث يمكن اجتماعه كوضع الأرائك والطنافس النفيسة مع التزام الوقار والحكمة، وكالفخامة والزركشة مع إقامة الإنصافº فقد كان مجلس سليمان عليه السلام مكسوَّاً بفخامة الملك، وهو مع ذلك منبع لآثار النبوة والحكمة، وكانت مدرسة أفلاطون الحكيم محفوفة بمظاهر الرفاهية والترف وهي مناخ كل أستاذ حكيم.
فأما الأوصافُ المتضادةُ فلا شبهةَ في كون مجالسِ العظماء حقًّا تُنَزَّه عما يضاد الحق منها، وأما غير المتضادة فلا يُعد تجردُ مجلسِ العظيمِ عما هو من هذا الصنف مهمَّاً إلا زيادةً في عظمته، وليس ذلك بلازم في تحقق أصل عظمته الحقة.
تجرى أشكال الدعوة الإلهية على حسب استعداد الأقوامº لتلقي مراد الله منهم، فيسن لهم من الأحوال والهيئات ما هم به أَحرِياء(2)º لنفوذ مراد الله فيهمº فقد يُتسامح لدعاتهم ببعض المظاهر التي لا حظ لها في التأثير الخلقي، أو التشريعي، ولا تحط من اعتبار صاحب الدعوة في أنظار أهل الكمال، وتعين على قبول دعوته بين العموم البسطاءº لموافقتها بساطة إدراكهم، وعدم منافاتِها الحقَّº فإن بني إسرائيل لما فَتَنَتهم مظاهرُ عبدةِ الأصنام وقالوا لموسى: [اجعَل لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهُم آلِهَةٌ] غضب عليهم رسولهم، ووبخهم على ذلك.
ولما بهرتهم مظاهر الملك التي شاهدوها عند الأقوام الذين مروا بهم في تيههم، والذين جاوروا بلادهم وقالوا لنبيهم شمويل: [ابعَث لَنَا مَلِكاً نُقَاتِل فِي سَبِيلِ اللَّهِ] لم ير نبيهم في ذلك بأساًº إذ رآه أعونَ لهم على الدفاع عن جامعتهمº فأقام لهم شاول ملكاً، ثم خلفه من الملوك من كان له وصف النبوة مثل داود وابنه سليمان الذي عظم سلطانه، وفخمت مَظاهرُ ملكه التي ما كانت تُنقِصُ كماله النبوي.
وأظهر حجة على ذلك أن ملكة سبأ ما دانت له حين مجيء كتابه إليها بالدعوة إلى الإيمان بالله، والدخول في طاعة ملكه العادل، فقالت: [إِنَّ المُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَريَةً أَفسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفعَلُونَ].
ثم هي لما وفدت عليه بمدينته، ورأت من عظمة سلطانه ما أبهَتَها ودخلت الصرح الممرد فحسبته لجة هنالك قالت: [رَبِّ إِنِّي ظَلَمتُ نَفسِي وَأَسلَمتُ مَعَ سُلَيمَانَ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ].
وكذلك فرعون موسى كان مما منعه أن يؤمن بموسى أنه لم ير عليه آثار العظمة الزائفةº إذ قال في تعليل كفره به: [فَلَولا أُلقِيَ عَلَيهِ أَساوِرَةٌ مِن ذَهَبٍ,] وهي شعار الملوك في عرفهم.
وفي هذا ما يشرح لنا تلك المجادلة التاريخية العظيمة الجارية بين عظيمين من عظماء أمتنا عمر بن الخطاب ومعاوية بن أبي سفيانº إذ شاهد عمر حين مقدمه الشامَ فخامةَ إمارةِ معاويةَ هنالك فقال له: \"أَكُسرَوَيَّةٌ(3) يا معاوية؟! \".
فقال معاوية: \"إننا بجوار عدو فإذا لم يروا منا مثل هذا هان أمرنا عليهم\".
فقال عمر حينئذ: \"خدعة أريب، أو اجتهاد مصيب لا آمرك ولا أنهاك\".
الآن تهيأ لنا أن نفيض القول في صفة مجلس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومتعلقاته، وهو مبحث جليل لم يسبق للعلماء الباحثين عن السيرة والشمائل النبوية تدوينُه، وتخصيصُه بالبحث والتبويب، واستيعابُ ما يتعلق به.
ومن العجب أن ذكر هذا المجلس الشريف ورد في القرآن، قال الله تعالى: [يَا أَيٌّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُم تَفَسَّحُوا فِي المَجَالِسِ فَافسَحُوا يَفسَحِ اللَّهُ لَكُم وَإِذَا قِيلَ انشُزُوا فَانشُزُوا].
قال جمهور العلماء من السلف ومن بعدهم: المراد بالمجلس في الآية هو مجلس رسول الله، وسأذكر ذلك في المبحث المناسب له.
ثم إني لم أر لأحد من الباحثين في السيرة من ذكر هذا المجلس سوى عياض في كتاب الشفاءº فإنه ذكره بكلمة واحدة في غرض آخرº إذ قال في فصل زيارة القبر الشريف هذه العبارة: \"قال إسحاق بن إبراهيم(4) الفقيه: لم يزل مِن شأن مَن حجَّ المرورُ بالمدينة، والقصد إلى التبرك برؤية مسجد رسول الله، وروضته، ومنبره، وقبره، ومجلسه\" ا هـ.
فكان حقَّاً علينا أن نخصه بمقال أتقصَّى فيه ما تناثر في خلال كتب الحديث والسيرةº فيجيء بحثاً أُنُفاً(5) يبهج من كان بسيرة رسول الله كلفاً.
* صفة مجلس الرسول عليه السلام:
إن رسول الله هو أكمل البشر، وإن أصحابه هم أفضل أصحاب الرسل، وأفضل قوم تقوَّمت بهم جامعةٌ بشريةٌ حسبما بينته في مقال المدينة الفاضلة المنشور في الجزء العاشر من المجلد التاسع من مجلة الهداية الإسلامية، فأراد الله تعالى أن يكون أعظم المصلحين وأفضل المرسلين مقصوراً على التأييد بالدلائل الحقة الباقية على الزمان، وأن يجرد عن وسائل الخِلابة والاسترهابº فتكون دعوتُه أكملَ الدعوات، وعِظَتُه أبلغَ العظات كما كان هو أكمل الدعاة والواعظين، وفي ذلك حكم جمة يحضرني الآن منها خمس:
الحكمة الأولى: أن لا يكون جلالُ قَدرِه في النفوس ونفوذُ أمره في الملأ محتاجاً إلى معونة بوسيلة من الوسائل المكملة للتأثير الذاتي النفساني، بل يكون تأثيره الذاتي كافياً في نفوذ آثاره في قلوب أتباعهº إذ كانت نفسُه الشريفةُ أكملَ نفسٍ, برزت في عالم الوجود الحادث، فتكون أغنى النفوس عن التوسل بغير صفاتها الذاتيةº إذ لا نقص في تأثير نفسه.
من أجل ذلك ادخر الله لرسوله التأييد بأوضح الدلائل، وأغناها عن العوارض التي تصطاد النفوس، وتسترهب العيونº حتى لا يكون شأنه جارياً على الشؤون المألوفة.
ولعل هذا مما يلوح إليه قوله تعالى: [وَقُل الحَقٌّ مِن رَبِّكُم فَمَن شَاءَ فَليُؤمِن وَمَن شَاءَ فَليَكفُر].
أي هذه دعوة الحق المحض الغَنِيَّةُ عن البهرجةِ الزائلة والله أعلمº فيكون هذا من المعجزات الخفية التي هي آيات للمتوسمين على كُرور الأيام والسنين.
الحكمة الثانية: أن يكون الرسول غيرَ مشارك لأحوال أصحاب السيادة الباطلة من الجبابرة والطغاةº حتى لا يكون من دواعي إيمان بعض الفرق به وطاعتهم له ما بهرهم من تلك الزخارف، كحال الذين استكبروا من قوم نوح إذ قالوا: [وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُم أَرَاذِلُنَا بَادِي الرَّأيِ].
وهذا معنى قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: \"خيرت بين أن أكون نبيَّاً عبداً أو نبيَّاً ملكاً فاخترت أن أكون نبيَّاً عبداً \".
الحكمة الثالثة: أن يحصل له مع ذلك أعظمُ جلال في نفوس أعدائه بله أوليائهº فيكون فيه دليل على أن جلاله مستمد من عناية الله تعالى وتأييده.
روى الترمذي أن قيلة بنت خرمة جاءت رسول الله وهو في المسجد قاعداً القرفصاءَ قالت: \"فلما رأيت رسول الله المتخشع في الجلسة أرعدت من الفرق\".
فقولها: المتخشع في الجلسة أَومَأَ إلى أن شأن المتخشع في المعتاد ألا يرهب، وهي قد أَرعَدَت منهº رهبة.
ووصف كعب بن زهير رسول الله حينما دخل عليه المسجد في أصحابه مؤمناً تائباً وكان كعب يومئذ أقرب عهداً بالشرك وأوغل في معرفة مظاهر ملوك العرب وسادتهمº إذ هو الشاعر ابن الشاعرº فإذا هو يقول بين يدي رسول الله يصف مجلسه:
لقد أقوم مقاماً لو أقوم به * أرى وأسمع ما لو يسمع الفيل
لظل يرعد إلا أن يكون iiله * من الرسول بإذن الله iiتنويل
ثم يقول في صفة الرسول:
لَذاك أهيبُ عندي إذ أُكَلِّمُه * وقيل: إنك منسوب ومسؤول
من خادر من ليوث الأسد مسكنه * من بطن عَثَّرَ غِيلٌ دونه غيلُ
الحكمة الرابعة: أن رسول الله بعث بين قوم اعتادوا من سادتهم وكبرائهم أن يكونوا محفوفين بمظاهر الأبهة والفخامة، والرسول سيد الأمة، وقد جاء بإبطال قوانين سادتهم وكبرائهمº فناسب أن يشفع ذلك بتجرده عن عوايد سادتهمº ليريهم أن الكمال والبر ليس في المظاهر المحسوسة، ولكنه في الكمالات النفسية، وأن الكمال كما يحصل بالتخلق والتحلي يحصل بالتجرد والتخلي، ولذلك قال رسول الله: \"أما أنا فآكل كما يأكل العبد، وأجلس كما يجلس العبد\".
الحكمة الخامسة: أن مجلس رسول الله هو مصدر الدين الموسوم ببساطة الفطرةº فكان من المناسب أن تكون هيئةُ ذلك المصدرِ على بساطة الفطرةº ليحصل التماثل بين الحالِّ والمحل، ولتكون أحوال الرسول مظاهرَ كمالٍ, ماثلةً لجميع الأجيال على اختلاف المدارك والأذواقº ليكون التاريخ شاهداً على ما لرسول الله من الكمال الحق، الذي لا تختلف فيه مدارك الخلقº فإن الفخامة وإن كانت تبهر الدهماء فالبساطة تُبهج نفوس الحكماء، وإن بينها وبين ناموس الفطرة أشدَّ انتماء.
-------------------------------------------------------------------
(1) مجلة الهداية الإسلامية، الجزء العاشر، المجلد العاشر ص578597، ربيع الثاني 1357هـ 1938م.
(2) أحرياء جمع حري، بمعنى خليق وجدير.
(3) كسروية: منسوبة إلى كسرى، والمعنى: أهيئة كسروية، أو أإمارة كسروية؟
(4) هو إسحاق بن راهويه.
(5) أُنُفاً:أي جديداً.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد