إن الدعوة لم تنـزل لتكون سرّيةً يخاطب فيها الفرد بعد الآخر، وإنما جاءت نِذارةً للعالمين وبشارةً للخلق أجمعينº لإخراج من شاء الله من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، لقد أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بعد محصور في مكة وقريش تكيد له وتعاديه أنزل عليه قوله تعالى: {وَمَا أَرسَلنَاكَ إِلَّا رَحمَةً لِلعَالَمِينَ}، {إِن هُوَ إِلَّا ذِكرَى لِلعَالَمِينَ} {إِن هُوَ إِلَّا ذِكرٌ لِلعَالَمِينَ} وإذا كان الأمر كذلك فإن الدعوة الإسلامية ليست خاصةً بقريش ولا بالعرب، وإنما هي رحمة من الله لجميع الخلق، فلا بد من الجهر بها، وإعلانها للناس، والسعي لإخراجهم من الظلمات إلى النور، ومن الشقاء إلى السعادة
وهذا يعني بداهةً أن من أبرز خصائص دعوة الإسلام: الإعلان، والصدع، والبلاغ، والنذارة، والبشارة، ويتحمّل أتباعها ما يترتّب على ذلك من الإيذاء والقتل وغيره.
لقد مكث رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث سنوات يدعو إلى الله تعالى سراً ثم أمره الله تعالى أن ينذر عشيرته الأقربين فأنذرهم، ثم أمره بالصدع بالدعوة فصدع بها.
روى البخاري ومسلم عن ابن عباس قال: ((لما نزلت {وأنذر عشيرتك الأقربين} ورهطك منهم المخلصين، خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى صعد الصفا، فهتف يا صباحاه، فقالوا: من هذا. فاجتمعوا إليه، فقال: أرأيتم إن أخبرتكم أن خيلاً تخرج من سفح هذا الجبل أكنتم مصدقي؟ قالوا: ما جرّبنا عليك كذباً. قال: فإني نذير لكم بين يدي عذاب عظيم. قال أبو لهب: تباًّ لك ما جمعتنا إلا لهذا؟ ثم قام. فنـزلت {تَبَّت يَدَا أَبِي لَهَبٍ, وَتَبَّ}(1).
وفي تفسير سورة الشعراء من البخاري: ((قالوا: نعم، ما جربنا عليك إلا صدقا))(2)
وعن أبي هريرة قال: \" فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أنزل الله {وَأَنذِر عَشِيرَتَكَ الأَقرَبِينَ} قال: ((يا معشر قريش ـ أو كلمة نحوها ـ اشتروا أنفسكم، لا أغني عنكم من الله شيئا. يا بني عبد مناف، لا أغني عنكم من الله شيئاً. يا عباس بن عبد المطلب، لا أغني عنك من الله شيئاً. ويا صفية عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا أغني عنك من الله شيئاً. ويا فاطمة بنت محمد صلى الله عليه وسلم، سليني ما شئت من مالي، لا أغني عنك من الله شيئاً))(3)
الدروس والعبر:
1- بداية الأقربين بالدعوة حتى لا يكونوا حجةً للأبعدين، والحجة إذا قامت عليهم تعدت إلى غيرهم، وهم أولى بالبر والخير بالنسبة للداعي من غيرهم لما في ذلك من صلة الرحم.
2- دعوة الأقربين بيان للناس عدم محاباة الرسول صلى الله عليه وسلم في دعوته، وبيان صدق ما جاء به إليهم حيث خصّ بما جاء به أقاربه وأهل بيته قبل غيرهم من الناس.
3- إعلان الرسول صلى الله عليه وسلم المنهج الإسلامي من أول يوم في منازل الناس وأن جزاءهم عند الله ونصيبهم في الإسلام يكون بقدر طاعتهم، فالأنساب والبقاع لا تزكي أحداً. فأبو لهب هو الشخص الوحيد من قريش الذي ذكر باسمه في القرآن في معرض المقت والوعيد فلماذا؟ لقد اجتمع لأبي لهب عدة مزايا، فشهر بجمال الوجه، ورزق الثروة، وكان له الشرف والجاه، كما كانت له القرابة من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلعلّ اختصاصه بذكر الاسم لبيان أن أياًّ من هذه المزايا لا تغني عن صاحبه من مقت الله وعذابه إذا خالف أمره.
4- إذا كان سيد العالمين رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يملك لسيدة نساء أهل الجنة فاطمة رضي الله عنها شيئاً فكيف بغيرها.
5- لا شك أن النتيجة القريبة المباشرة للجهر بالدعوة هي الصدّ والإعراض والتكذيب والإيذاء والسخرية، والرسول صلى الله عليه وسلم قد وطّن نفسه على ذلك كلّه ويعرف تلك النتيجة مسبقاً، ولكن ليست هذه هي كل النتيجة، فما بعدها هو المطلوب والمقصود.
6- إن الجهر بالدعوة ينقلها من مكان مغلق إلى الهواء الطلق والميدان الرحب، وممن سيساهم في نقل الدعوة هم أعداؤها عن طريق التحذير منها، والناس ليسوا كلّهم تقليديّين إمعات يتبعون ما تقوله قريش، وهناك أمثلة من إسلام بعض القبائل بسبب ما سمعوه من سبٍّ, للرسول صلى الله عليه وسلم ودعوته فحمله على الاطلاع على الأمر من قرب فدخلوا فيه.
7- قد تفقد الدعوة في بدايتها وسائل الإعلام المطلوبة للتبليغ ولكن أعداءها قد يقومون بجزء من ذلك نيابةً عنها وذلك بما تثيره على الدعوة من كيد وشبهات.
-----------------------------------------------------
(1) البخاري ح 4971، مسلم 1194.
(2) الفتح 8360.
(3) رواه البخاري ومسلم.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد